ما لا يقال في المسألة القبطية

حسام مقلد *

[email protected]

من العبارات الشهيرة لأينشتاين: "أحمق أو مجنون من يفكر بنفس الطريقة في كل مرة ثم ينتظر نتائج مختلفة!!" ومنطقي جدا أن نفس المقدمات ستؤدي إلى نفس النتائج، وهذه هي حالنا تماما في التعامل مع المسألة القبطية في مصر، فكلما وقعت جريمة أو حتى مشكلة عادية ذات صبغة طائفية تفجرت الأحداث وتطورت سريعا، ثم تخرج عن السيطرة وتقع الفتنة، وتتنادى جميع الأطراف من كل حدب وصوب لبحث الواقعة التي استجدت، ويعيد كل طرف إنتاج نفس خطابه وقناعاته التي قالها سابقا بطريقة تتناسب مع الحدث الذي استجد، ومواقف الجميع نمطية جدا ومعلنة ومعروفة مسبقا، ويتم تكرارها بطريقة أوتوماتيكية مملة دون النظر لنبض الشارع المصري الحقيقي المتعلق بالأحداث الطائفية المتعاقبة، ودون حديث علمي منظم ومنصف ومحايد يتناول طبيعة وخصوصية العلاقات المجتمعية بين جموع المصريين مسلمين وأقباط وما إذا كان قد طرأ عليها أية متغيرات سطحية أو عميقة خلال العقود الماضية.

وفي نظرة سريعة يمكننا القول: هناك تماسك وتمازج قوي بين مكونات نسيج المجتمع المصري، وهذا واضح جدا من خلال مجمل الفعل الاجتماعي البشري بين جميع المصريين في كل مجالات الحياة، وفي العادات والتقاليد وأنماط السلوك الاجتماعي والقيم المجتمعية المشتركة، وهذا ما نلمسه بوضوح تام في المدارس والجامعات والمستشفيات والشوارع والمطاعم والمحلات وأماكن العمل المختلفة وفي كل مكان، فالمصريون بالفعل شعب واحد يتصرفون في المناسبات الاجتماعية والمواقف الحياتية المختلفة بشكل متقارب للغاية، ولا يوجد أية فوارق تذكر في هذا المجال، ويؤيد ذلك الحقائق التالية:

تتسم علاقات الجيران المسلمين والأقباط بنفس الحميمية القديمة (أقصد الجيران المتواصلين مع بعضهم البعض بالطبع، فهناك جيران كلهم من المسلمين وغير متواصلين مع بعضهم، وكذلك من الأقباط) بل تزداد وتتعمق الروابط الاجتماعية بينهم بشكل أكبر، وكأنهم يردون بذلك على الأحداث الطائفية وتداعياتها السيئة التي تهيجها وسائل الإعلام المختلفة.  

لا تزال علاقات الزمالة القوية موجودة بين الزملاء المسلمين والأقباط بنفس مستوياتها السابقة، ولم تشبها أية شوائب جادة.

تهيمن الألفة والمودة والتمازج التام على علاقات الشباب المصري مع بعضهم البعض بغض النظر عن كونهم مسلمين أو أقباط، وهذا أمر نلمسه بوضوح شديد  في كل التجمعات الشبابية، وهو ما يبشر بالخير فلا توجد أية صراعات دينية ذات شأن بين الأجيال المصرية الجديدة.

المناخ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي العام في مصر مناخ غير طائفي بتاتا، ولا نشعر بأي نوع من أنواع التمييز بين المصريين بسبب الدين، ولو وجد فحالات نادرة جدا.

الشخصية المصرية متسامحة حقا، وهي في الغالب شخصية مرنة شديدة الاعتزاز بمصريتها بغض النظر عن الدين، فالمصري يعتز بكونه مصريا، ثم يعتز بدينه أيما اعتزاز، وليس ثمة تناقض البتة بين الأمرين، فاعتزاز المصري بمصريته لا يقل مطلقا عن اعتزازه بكونه مسلما أو قبطيا.

الدولة المصرية ليست دولة طائفية تقوم على أساس المحاصصة وفقا للوزن العددي لكل طائفة كـ (لبنان مثلا) بل هي دولة مدنية حديثة، تمثل المواطنة فيها الأساس وليس ديانة الفرد.

