الأقباط واحترام مشاعر شركاء الوطن

حسام مقلد *

[email protected]

هل فكر مشعلو أحداث فتنة ماسبيرو الأخيرة في الآثار السلبية التي ستنجم عن تصرفاتهم الطائفية الغوغائية المرفوضة، وهجومهم غير المبرر على جنود وضباط من الجيش المصري؟! فرق كبير بين حرية التظاهر السلمي وحرية التعبير عن الرأي والمطالبة بالحقوق المشروعة وبين العدوان على الدولة وإسقاط هيبتها، والتجرؤ على إطلاق النار والرصاص الحي على أهم مؤسساتها أيا كانت الأسباب والمبررات والدوافع؟! وإن لم يكن ذلك العدوان الصريح المباشر على الجيش عدوانا على الدولة، وإحراقا للوطن، وإشعالا لنيران الفتنة الطائفية بين أبنائه فبماذا نصفه؟!! وإذا لم نهتم بمشاعر بعضنا البعض ونحرص على تطييب خواطرنا، ونحافظ على وطننا جميعا فماذا ننتظر...؟!!

إن الشعب المصري مسلمين ومسيحيين شعب متدين، نعم!! لكنه بطبعه شعب متسامح معتدل يمقت التطرف ويكره التعصب، ويميل إلى الوسطية في كل شيء تقريبا إلا في العواطف، فهو شعب عاطفي بامتياز، يمكنك أن تأسر وجدانه ومشاعره بصنائع المعروف، وتمتلك قلبه بالكلمة الطيبة، والإنسان المصري إذا أحب أحدا وثق به وقربه منه، وأخلص له الود، وعامله كأخ له، ومنحه كل ما يريد دون أن يمن عليه، ولا يُسمعه كلمة واحدة تجرح مشاعره، بل يُشعره أنه المتفضل عليه، وإذا استنصحه أحد محضه النصح الخالص، وإذا استقام له صاحبه استقام هو له على أفضل ما يكون، وحافظ على بره وصلته، وظل وفيا له طوال العمر، لكن إن غدر به أحد كرهه ولم يحبه الدهر كله!!

ومن أراد أن يتعرف أكثر على حقيقة التلاحم بين جميع أبناء الشعب المصري فلينزل إليه في الشوارع والحواري والمقاهي والنوادي، ولو سار أي شخص في أي شارع من شوارع مصر فسينبهر بنموذج فريد من التسامح الديني بين المسلمين والمسيحيين لدرجة الانصهار التام الذي محا معه كل الفوارق، فعلى سبيل المثال إذا دخلت مطعما تجده مكتظا بالزبائن من كل الأعمار، ومن الرجال والنساء، المسلمين والمسيحيين، الكل وحدة واحدة لا يفرق بينهم شيء، فهذا مسلم يجلس بجوار المسيحي، ولا يتساءل أحد من المسلم ومن المسيحي؟! ونفس هذا المشهد المتسامح الذي ينصهر فيه المصريون جميعا تجده في المستشفيات، والمدارس والجامعات والنوادي وفي كل مكان...، وأما نقطة الدين فهي على عظم أهميتها للإنسان المصري إلا أنها لا تشكل أي حاجز نفسي على الإطلاق بين المصريين وتعاملاتهم في الحياة اليومية، فرغم اختلاف العقائد والطقوس والعبادات إلا أن المصري يحب أخيه المصري ويحترمه، ويحافظ على مشاعره الدينية، ويحرص على ألا يجرحه بكلمة واحدة، وقد استمر المصريون بهذه الأخلاق الرفيعة على مدى قرون طويلة من الزمن، ولم نسمع عن الفتن الطائفية إلا في السنوات الأخيرة، ولم نلمس ذلك في حياتنا اليومية ولله الحمد، فلا زلنا نعيش معا في حب وود وصفاء، ونتشارك معا العيش والذكريات الجميلة في كل مناحي الحياة دون أي إحساس بأدنى تغيير في أي شيء، لكن الحوادث المفتعلة الأخيرة، وموقف وسائل الإعلام غير المنصف منها بدأت تترك أثرا سلبيا في النفوس، ليس في نفوس الأقلية المسيحية وحدها بل في نفوس الأغلبية المسلمة أيضا!!

