امتحان الحرّيّة

صلاح حميدة

[email protected]

انقسم العرب منذ نهاية الاستعمار المباشر لبلدانهم إلى ما عرف بالملكيّات والجمهوريّات، وتقلّصت الملكيّات وزادت الجمهوريّات عبر ما عرف حينها بالانقلابات العسكريّة، وكان مبرر الانقلابات من الملكيات للجمهوريات هو تواطؤ تلك الملكيّات مع الاستعمار الأجنبي وتقاعسها عن تحرير فلسطين والدّفاع عن قضيّتها، واتخذت تلك الجمهوريّات أيديولوجية إشتراكيّة ثوريّة مقتربةّ من العالم الشيوعي الشّرقي، فيما كانت الملكيّات تحسب على المعسكر الأمريكي الغربي.

عاشت الجماهير العربيّة تحت حكم إستبدادي ملكي تقليدي، بينما قالت الجمهوريّات أنّها ستحقّق العدالة الإجتماعية وتكافؤ الفرص والتّوزيع العادل للثّروة، بل ادّعت بأنّها ستكون في حكمها وسياساتها منفّذةً لمطالب وآمال الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج، بقيت الملكيّات على استبدادها - مع فتحة محدودة للتّنفيس- وبنت الجمهوريّات نظاماً إستبداديّاً فاسداً، نظام وصل إلى مرحلة لم ينفّذ فيها أي من الأهداف التي وضعها، ولم يستطع تحرير فلسطين، وغرق في عقد صفقات مع الغرب فيما عرف فيما بعد بالحرب العالميّة على الإرهاب، فقد وجدت تلك الأنظمة ضالّتها في الفتك بأعدائها السّياسيين والأيديولوجيين عبر وصمهم بما أصبح يعرف بالإرهاب، وانتقلت إلى أحضان الغرب الرّأسمالي مع إبقاء بعض الشّعارات والممارسات الشّكليّة للمساومة والمناكفة وللحفاظ على شرعية الحكم، بعد أن أصبحت أنظمة هجين يمكن تسميتها ب ( الجمهوريّات الملكيّة).

الكمّ الكبير من الاستبداد والفساد والتناقض الفكري والعملي، وحكم الفرد المتأله، وفساد العائلة الحاكمة وحاشيتها، وغرق العرب في أزمات كادت أن تعصف بهم كأمّة، كل هذا نزع عن الشعوب العربية رداء الخوف، ونزع عن تلك الأنظمة - الملكيّة والجمهوريّة- شرعيّتها المصطنعة، وخرج الملايين من العرب طالبين حرّيتهم، ودفعوا - ولا زالوا يدفعون- ثمن الحريّة المفقودة والمطلوبة، وتتم هذه العمليّة بحركة نضالية تراكميّة متواصلة في كل الدّول، وإن كانت بدرجات متفاوتة من بلد إلى آخر، وما يميّز تلك الحركات الشّعبية هو وعيها لكل الحيل والألاعيب التي تبرع بها الأنظمة الإستبداديّة الفاسدة، كما كشفت تلك الثّورات عن تضحيات هائلة تقدّمها الشّعوب في سبيل نيل الحريّة، فمن يرضع حليب الحرّيّة لا يمكن أن يتراجع عن نيلها أبداُ، فكيف إن كانت رضاعة حليب الحرّيّة تتم بصورة جماعيّة واسعة؟.

بداية بزوغ فجر الحرّيّة على العالم العربي كشف صدق غالبيّة طالبيه، وكشف كذلك زيف غيرهم، فقد كشف عن الكثير من الحقائق حول  تصرّفات المطالبين بها، وبيّن أنّهم ليسوا كلّهم سواء، بل كشف عن سمات أعدائها والرّافضين لها، فللحريّة مكتسبات وأثمان يجب دفعها في نفس الوقت، والحرّية ليست كلّها مكاسب تتحقّق لفرد أو مجموعة معيّنة فقط، وللحريّة قوانين وقواعد مشتركة ومتّفق عليها من الأغلبية في المجتمعات التي تخرج من تحت عباءة الإستبداد، وبالتّالي تمّ الكشف عن أصناف مختلفة من النّاس.

بعض النّاس يريد الحرّية ومستعدٌ لدفع ثمنها مهما كان، وفي نفس الوقت يريد حرّيّة ينعم بها الشّعب بكل أطيافه، وهؤلاء هم الغالبيّة العظمى من الّذين خرجوا حاملين أرواحهم على أكفّهم في مواجهة آلة القمع الرّسميّة، ويرون أنّ الوطن يتّسع لهم ولغيرهم، يريدون وطناً مزدهراً حرّاً لا يتحكّم في رقاب مواطنيه فاسد مستبد، وطن يحاسب فيه الشّعب حاكمه ويزجره ويردعه ويخلعه، إن لزم الأمر، ولذلك نلاحظ حرص الجماهير على تحطيم التماثيل وتمزيق صور الحكّام المتألّهين، وهي حالة ترمز إلى تحطيم الأصنام على أرض الواقع، لتتحطّم في عقول وقلوب العامّة الّذين أشربوها عبر عقود من الزّمن المظلم.

