اغتيال حسن البنا.. دروس وعبر

محمد الحسناوي رحمه الله

في الثاني عشر من فبراير عام 1948م، اغتيل الإمام حسن البنا، يرحمه الله في القاهرة، ولم يجاوز الثالثة والأربعين من عمره، أي وهو في قمة نضجه وعطائه، لماذا يقتل رجل يقول ربي الله؟ لماذا يقتل رجل مصلح؟ يقتل بسبب قوله: ربي الله، وبسبب كونه مصلحاً، إنه سنة الابتلاء في الدعوات، دعوات الأنبياء عليهم السلام، ألم يؤسس جماعة شعبية طبقت الآفاق في انتشارها وانتشار تأثيرها؟ ألم تحمي هذه الجماعة السلاح في فلسطين ضد الغاصبين المعتدين من اليهود؟ أليس هذا سبباً كافياً لتتآمر مخابرات الدول العظمى بتوجيه صهيوني أو مصلحة استعمارية لتدبير اغتياله؟

لكن هذا الاغتيال لم يقض على جماعته، ولم يستأصل شعب فلسطين، إن جماعة الإخوان المسلمين تعرضت، ولا تزال تتعرض داخل مصر وخارجها للملاحقة والمضايقات وحتى الاغتيال، ولكنها لم تتوقف عن الامتداد والانتشار حجماً ونوعاً، حين وفاة مؤسسها حسن البنا كانت محصورة في أقطار خمسة: مصر والسودان وسورية والعراق والأردن، واليوم تنتشر تنظيماتها الناشطة الراشدة في عشرات الدول، كما أن فلسطين التي شهدت قيام الكيان الصهيوني وتمدده أكثر من مرة، شهدت أيضاً ظهور المقاومة الإسلامية داخل الأرض المحتلة ووعياً عربياً وإسلامياً شعبياً متنامياً بأهميتها وخطورة ما يجري فيها، حتى ذهب بعض المحللين إلى القول: إن الكيان الصهيوني دخل في مرحلة العد التنازلي إن شاء الله.

هل يجهل الذين خططوا لاغتيال البنا واغتيال جماعته واغتيال شعب فلسطين، أن هذا الاغتيال الظالم لا يمكن أن يقضي على المقصود بالاغتيال ولا سيما القضية العادلة التي يمثلها البنا أو جماعته أو الشعب الفلسطيني، إن الذي يحصل إنما هو عرقلة أو تأخير وصول هذه الجماعة إلى أهدافها، هل هذا مكسب للأعداء؟

حينما استشهد البنا – يرحمه الله تعالى – كان الشهيد سيد قطب في بعثة دراسية في أمريكا، ولم يكن قد انتمى إلى جماعة الإخوان المسلمين، وقد لاحظ السيد قطب مظاهر الفرح والابتهاج بل الشماتة، عند الصحفيين والمراقبين في الصحف الأوروبية والأمريكية، حين نشروا خبر حادثة الاغتيال على الصفحات الأولى وبالخط العريض، وأعلنوا أنهم تخلصوا من أخطر رجل في المشرق عليهم، فكان ذلك سبباً من أسباب انتسابه فيما بعد، إلى هذه الجماعة التي أسسها حسن البنا، يقول سيد في هذا الصدد:

"إن استشهاد البنا عملية جديدة من عمليات البناء، عملية تعميق للأساس وتقوية للجدران، وما كان ألف خطبة وخطبة، ولا ألف رسالة للفقيد الشهيد لتلهب الدعوة في نفوس الإخوان كما ألهبتها قطرات الدم الزكي المهراق، إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع، حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح، وكتبت لها الحياة، وعندما سلط الطغاة الحديد والنار على بناء حسن البنا والعاملين فيه، استطال على الهدم، لأن الحديد والنار لا يمكن أن يهدما فكرة في يوم من الأيام".

وهكذا أيضاً لم يكن إعدام سيد قطب إعداماً لفكره وأدبه وقضيته، بل كان ذلك سبباً من أسباب شهرته وانتشار فكره وأدبه وانتصار قضيته.