ومظاهر تلاحم وتداخل النسيج الاجتماعي المصري أكثر من أن تحصى، وعلى المرء ألا ينظر فقط إلى علاقات الناس في المدن الكبيرة وبالتحديد الأحياء الثرية منها(أو ما يسمى بالأحياء الراقية...!!) فهذه الأحياء تعاني بطبيعة تكوينها من العزلة بين سكانها، وضعف العلاقات الاجتماعية بينهم، بل كثيرا ما نسمع عن هذه الشريحة من أفراد الأسرة الواحدة يشكون من الجفاف العاطفي فيما بينهم، وهذا جزء مفهوم من أمراض المدنية الحديثة، لكن حياة المصريين في الأحياء الشعبية وفي القرى والنجوع شيء آخر تماما، ومن أبرز مظاهر التلاحم والتمازج بين المصريين (مسلمين وأقباط):

التلاحم القوي في الأفراح والمآتم، وتبادل التهاني أو التعازي بشكل تلقائي عميق يتجاوز مجرد المجاملات الاجتماعية، بل يصل الأمر للمشاركة الفعالة جدا، وكأن الشخص أحد أفراد العائلة، حتى لو كان مخالفا لهم في الدين.

التداخل الطبيعي بين الجيران بشكل كبير يعمق الصلات الإنسانية، لدرجة يستحيل معها التفكير في وقوع أي فتن طائفية بينهم لأي سبب من الأسباب، بل يبقى الخلاف محصورا في إطاره الطبيعي كأي خلاف يقع بين اثنين من الأهل والأصدقاء.

حرية ممارسة جميع المصريين لعباداتهم وشعائرهم المختلفة، وتبادلهم التهاني بالاحتفالات والمناسبات الدينية، حرصا من كل طرف على مشاركة إخوانه في الوطن فرحتهم بأعيادهم ومناسبتهم الخاصة واحترام مشاعرهم الدينية دون أي أدنى حساسية.

 

لكن رغم هذه الصورة الإيجابية، ورغم أن حقيقة وحدة المصريين الوطنية أكبر وأرسخ من وهم انقسامهم ونشوب الفتنة الطائفية بينهم ـ لا قدر الله ـ إلا أن هناك عوامل كثيرة هي التي تثير الخلافات وتشحن النفوس من وقت لآخر وتتسبب في اندلاع أعمال عنف خطيرة لا يمكن التعويل في إطفاء نيرانها كل مرة على نضج ووعي وحكمة وسماحة غالبية الشعب المصري؛ إذ يمكن لشرارة واحدة أن تتسبب ـ لا سمح الله ـ في اشتعال حريق هائل تصعب السيطرة عليه، كما أن كثرة الحرائق وتكرارها وتتابعها في المنزل ستؤدي حتما في النهاية إلى انهياره!!

وفي الواقع هناك نقاط كثيرة مسكوت عنها في المسألة القبطية رغم أنها غاية في الحيوية والأهمية؛ لأنها في الحقيقة هي الأسباب الجوهرية المباشرة لحالة الاحتقان الطائفي التي تعاني منها مصر منذ سنوات، وقد يؤدي تفاقمها إلى نشوب فتنة طائفية حقيقية في مصر، ربما تدفع ـ لا قدر الله ـ إلى وقوع حرب أهلية مدمرة تأكل الأخضر واليابس، ولن يقتصر ضررها على مصر وحدها، بل ستشعل بنيرانها المتأججة المنطقة والعالم!!

 

ولكي نتجنب ذلك المصير المرعب لا بد من فتح هذه الجراح لتطهيرها بحكمة وأمانة لتلتئم على نظافة حتى لا تتفجر مجددا لأي سبب من الأسباب، وفيما يلي أستعرض ما أراه وأستشعره فينا، بل نلمسه كلنا، لكننا نخشى أن نتكلم عنه بصراحة حفاظا على توازنات معينة نتوهم أنها هي التي تحمي وطننا العزيز مصر من التصدع والانهيار:

أولا:

هناك إحساس عميق بالظلم لدى قطاعات واسعة من الأقباط، ويدور فيما بينهم كلام كثير يعمق هذا الإحساس ويرسخه يوما بعد يوم، ومن ذلك الإحساس بالتمييز ضدهم في بعض الوظائف والمناصب الإدارية العليا في الدولة، فيتحدثون مثلا عن عدم وجود عمداء كليات ورؤساء جامعات من الأقباط، ويقولون إنهم محجوبون عن تولي مناصب قيادية رفيعة بالجيش والداخلية، بل يزعم بعضهم أن غالبية الأقباط يجبرون على ممارسة المهن والحرف الدنيا في المجتمع، وأنهم مهمشون، ويعيشون في فقر مدقع دون اهتمام يذكر من الدولة المصرية بتحسين أوضاعهم وتوفير الخدمات المناسبة لهم!!

