هذا ما جناه إعلامنا علينا

حسام مقلد *

[email protected]

سألني صديق سعودي عن أوضاع مصر، وكان هذا الرجل معتادا هو وعائلته على الحضور إلى مصر كل صيف للاستمتاع بالإجازة الصيفية في أشهر مصايفها ومدنها السياحية، وهو عاشق لمصر من الطراز الأول، وتمثل له مرتع الشباب وموطن الذكريات الجميلة التي لا تفارق خياله ويشعر تجاهها بحنين دائم، لكن هذا العام تردد في المجيء إليها  وأحس بشيء من القلق والخوف على أسرته بسبب ما يسمعه ويقرؤه ويراه في وسائل الإعلام المصرية وخاصة برامج التوك شو التي تمطر المشاهدين بوابل من الأخبار السيئة كل ليلة، وترسم صورة سوداوية كئيبة لمصر وشعبها حتى بعد نجاح ثورتها في خلع الرئيس السابق ونظامه.

وفي الحقيقة حاولت تشجيع الرجل ومن فرط حماستي وتحفيزي له على المجيء لمصر والاستمتاع بإجازته فيها كالعادة ظن أنني أبالغ وأن مشاعري الوطنية تغلبت عليَّ وجعلتني لا أرى الصورة على حقيقتها، ولكن الرجل لشدة حبه لمصر وتعلقه بها وبأهلها غلبه حنينه إليها فقرر المجيء بمفرده في البداية على أن يلحق بأول طائرة عائدة إلى الرياض في حال أحس بأي خطر، وما كاد الرجل يطأ بقدميه أرض مطار القاهرة حتى نسي كل مخاوفه وهواجسه تماما، وأخبرني أنه انطلق يهرول كالطفل الفرح بعودته إلى أحضان أمه، وكانت قدماه تعرفان أين يذهب فما هي إلا مدة يسيرة وكان يطل على منظر النيل الساحر من شرفة غرفته في فندقه المفضل الذي اعتاد النزول فيه منذ زمن بعيد، ولم يصبر كي يرتاح قليلا من عناء السفر؛ إذ كان هناك دافع غريزي يلح عليه بالنزول والذهاب إلى ميدان التحرير، وكأن هناك مغناطيسا عملاقا في هذا الميدان يجذب الناس إليه من كل حدب وصوب، فيكون أول مكان يحبون رؤيته بعد خروجهم من المطار مباشرة، وكما كان يفعل دائما نزل الرجل من الفندق ومشي في الشارع مستمتعا برؤية وجوه المصريين الممتلئة كما يقول بالطيبة والسماحة والعراقة، وأحس بروح جديدة في كل من تعامل معهم، روح لم يعهد فيهم مثلها من قبل، وقد وصفها لي بأنها مزيج غامض من مشاعر الفرح والابتهاج والاعتزاز والفخر والزهو والخوف والحذر والترقب والتوجس مع مسحة من الحزن العميق المنساب في أبعد أغوار الوجدان البشري بسبب شعور دفين بمرارة خداع النظام له طوال هذه السنوات الطويلة!!

وبعد أربعة أيام فقط وجدت الرجل يتصل بي ليخبرني بأن بقية أفراد أسرته لحقت به في مصر لقضاء إجازتهم الصيفية بها كالمعتاد فهو يشعر بنفس مشاعر الأمن والأمان والألفة والدفء والعلاقات الإنسانية الحميمة التي دائما ما يشعر بها في مصر، حيث يكون بين أهله وإخوانه، وأكد لي أنه لم يجد أية مشاكل كالتي سمع عنها في برامج التوك شو، فالصورة الذهنية التي كانت عنده أن البلطجية هم الذين يحكمون مصر الآن ويسيطرون على ميادينها وشوارعها، حيث يمسكون بالسنج والسواطير والمطاوي ويفرضون الإتاوة على الناس أو يحبسونهم في بيوتهم ويمنعونهم من المشي في الشوارع، وأنهم مصاصو دماء ومخلوقات بشعة تختطف النساء وتغتصبهن على قارعة الطريق، ثم يذبحونهن ليستمتعوا بدمائهن... وقد ضحكت من هذه الصورة الغريبة التي رسمها الرجل لمصر، وظننت أنه يبالغ أو يصف لي مشهدا رآه في أحد أفلام الرعب أو القراصنة، لكن الرجل أقسم أنه لا يمزح وأن هذه هي الصورة التي ارتسمت في ذهنه عن مصر وأنه كوَّن عناصرها مما سمعه ورآه في برامج التوك شو في القنوات الفضائية المصرية التي تتحدث عن حالة الفوضى والضياع التي تعيشها مصر بعد الثورة!!

