الهويات الفرعية القاتلة

د. عبد الله تركماني

د. عبد الله تركماني

 لعل كثيرين يستغربون كيف تستعير صراعات اليوم عناوين الأمس، وكيف تطل قضايا الهويات والأديان والجدليات الثقافية على مسرح السياسة وصراعات المصالح في العصر الراهن. إذ ثمة أصحاب النزعة التطورية - الحتمية المهوسون من عودة مسائل الثقافة والدين إلى مسرح السياسة والصراع، وثمة استغراب آخر يبديه المدافعون عن الفرضية القائلة بأنّ الدين هو العامل المحرك للصراع بين المجتمعات والأمم.

ومن المؤكد أنّ سؤال الهوية ليس سؤالاً عابراً أو سطحياً ولا هو تعبير عن حالة فكرية مصطنعة، بل هو سؤال يلامس العناصر العميقة للوجود التاريخي والاجتماعي للأمم، كونه يلامس منظومات القيم والمبادئ المكوّنة للوجود الحضاري لها. فالهوية هي تلك الحالة من التفرد والخصوصية التي تلامس المستوى القيمي للأمم، أما سؤال الهويات الفرعية فهو يمثل اللحظة التاريخية لانكشاف هذه الخصوصية عن حالة إشكالية مع مكوّنات المحيط، تضع الهوية في حالة من التعارض مع مدخلات ثقافية تعبّر عما هو سائد، لكنه مقابل لما هو راسخ.

وفي الواقع، إنّ الهوية كالثقافة لا شكل ثابتاً مطلقاً لها، فهي تغتني بالإضافات والحوار الثقافي، وكل من يراها غير ذلك ويدافع عن وهم ثباتها يقف، من دون أن يدري، في صف قاتليها الحقيقيين. الهوية الثابتة وهم، أداة من أدوات الأنظمة الاستبدادية للحفاظ على التأخر الحضاري، فما من شيء يحمي الاستبداد مثل تحجّر الأفكار والعقول عند نمط صنعه الفكر الاستبدادي نفسه.

ففي ظل العولمة، لم يعد بالإمكان حماية الهويات الفرعية المنغلقة على ذاتها، القومية والطائفية والمذهبية، من رياح التغيير الثقافية. وبسبب ما يسود حياة كل المجتمعات الإنسانية من تيارات فكرية ومصلحية، متعددة ومتباينة الأهداف، فإنّ ثقافات جماعات كل دول العالم دخلت مرحلة الاغتناء بثقافات إضافية خاصة، دون إلغاء الانتماء الوطني الأساسي.

وهكذا، يكاد سؤال الهوية أن يكون الهاجس الوحيد الثابت في أية مقاربة لسيرورة تحديات مجتمع المعرفة، الذي أدخل العالم في تفاعلات لم يعرفها من قبل، بسبب إسقاطه المستمر لحدود الزمان والمكان. لذلك أصبحت الشعوب والدول والثقافات أكثر حاجة للبحث عن شروط ومواصفات تؤكد اختلافها وتمايزها ووحدتها في آن واحد، بقصد تكوين علاقة واضحة بين الأنا والآخر، وفي مجتمعاتنا العربية من أجل الديمومة الإيجابية للعيش المشترك.

إنّ أشد ما يقلق البعض في القضايا التي تثيرها ثقافة العولمة هو ما لها من آثار على الهوية والخصوصيات الثقافية، وهو قلق له ما يبرره في ظل ما نراه من محاولات قوى الهيمنة الاقتصادية تنميط سلوكيات البشر وثقافتهم في المجتمعات كافة وإخضاعها لنظام قيم وأنماط سلوك سائدة في مجتمعات استهلاكية، إذ يحمل فيض الأفكار والمعلومات والصور والقيم القادمة إلى كثير من المجتمعات إمكانية تفجّر أزمة الهوية، التي أصبحت من المسائل الرئيسية التي تواجه التفكير الإنساني على المستوى العالمي. وفي سياق هذه الأزمة تنبعث العصبيات القبلية والطائفية والمذهبية والقومية الضيقة، وتزداد الرغبة في البحث عن الجذور وحماية الخصوصية.

وهكذا، فإنّ قضية الأصالة والمعاصرة لا يمكن بلورتها أو اختزالها قط في موقف نظري أو إشكالية ذهنية مجردة، وإنما هي توجه عقلاني خاص نحو تفعيل التاريخ والثقافة والأفكار، بمعنى أنه إذا لم يستطع تراثنا العربي – الإسلامي تحقيق الدافعية الحضارية في الشكل الذي يسمح لنا بترجمة الرؤى المطروحة كونياً في أبعادها المختلفة، فلسنا في حاجة ملحة إليه، إذ أنّ التحرك نحو أطياف المستقبل يرتبط أساساً بأدوات المعاصرة التي تبدأ بالتفاعل والتواصل والاندماج والمشاركة، من ثم تنتهي إلى أقصى درجة من سمو الهوية وارتقائها وشموخها وصلاحيتها للتأثير والتأثر في الهويات " القاتلة " التي تتنازع سلطة التفرد والاستحواذ على مقدرات العولمة، تاركة لغيرها أن تنعم بالنكوص إلى الماضي السعيد، تجتر ذكرياته ومآثره وتسبح في أغواره ناسجة حوله الأحلام والأساطير، مشبعة ذاتها بتلك الصوفية التاريخية غير مكترثة بعواصف الحاضر وكوارث المستقبل.

 (*) – نُشرت في صحيفة " القدس العربي " – لندن 30/4/2012.