التنظيم السري !

التنظيم السري !

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

النظم الديكتاتورية الفاشية تقمع شعوبها بالحديد والنار ، ولا تقبل أن تكون هناك إرادة تعارض إرادة حكامها الطغاة البغاة . لذا تتفنن هذه النظم في تشكيل التنظيمات العلنية والسرية التي تضمن وجودها وتدافع عنه في حال سقوطها ، وتملك في كل الأحوال زمام المبادرة المؤذية والفعل المؤلم تجاه من يهددون الوجود الاستبداي الديكتاتوري .

هذه التنظيمات العلنية والسرية تتشكل من ضعاف النفوس والقلوب ، لا يملكون إيمانا بقضية عامة عادلة ، أو منهج خلقي قويم ، كل ما يعنيهم أن يحققوا لأنفسهم أكبر قدر من المكاسب المادية والدنيوية ، دون أن يتذكروا أن هناك حسابا في الدنيا أو الآخرة ، أو أن هناك عيونا ترقب وتسجل وتعد ليوم الحساب القريب أو البعيد .

وقد برعت أنظمة الإنجليز السمر التي احتلت مصر على مدى الأعوام الستين الماضية في تشكيل التنظيمات التي تصادر حرية الإنسان المصري وتهدر كرامته وتنكل به إن لم يستجب لإرادة الطغيان الشيطاني لدى السادة الحكام ..

ويلاحظ أن الأنظمة الثلاثة التي حكمت مصر في العقود الستة أعلت من قيمة البناء البوليسي الفاشي الذي لا يحمي المجتمع بقدر ما يحميها هي ، وصار ضابط البوليس بصفة عامة يمثل بعبعا يخيف المواطن العادي ، ورمزا لسلطة تعلو فوق القانون والأخلاق فضلا عن الدين . ولأن النظم الفاشية للإنجليز السمر فاسدة وظالمة ؛ فقد تكالب على دخول كلية الشرطة أبناء الفاسدين والمفسدين من تجار المخدرات ومستوردي البضائع الفاسدة واللصوص الكبار .. قد يكون الابن طيبا ، وفطرته سليمة ، ولكن فلسفة الأمن في النظام البوليسي تنقل الطيب إلى دائرة الشر والإجرام ، إنها تقول له : كل من يأتي إليك في النقطة والقسم والمركز والمديرية – أيا كان - مجرم ، ويجب أن تتعامل معه بوحشية وازدراء ، وترد علية بالقسوة اللفظية أو العضلية أو أدوات الإهانة والتعذيب المتقدمة ( تستورد أنظمة القمع أحدث أدوات التعذيب في العالم !) . 

وقد تعاظمت أعداد أفراد البوليس الفاشي في مصر على عهد المخلوع حتى صارت أربعة أو خمسة أضعاف عدد الجيش المصري الذي يحرس الحدود ويدافع عنها( بلغت الأعداد في 2010 أكثر من مليون ونصف مليون فرد في الإدارات البوليسية كافة ) .

وقد اهتمت أنظمة الإنجليز السمر بالتركيز على تشكيلات الأمن السياسي التي تغير اسمها من القلم السياسي إلى المباحث العامة ، إلى مباحث أمن الدولة ، إلى الأمن الوطني .. وهذه التشكيلات تحظى برعاية خاصة من جانب النظام المستبد الفاشي يجعل منهجها الأول مخالفة القانون ، ويتم الإغداق المادي والمعنوي على أفرادها مما يجعلهم يشعرون أنهم آلهة أو فوق البشر ، وذلك نظير حمايتها للنظام المستبد الفاشي وخدامه .

في النظام الناصري كان القلم السياسي الذي صار اسمه المباحث العامة ، تؤازره السجون الحربية من أبشع ما عرفت مصر من أجهزة التعذيب حتى الموت ثم دفن الضحايا في صحراء مدينة نصر ، مع كتابة فرّ من السجن  أمام اسم الضحية في السجلات !