وواضح جدا التحامل الشديد في هذه الاتهامات ومخالفتها لأرض الواقع، فأكثر الأخوة الأقباط أثرياء، وتلتحق أعداد مناسبة منهم بالجيش والداخلية والجامعات والسلك الدبلوماسي ويصلون إلى أعلى الرتب والمناصب القيادية في معظم هذه الأماكن، وتعمل نسبة كبيرة منهم في المهن العليا( طبعا كل المهن شريفة...) كالطب والصيدلة والهندسة والمحاماة  والتدريس، بل يتفوقون على المسلمين في الاقتصاد وامتلاك مؤسسات اقتصادية ذات ربحية عالية، كالصيدليات ومصانع الأدوية، ومحلات بيع الذهب، ومصانع الملابس، ومصانع الأدوات والأجهزة المنزلية وغير ذلك من المجالات، ولا منة عليهم في ذلك فهذا حقهم كحق غبرهم من المصريين، لكن المؤلم والمحزن فعلا أن تكون أوضاع غالبيتهم جيدة على هذا النحو الذي يفوق غالبية المصريين المسلمين، ثم يجأرون بالشكوى والتظلم بشكل جماعي منظم ومكرر وكأن هناك تعمد لإيقاع الظلم بهم!! وطبعا هناك فئات من الأقباط محرومة ومظلومة ومهمشة كغيرها من المصريين المسلمين، لكن هذا يحدث دون قصد؛ إذ لا يوجد منهج منظم في الدولة المصرية يتعمد إلحاق الظلم والأذى بشريحة  من المصريين.

ثانيا:

يدور في بعض أوساط الأخوة الأقباط نغمة سلبية للغاية تشحن نفوس بعض الشباب المغرر به بكل صنوف الكراهية والحقد على مواطنيهم المسلمين، وهناك أشباح وخفافيش تعمل في الظلام ويلقنون بعض الشباب القبطي معلومات مضللة تؤجج مشاعرهم ضد الغزاة العرب المسلمين الذين احتلوا مصر مع الغزو العسكري العربي بقيادة عمرو بن العاص، ويزعمون أنه لم يتوانَ لحظة واحدة عن إيذاء المصريين والاستيلاء على أراضيهم وممتلكاتهم، ويحاولون إقناعهم بأن هذا المنهج والأسلوب في القهر وامتهان الكرامة وسلب الحقوق لا يزال متبعا ضد الأقباط حتى الآن مع أنهم أصل البلد، والعرب المسلمون ضيوف عليهم...!!

وطبعا هذا الكلام المتطرف لا يصدر أبدا عن أناس أسوياء، ولا عن أشخاص عقلاء، فناهيك عن أنه كله افتراءات ومزاعم كاذبة لم تحدث مطلقا في تاريخ الفتح العربي الإسلامي المشرق لمصر، إلا أنه سم قاتل يهيج الخواطر، ويشحن النفوس، ويغرس الأحقاد، ويثير العداوات، وإن كان الخطاب الرسمي للكنيسة القبطية خطابا معتدلا يدحض وينفي كل هذا الكلام الفارغ، إلا أنه ينبغي على الجهات الكنسية المسئولة الوقوف بحزم في وجه هذه المزاعم، ووضع خطة عملية كبيرة ومنظمة لنشر الوعي في صفوف شباب الأقباط وحمايتهم من هذا الغلو والتطرف الذي قد يشجعهم على أعمال العنف ضد المسلمين. 

ثالثا:

على الجانب الآخر هناك من المسلمين بعض الشباب المتطرف يملؤهم أناس قساة القلوب وأعداء للحياة بأفكار عنيفة متشددة بعيدة كل البعد عن رحمة الإسلام وتسامحه، ويرى هؤلاء الرهط من الشباب غلاظ الأكباد أنه يجب التضييق على النصارى وإجبارهم على إظهار الذلة والخنوع ليعرفوا انحراف ديانتهم وفساد ملتهم ويسلموا بأن العزة للإسلام والمسلمين...!!

وهؤلاء المرضى بحاجة ماسة لمن يعالجهم ويقف لهم بالمرصاد ليكف أذاهم عن المسلمين قبل غيرهم، فهم بالفعل أعداء للحياة ودعاة للانغلاق والكآبة والحزن، ولعلهم من أكثر الناس الذين تغيظهم مشاعر البهجة والسعادة، ويشق عليهم أن يروا أحدا من العالمين فرحا مسرورا، وهم أخطر على الإسلام وأهله من أعدى أعدائه؛ إذ إن الحصاد المباشر والوحيد لكل أعمالهم غير المباركة هو الصد عن سبيل الله، وتنفير الناس من الإسلام، بل ودفع الكثيرين من أبنائه لهجره...!!    