صنف آخر من النّاس يقف ضد الحرّية، ولا يريدها ولا يريد دفع ثمنها، صنف إقصائي لا يعبد إلا الزّعيم المتألّه، صنف يقاتل حتى الرّمق الأخير دفاعاً عن الإستبداد والفساد، أملاً في مطمع مادّي أو سياسي أو طائفي أو حزبي أو مناطقي، وينقسم هؤلاء إلى صنفين: صنف يقاتل ضد الحرّيّة  عن حميّة وجهل وغباء، وصنف يقاتل وهو يعلم ويدري ما يقوم به، يقدّم الطّائفيّة والمناطقيّة والعرقيّة العنصريّة والعمالة لأطراف إقليميّة ودوليّة على الحرّية الحقيقيّة التي تتّسع له وللجميع. هذا الصنف من النّاس لا يرى إلا مشروعه وعالمه الخاص، وعالمه هذا لا يتّسع للآخرين بالمطلق، فهم خونة ومتآمرون ومندسّون وغوغاء ومضحوك عليهم ومستغلّين، ولذلك فالحل  - من وجهة نظره- يكمن بتصفيتهم والقضاء عليهم واحتواء حراكهم وتضحياتهم وتفريغها من مضمونها، والمأساة هنا تكمن في كون الجريمة ترتكب على يد وألسنة هؤلاء خدمة للمستبد القاتل، ولكن إذا كان المرء يجد تبريراً للجاهل الغبيّ في جريمته بحق المطالبين بالحرّيّة، فما بال من يفعل ذلك عن علم ودراية وتصميم؟.

أمّا الصّنف الثالث، فهو الصّنف الّذي ذاق طعم الحرّية، وقاتل من أجل نيلها، وبدا أنّه سيكون شريكا في صنع المستقبل، ولكن هؤلاء ارتدّوا عن ما خرجوا من أجله، وكفروا بفكرة الحرّيّة بعد أن آمنوا بها وقاتلوا من أجل تحقيقها على الأرض، وفعل هؤلاء مثل ما قام به العبيد المحرّرين الّذين عادوا للعبوديّة في أمريكا رافضين حياة الحرّيّة، والسّبب يعود لكون هؤلاء رأوا أنّ للحرّيّة أثمان لا يريدون دفعها، وبالرّغم من أنّهم كانوا يقولون بأنّهم أهلها وبناة بيتها والمبشّرين بها، وهم من نظّر لها طوال الفترة السّابقة، ولكن هؤلاء اكتشفوا أنّهم أقلّيّة نخبوية لا يوجد لها امتداد شعبي، وأنّ حظوظهم في صنع السّياسة في ظل  مجتمع حر محدودة، فانقلب هؤلاء على الحرّيّة، وبدأوا بالدّعوة للحكم الاستبدادي، وبدأوا يطعنون الثّورات في ظهرها وفي صدرها، بل صاروا يتّهمون الشّعوب والقائمين على الحراك الجماهيري بالعمالة لكل شيء، من أمريكا لإسرائيل إلى إيران إلى تركيا.....الخ، ويقوم هؤلاء بجهود محمومة لمنع الانتخابات العامّة خوفاً من فوز منافسيهم فيها، ويحرّضون الغرب الاستعماري على التآمر ومنع الانتخابات، ويفعلون كل ما باستطاعتهم لتعيين مستبد مكان المستبد الذّاهب إلى مصيره، ويتآمر هؤلاء مع كل القوى الظّلامية التقليدية العربية والأجنبيّة، الدّوليّة والإقليميّة لتشويه الثّورة وتلويث عفافها، بل بدأ بعضهم بحملة إقصاء بحق منافسيه السّياسيين قبل أن تستتب له الأمور وقبل أن تضع الثّورة والحرب أوزارها، كما يقوم بعض هؤلاء بمناصرة بعض المستبدّين على شعوبهم، والغريب أنّ هؤلاء اتّحدوا مع أعداء الحرّية في أمريكا وأوروبّا والإقليم الطّائفي والحكم الإستبدادي، في حلف غريب يضمّ فرقاء الأمس المتّحدين على هدف واحد وهو قتل الحرّيّة والحراك الشّعبي العربي المطالب بها.

بالرّغم من كثرة المتآمرين والمحاربين لحرّيّة الشّعوب العربيّة، إلا أنّ الكثرة الغالبة من تلك الشّعوب تريد حرّية لها أثمان - حاليّة ومستقبليّة- وستنول الشّعوب حرّيتها، وستنتزع كرامتها، وبالرّغم من كل المؤآمرات ستصل الشّعوب إلى برّ الأمان، وستشرق شمس الحرّيّة.