إن المصري المسلم لا يرضى أبدا بالإساءة إلى الأقباط بأي صورة من الصور، ولا يوافق أبدا على هدم كنيسة، أو الاعتداء على أية ممتلكات لأخوته المصريين الأقباط، وإذا وقعت أية حادثة فردية من هذا القبيل هنا أو هناك يكون المسلمون المصريون أول الرافضين لها، وقلوب جميع المصريين المسلمين مليئة بكل مشاعر الحب والتسامح تجاه الأخوة الأقباط، ويعلم الله تعالى أن المصري المسلم لا يكن في قلبه أي ذرة حقد عليهم، ويرفض أي شكل من أشكال التعصب ضدهم،  لكن ما الذي حدث في قرية المريناب ليتم تهييج شباب الأقباط على هذا النحو المتطرف الآثم الذي رأيناه في ماسبيرو؟! وأيا كان الخطأ الذي وقع فيه المحافظ أو غيره فما ذنب الغالبية المسلمة لتوصف بالظلم والعدوان وتهان مشاعرها بهذا الشكل المؤسف؟! وهل ما حدث في قرية المريناب يبرر الاعتداء على الجيش المصري وإطلاق الرصاص على ضباطه وجنوده، وسحل بعضهم بهذا الشكل المهين المؤلم وبكل هذا العنف والقسوة؟!

لقد شاهد الجميع ما جرى في ماسبيرو وكيف بدأ العنف أولا بإلقاء الحجارة على الجنود، ثم إطلاق بعض المتظاهرين الأقباط نيران أسلحتهم على الجنود المسالمين الذين كانوا واقفين لحمايتهم!! ورأينا جميعا كيف أحرق بعض شباب الأقباط عددا من العربات والمركبات العسكرية الموجودة في الشوارع بجوار منطقة الأحداث، وعندما حاول بعض الجنود إنقاذ هذه العربات من الاحتراق وأرادوا الذهاب بها بعيدا زعم الكاذبون أنها كانت تدهس المواطنين، وصُورُ الأحداث التي عرضتها جميع القنوات الفضائية ـ والموجودة على الإنترنت ـ تفضح كل هذه الادعاءات الكاذبة، وتبين براءة جيش مصر الباسل من هذه الافتراءات الرخيصة!!

كما شاهدنا مجموعة أخرى من هؤلاء المتطرفين الأقباط يهجمون على سيارة عسكرية بها جندي، وعندما هموا بإحراقها وهو داخلها خرج منها لإنقاذ نفسه من النار، فانهالوا عليه ضربا مبرحا حتى خر صريعا فاقدا للوعي!! وكأنه جندي في جيش احتلال وليس جنديا وطنيا له كامل التقدير والاحترام؛ لأننا ننام في بيوتنا آمنين مطمئنين على أنفسنا وأهلينا وأولادنا بفضل حماية هذا الجندي لنا هو وأمثاله، فلِمَ يهان ويضرب بهذا الشكل المروع؟! والصور موجودة والجنود الضحايا في هذه الأحداث موجودون في المستشفيات ومعروفون بالاسم لمن يريد التأكد، فلِمَ فعل ذلك متطرفو الأقباط ؟! وما جريمة هذا الجندي وزملائه ليضربهم هؤلاء المتطرفون بكل هذه الوحشية؟! وماذا حدث أساسا كي يطلق هؤلاء المتطرفون النار على جنود الجيش المسالمين بهذا الشكل المروع الذي ينم عن حقد دفين في القلوب؟! ومن غرس فيهم هذا الحقد الأعمى وأجج مشاعر غضبهم على هذا النحو المريب المفتعل؟!

وأغرب ما في الأمر أن (قداسة...) الأنبا شنودة قال في تعليقه على الأحداث: إن بعض المندسين اندسوا بين الأقباط، وهم من أطلق الرصاص الحي على الجيش، وهذا الكلام غير مقنع تماما، فلو كان بين الأقباط بعض العناصر المندسة فلِمَ لمْ يقبض عليها المتظاهرون الشرفاء ويسلمونها للجيش؟! وهل سمعنا في أي مكان في الدنيا عن مظاهرات سلمية تستخدم الرشاشات في ضرب الجنود المكلفين بحمايتها؟! هل هذه هي الحرية والديمقراطية التي نسعى إليها؟!