وإلى جانب ذلك التنظيم الفاشي القاهر المخيف المرعب ، أنشأ الطاغية ما يسمى بمنظمة الشباب الاشتراكي ، ومنها انبثق ما يسمى بالتنظيم الطليعي، وهو تنظيم عنقودي من خلايا لا يعرف أفرادها إلا الخلية الصغيرة ، أما على مستوى التنظيم العام فلا أحد يعرف أحدا ، وكان التنظيم قائما في مؤسسات الدولة والمصانع والمدارس والجامعات والنوادي والوزارات وبقية المرافق ، وكان أفراد هذا التنظيم يقدمون تقاريرهم عن كل من يعارض النظام ولو بالهمس ، ولو كان الأب والأم ، وقد كتب كثير من أفراد التنظيم تقارير في آبائهم وأقاربهم وأصدقائهم ومعارفهم ليحظوا بالصدق أمام جلادي النظام وطغاته وليحتلوا مناصب رفيعة .

كشف السادات هذا التنظيم ، وحاكم بعض أعضائه ، ولكنه بعد مبادرته المشئومة أطلق يد جلاديه في استعادة مبادرات التنظيم الطليعي من خلال أمن الدولة . فصارت الهمسات تنقل في حينه ، بالإضافة إلى أن مخابرات العدو الصهيوني والولايات المتحدة قد وضعت خطة طريق لاستئصال المعارضة الإسلامية وحرمانها من التعبير عن قيم الإسلام وفق ما عرف في حينه بخطة ميتشيل التي نشرتها مجلة " الدعوة " لسان الإخوان المسلمين ، وقد تمت تصفية منابر الحركة الإسلامية وحرمان أفرادها من الوظائف العامة ، فضلا عن المناصب الحساسة وتضييق الخناق عليهم ، مع صناعة معارضة أطلق عليها الكاتب الصحفي الراحل " مصطفى أمين " المستأنسة ، وكان عديد من أفرادها ينقلون للجلادين ما يجري داخل هذه المعارضة أولا بأول ، وكان يتم تفريقها بوسائل علنية تنبع من داخلها هي ، حيث يشعل البصاصون النار في الأحزاب أو الجماعات المعارضة، فيتم وقف النشاط بالقوانين التي وضعها النظام .

وهو منهج اتبعه النظام المباركي الذي امتد ثلاثين عاما ، فقد اهتم بجهاز أمن الدولة وتوسع فيه إلى حد غير مسبوق ، واستخدم العنف الدموي ضد الجماعات الإسلامية ، واغتال بعض زعمائهم في الشوارع واعتقل عشرات الألوف ، وصار التعذيب الممنهج أساس العمل في أجهزة القمع وخاصة أمن الدولة ، مما صنع ردود فعل عنيفة سالت فيها دماء غزيرة ، وانتهكت أعراض كثيرة ، وصار العنف والعنف المضاد سمة المرحلة التي حكمها مبارك وخاصة في العقدين الأخيرين من القرن العشرين ..

وقد أضيف إلى ذلك تعميق صناعة المعارضة المزيفة التي توالي النظام  سرا ، وتعارضه علنا شريطة أن تهاجم الإسلام والحركة الإسلامية ، ومن ينسى ذلك أو يتجاوزه ، يتم تحريض العملاء السريين داخل الحزب للانقضاض على رئاسته والإعلان عن زعامة جديدة من خلال جمعية عمومية يصنعونها ، ويترتب على ذلك  حل الحزب أو تجميده وإغلاق صحيفته ، وبذا ينفض مولد الحزب وأتباعه !

هذا العمل السري يحكم النظام المستبد الفاشي بدرجات متفاوتة تخف بالنسبة للقضايا التي تمس أمورا بعيدة عن أمن النظام ، ولكنها تشتد عندما ترتبط بشأن الحاكم وأتباعه .. هنا يكون التعامل بمنتهى القسوة والغلظة ، لا كرامة لدم أو حياة أو إنسانية .