رابعا:

هناك من المتطرفين العلمانيين والليبراليين من يتصيدون الأخطاء ويتلقفون هذا الخطأ الفردي أو ذاك الجرم أو الحادثة التي يرتكبها بعض الشباب المسلم المتعصب، ثم يستغلها أسوأ استغلال فيضخمها وينفخ فيها ويقيم بسببها مآتم الحرية والديمقراطية، وينصب سرادقات كبيرة للهجوم على الإسلام والمسلمين، ويصب جام غضبه على الإسلام نفسه ونصوصه المقدسة في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ويعرضها في شيء من السخرية والتشكيك والازدراء!!

ولا شك أن هذا الأمر يضايق معظم المسلمين ويثير عواطفهم وغضبهم وحميتهم وغيرتهم على دينهم، فينقمون على هؤلاء المستهترين، ويتخذون ضدهم بعض المواقف الرافضة لأفكارهم واستهزائهم بالمقدس الإسلامي، وبسبب تكرار هذه الأفعال من هؤلاء العلمانيين المتطرفين تترسخ قناعات كثيرة لدى جماهير المسلمين بأن هناك مؤامرة تدار ضدهم وضد دينهم وعقيدتهم...!!  

خامسا:

تلعب معظم الفضائيات والصحف المصرية الخاصة هذه الأيام دورا مشبوها في تأجيج الأحداث، وتهييج الجماهير من الجانبين، ويُتهم المال الطائفي والسياسي بأنه يقف وراء كثير من أعمال التهييج والإثارة عن طريق شراء ذمم الكثيرين ممن يرتكبون جريمة تضليل الجماهير وإثارتهم ويتولون كبرها وسيبوؤون بإثمها يوم القيامة، وهذا أمر مشاهد واضح وضوح الشمس، وينبغي على الدولة المصرية اتخاذ كافة الإجراءات القانونية المناسبة لحماية الوطن من هذا العبث الذي يرتكب باسم حرية الصحافة وحرية التعبير، ولا يوجد عاقل على وجه الأرض يقول إن حرية الصحافة وحرية التعبير تبيحان تأجيج النفوس وإشعال نيران الحروب الأهلية، وتمزيق المجتمعات، وتدمير الأوطان على هذا النحو الذي نراه، ويكفي فقط متابعة برامج التوك شو لمدة أسبوع واحد في معظم الفضائيات المصرية الخاصة للتأكد من فداحة خطر هذه الفوضى الإعلامية الهدامة التي تشهدها مصر منذ سنوات والتي زادت وتيرتها بعد ثورة 25 يناير!!  

سادسا:

ماذا عن دور العلماء والمشايخ والمفكرين ورجال الدين؟! هل يقف هؤلاء مكتوفي الأيدي؟! هل يكتفون بالفرجة من بعيد؟! وهل يرضى بعضهم أن يكون بوقا لإثارة الفتنة وإشعال الوطن؟! وهل يقبل أن تفلت أعصاب بعضهم وينسى "المحبة" و"التسامح" بل وروح الدين جملة ويتحول إلى داعية للشيطان؟! وما هي القضية التي يجب على هؤلاء جميعا توجيه جهودهم نحوها الآن؟! أهناك أغلى من الوطن؟ أمن أجل مسجد هنا أو كنيسة هناك ندمر الوطن كله؟! وكيف ننصحكم نحن ونقول لكم اتقوا الله واحفظوا بلدكم وصونوا شبابكم وأهلكم من نيران فتنة لا تبقي ولا تذر؟!!

سابعا:

لا يمكن إغفال دور الجهات الخارجية وأصابعها الخفية في إشعال الأحداث من حين لآخر، لكن لا يجب علينا الاكتفاء بذلك، فالشيطان لا يمكن أن يصبح ملاكا، وأعداء مصر والعروبة والإسلام لا يمكنهم مطلقا أن ينقلبوا إلى محبين مخلصين لها، ولن يتخلوا أبدا عن مؤامراتهم، وهذه سنة الحياة، لكن المهم هو ماذا نفعل نحن؟ وكيف نتعامل مع هذه المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية؟ ومهما حدث فلن يؤثر أعداؤنا فينا قدر تأثيرنا بأنفسنا، ومن هنا علينا فعلا تلمس نقاط ضعفنا والعمل على علاجها سريعا قبل فوات الأوان...!!

                

 * كاتب إسلامي مصري