قتل الأنبياء والمصلحين صنعة يهودية

هل هناك علاقة بين مكر اليهود لاغتصاب فلسطين والتمكين لهم فيها، وبين اغتيال حسن البنا؟

مما يسترعي الانتباه أمران أحدهما أن نصيب التيار الإسلامي من الاضطهاد واغتيال رموزه وقادته أكبر من نصيب الحركات الأخرى في المنطقة العربية، وثانيهما: أن التيار الأقوى والأبقى في القضية الفلسطينية هو التيار الإسلامي، أما الذي لا خلاف فيه فهو أن اليهود اختصوا في تاريخ البشرية بقتل الأنبياء والصالحين، لذلك تحدث عنهم القرآن الكريم حديثاً عميقاً ومفصلاً، ما لم يتحدث به عن أقوام آخرين.. وهو حديث شامل استعرض الفترتين المكية والمدنية، فأنت لا تكاد تجد سورة تخلو من الحديث عن اليهود.. تحدث القرآن عن أصلهم وتاريخهم، وعن أنبيائهم ورسلهم وقتلهم أنبياء الله، وعن دينهم وشريعتهم، وعن انحرافاتهم ومخالفاتهم، وعن معاصيهم، وعن سوء أخلاقهم وقبح أفعالهم، وعن عداوتهم للذين يأمرون بالقسط من الناس وللمسلمين، وعن حرصهم على إفساد وإغواء المسلمين، وأسلحتهم المختلفة في مواجهة دعاة الخير، وعن مطامعهم، وأهدافهم التي يريدون تحقيقها (انظر مجلة فلسطين المسلمة – حديث القرآن عن اليهود - د. صلاح الخالدي – يناير – 2001م).

وقد تحدث كتاب الله عن قتل اليهود للأنبياء في عشرة مواضع من سورة آل عمران والنساء والبقرة، كقوله تعالى: (إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذابٍ أليم) (آل عمران).

لذلك استحقوا غضب الله وضربه عليهم الذلة والمسكنة والخسران (فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا) (النساء).

المعركة هي إذن مع اليهود، لا مع الأفراد الذين اغتالوا البنا أو نفذوا حكم الإعدام بالشهيد سيد قطب.

لما دخل قادة الانقلاب التركي على السلطان عبد الحميد يطلبون منه التوقيع على "فرمان" الاستقالة، قال السلطان لقائد الوفد العسكري "أنت تركي، ولكن ما علاقة اليهودي "قره صو" بكم حتى يجيء مع الوفد؟!".

وقد سبق لهذا اليهودي أن عرض على السلطان خدماته مقابل السماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين، فرفض السلطان بشدة، وطرده من حضرته وأخيراً اكتشف العرب والأتراك المخلصون دور اليهود الدونمة في إسقاط الخلافة العثمانية، وسبب ذلك فهل نحن بحاجة إلى اكتشاف دور اليهود في اغتيال حسن البنا وسيد قطب واضطهاد الحركات الإسلامية داخل الأرض المحتلة وخارجها؟!

مادامت حقيقة المعركة أنها صراع مع اليهود، فلماذا نشغل بالحروب البينية والمعارك الداخلية؟

لقد أدرك البنا طبيعة المعركة، فخاض تنظيمه الإسلامي حرب فلسطين مع مصر والأردن وسورية والعراق.. وتجنب هو والقيادات الإسلامية من بعده التورط في معارك داخلية مع الأنظمة، لكن القوى الخارجية، كيداً بالتيار الإسلامي وبالأنظمة العربية، تحرض ضد التيار الإسلامي، وتطالب بإقصائه أولاً وباستئصاله ثانياً بحجج لا تخفى على ذي عينين.

إن التيار الإسلامي مدرك لأبعاد المعركة المصيرية مع قتلة الأنبياء والمصلحين، فهل تجهل تلك الأنظمة هذه الأبعاد؟! أياً كان الجواب فإن تلامذة الشهيد البنا مستمسكون بثوابتهم، وبفهمهم الرباني لطبيعة معركتهم، فعلى المخلصين والشرفاء الارتفاع إلى مستوى الصراع والكف عن المعارك الجانبية، التي تستهلك طاقات الأقطار، وطاقات الأمة التي يجب أن توفر وتنمى لمواجهة العدو الأكبر والخطر الأكبر.

رحم الله الأستاذ حسن البنا وأجزل ثوابه.