بيد أن الأخطر من هذا هو ذلك التنظيم السري الذي يتبع الحاكم مباشرة ، ويتحرك خارج الأنظمة وأجهزتها العلنية والسرية . إن مهمة هذا التنظيم حماية النظام حين يتعرض لغضب شعبي كبير وممتد ، يهدده بالسقوط والرحيل ، أو العمل في حال انهياره لإعادته مرة أخرى بعد إحباط الثورة والقضاء على الخصوم من قيادات المعارضة والشعب .

هذا التنظيم يعمل في صمت كامل ، وتشكيلاته تشبه التنظيم الطليعي الذي صنعه عبد الناصر ، حيث تتغلغل هذه التشكيلات في كل مفاصل الدولة وإن كانت تركز على المجال الإعلامي والثقافي ، بحكم أن الجماهير تتأثر عادة بما يقوله الإعلاميون والمثقفون ، فالصحافة والإذاعة والتلفزة تقدم للعامة صورة شبه مثالية لما يقال ويحدث ؛ فيصدقها الناس ولو كانت مفبركة ، ويري الجمهور أن هذه الوسائط لا يجوز عليها الكذب والتلفيق والاختراع ، وإن كان أهل الخبرة والدراية يعلمون جيدا أن هناك أبواقا تتاجر بالكلمة ، وتعمل من أجل الملايين الحرام ، ولا تبالي في سبيل ذلك بالحق أو الباطل أو الحلال والحرام ، فتزيف وتضلل وتزور دون أن يهتز لها رمش أو جفن ، وإن كان أفضلها يخلط شيئا من الحق بكثير من الباطل !

هذا التنظيم هو الذي يعمل الآن وإن كنا لا نعرفه . نحس به ونستشعره وإن كنا لا نضع أيدينا على جسمه ومفاصله  . إنه قائم في قنوات المال الحرام وفي صحف الضرار وفي الاعتصامات المشتبه بها ، وفي المقالات والكتابات التي لا تعرف الوضوء ، وفي الجرائم التي تحدث على الطريق الدائري والصحراوي للسياسيين والمثقفين ، وفي السرقات التي تجري للسيارات والأموال التي يملكها مواطنون شرفاء ، وفي عمليات القتل الجماعي في بورسعيد والخطف التي تتم بالنسبة للأفراد وخاصة الأطفال ، وفي التخريب المتعمد للمنشآت العلمية والمؤسسات القومية ، وفي تعطيل العمل والإنتاج ، وفي التشهير بالإسلاميين واختراع الأكاذيب ، أو في الحوادث الفردية العابرة وتعميمها على الإسلام والمسلمين ....

التنظيم السري الذي لا نعرفه وإن كنا نصطلي بأفعاله هو الذي يسعى إلى تعطيل عصر الحرية ومنع الممارسة الديمقراطية والردة إلى عصر الفاشية المستبدة والتبعية للعدو الصهيوني والاستعمار الأميركي ..

إنه تنظيم الكسب الحرام والأموال التي تسفح مجانا لتدمير وطن من أجمل الأوطان ، وشعب من أعظم الشعوب ، مع الإصرار على تكبيله بالقيود والأصفاد ..

سأنقل لكم شهادة أديب شيوعي سجلها في صحيفة شيوعية قومية تصدر بأموال الشعب المصري المسلم ، يشرح فيها كيف حاولوا تجنيده في التنظيم السري الذي اسمه الأمن الوطني ، وهو غير الأمن الوطني الذي كان يسمى من قبل بأمن الدولة  وكان يقوم بالقمع والتعذيب والترويع وإفساد الدولة وتقديمها للأعداء على طبق من خيانة وعار !

موعدنا إن شاء الله تعالى في المقال التالي ...