ورغم كل ما حدث فهذا اللغط والجدل مفهوم ويقع مثله في كل دول العالم، لكن ما تلا ذلك في جميع الفضائيات المصرية الخاصة من تغطية غريبة ومنحازة للأقباط هو ما غرس خنجرا مسموما في قلوب المصريين جميعا، فبِمَ نفسر تصوير المسلمين المصريين وكأنهم وحوش كاسرة لا ترحم، فهم يضطهدون الأقباط ويمنعونهم من بناء الكنائس، ويعتدون عليهم بالضرب، ويقيمون عليهم الحدود (كحد قطع الأذن المزعوم...!!) ليس هذا وحسب، بل امتدت الافتراءات للجيش المصري ذاته وزعموا أنه أراد منعهم من التظاهر وضربهم بالرصاص الحي!! ولم يكتفِ مذيعو ومذيعات هذه الفضائيات المشبوهة بقلب الحقائق وتزييف الوقائع التي حدثت بل وكما يقول المثل العامي: (أقاموا جنازة وشبعوا فيها لطم) ولم تقصر المذيعات في حبك الدور فلبسن الثياب السوداء (ملابس الحداد) تعبيرا عن حزنهن العارم على ضحايا الأقباط (ويعلم الله تعالى أننا نحن أيضا حزنا من أجلهم، والألم يعتصر قلوبنا جميعا حزنا عليهم، فهم شباب طيب مسكين غرر به الماكرون، وخالص تعازينا ومواساتنا الصادقة لأهاليهم، وقلوبنا مع آبائهم وأمهاتهم على وجه الخصوص سائلين الله تعالى أن يلهمهم الصبر والسلوان) لكن المريب والمقلق والمحزن حقا هو افتقاد هذه الفضائيات المغرضة للإنصاف والموضوعية، ونسيت تماما مصلحة الوطن كله، واستخدمت لهجة سلبية للغاية تصب في غير صالح المصريين جميعا!!

لقد صورت معظم الفضائيات المصرية الخاصة الوضع وكأنه مذبحة قام بها الجيش ضد الأقباط، واستعملت كل وسائل التأثير النفسي والإقناع العقلي للدفاع عن استخدام بعض شباب الأقباط للسلاح والذخيرة الحية ضد الجيش، وراحت تبرر هذا الموقف المتطرف والتصعيد المتعمد من قبل المتظاهرين الأقباط، ومعظم كلامها كان عن الدماء القبطية التي سالت، ولم تتحدث عن الضحايا من جنود الجيش ودمائهم التي أهريقت دون ذنب أو جريرة (ثلاثة قتلى ونحو تسعين جريحا بعضهم إصابته حرجة) وكأن هؤلاء بلا أهل، وكأن آباءهم وأمهاتهم بلا قلوب أو مشاعر!! ولا ندري سر هذا التجاهل لضحايا الجيش الأبرار رغم أنهم استشهدوا أو سقطوا جرحى وهم يقومون بتأدية الخدمة العسكرية وهذا أشرف واجب وطني يؤديه شاب تجاه وطنه، وبالله كيف نفهم قول أحد متطرفي أقباط المهجر(...): إن الجيش المصري يقف ضد جهة واحدة هي الأقباط؟! وبِمَ نفسر ادعاء أحد الأقباط الطائفيين (...) أمام معظم الفضائيات بأن مدرعات الجيش المصري تعمدت سحق الأقباط في الشوارع، وقد تلقف مذيع قناة (البي بي سي) العربية منه هذه العبارة وأخذ يعيدها مرارا وتكرارا لرسم صورة معينة للأحداث؟!

بصراحة لقد تسببت أحداث ماسبيرو، وما تلاها من تصريحات رجال الدين المسيحي، وما رافقها من تغطية جائرة وطائفية بامتياز لمعظم الفضائيات المصرية الخاصة، وما واكب ذلك من مداخلات غير منصفة لمفكرين وكتاب وصحفيين ومحللين وباحثين وأصحاب رأي عن الأحداث المؤسفة ـ كل ذلك أحدث شرخا نفسيا عميقا في نفوس ومشاعر المسلمين، وهم شركاء الوطن الذين يحبون أخوانهم الأقباط، ويتعاملون معهم بمودة وتلقائية، وأخشى ما نخشاه ألا تندمل هذه الجراح سريعا وتبقى غائرة في النفوس، فتتغير مع الوقت مشاعرها النبيلة!!

                

 * كاتب إسلامي مصري