صدمت مما سمعت فلم أكن أتخيل أن يصل الحال إلى هذا المدى من الكذب والتضليل والتضخيم والتهويل وتزييف الحقائق!! وتساءلت في غيظ: ألهذا الحد يكره بعض المصريين مصر؟! ألحماية مصالحهم الشخصية والحفاظ عليها يمكنهم ذبح مصر بهذه الطريقة؟! وما معنى أن يعيش إنسان متنعما وملايين الناس من حوله يئنون ويتألمون؟! ما قيمة أن ينحر المرء بني وطنه ويتقافز على أشلائهم فرحا بما جناه من مال حرام؟!  وأين دور وسائل إعلامنا المختلفة ومن خلفها من رجال الأعمال في تصحيح الوضع وتقديم الصورة الحقيقية عن مصر بعد الثورة دون مبالغة أو تهويل؟! وما فائدة إشاعة حالة الاضطراب والخلاف والجدل العبثي التي قذفنا فيها البعض بعبارة (الدستور أولا..!!)  طوال الأسابيع الماضية؟! ولِمَ الالتفاف على نتيجة أول استفتاء حر نمارسه بهذا الشكل البغيض؟! أكل هذا بسبب الخوف من الإخوان المسلمين والسلفيين؟! ومن قال إن الأغلبية ستؤيدهم؟! وإذا كان الأمر كذلك فما الذي يضيركم؟! أليست هذه هي الديمقراطية؟! ولو كان هؤلاء قد استطاعوا أن يقنعوا أغلبية الشعب المصري بحججهم القوية ورؤاهم السديدة رغم أنهم كانوا مغيبين وممنوعين تماما من الظهور في المشهد السياسي طيلة زمن مبارك ـ أ فليس من حقهم أن يحظوا بثقة الناس لأنهم نجحوا فيما لم تنجح فيه الأحزاب الأخرى التي ظلت تتمتع بالتواجد الرسمي طوال هذه العقود لكنها كانت مجرد ديكور للزعم بأن النظام السابق كان يوفر مناخا ديمقراطيا في مصر؟! وماذا ستستفيد هذه الأحزاب الوهمية من تأجيل الانتخابات  عدة أشهر أو حتى عدة سنوات ما دامت لا تتمتع بقاعدة شعبية كبيرة لأنها غير مقنعة للجماهير؟!

طبعا لم تنجز ثورتنا المباركة حتى الآن أغلب أهدافها، وهناك أيادٍ آثمة عديدة خارجية وداخلية تريد إفشالها والانقلاب عليها، لكن ليس الحل هو إشاعة الفوضى في البلد، وإهدار مبدأ السيادة الوطنية، ولكن يجب وضع الأمور في نطاقها الصحيح، وإعطاء كل موضوع حجمه الحقيقي، والوقوف خلف مطالبنا بطريقة راقية ومقننة تضيف إلى الثورة لا أن تكون حسما منها أو عبئا عليها، وهؤلاء الذين جذبوا الدولة بعيدا عن قضاياها الجوهرية، وأشاعوا فيها حالة الاحتقان والقلق والتوتر والبلطجة عليهم أن يتقوا الله في مصر، وأن يعيدوا الوفاق الوطني، ويسهروا من جديد على إنجاز الأمور المتفق عليها وحشد الناس خلفها مجددا!!

وعلى مختلف وسائل الإعلام في مصر أن تتوخى الدقة والحذر، وعلى العاملين فيها أن يتقوا الله وخصوصا مقدمو برامج التوك شو الذين يضخون كل ليلة جرعات مسمومة ومبالغ فيها كثيرا من أخبار الخلافات والصراعات والانقسامات بين المصريين، تكون مصاغة بشكل يثير حالة من الذعر والهلع في القلوب؛ حتى يخيَّل للمشاهد أن مصر في طريقها للضياع والفوضى والاضطراب،  وربما كانت وشيكة السقوط في حرب أهلية ـ لا قدر الله ـ !!

وكنا ننتظر من أصحاب العقول الاقتصادية والسياحية والإعلامية الجبارة في مصر أن يسوقوا لمجموعة من العروض والبرامج السياحية غير المسبوقة، ويروجوا لها بين الأخوة العرب في الخليج، وبين السياح في مختلف أنحاء العالم، ولا ضير في أن نبتكر مسابقات رياضية عالمية وفعاليات ثقافية متنوعة، وأنشطة فنية وعلمية وترفيهية مختلفة، يتم الترويج لبرامج سياحية مصاحبة لها، مع تقليل الأسعار بعض الشيء، وشن حملات دعاية مكثفة ومخطط لها علميا، يتم تفعيلها محليا وعربيا وعالميا، والسعي لإحداث حالة من الإبهار والتنوع في العروض السياحية لجذب السياح من مختلف دول العالم!

وليت وسائل إعلامنا المختلفة تقوم بدورها في نشر ثقافة الديمقراطية بين الجماهير، وتدربهم على قبول الرأي والرأي الآخر، وعدم نشر الإشاعات المغرضة والانسياق وراءها، وكذلك عدم محاكمة النوايا، وألا نبالغ في التعاطي مع الأمور المختلفة بنفس الحدة والتوتر، ونضع كل شيء في نطاقه وحجمه الطبيعي، وأن نحرص على رسم صورة مشرقة ومتفائلة لمصر بعد الثورة، بدلا من هذه الصورة القاتمة كابية الألوان التي تخطف البسمة من على وجوهنا، وتفجر في نفوسنا براكين الغضب والحزن والقلق والخوف، ولنحذر جميعا من المبالغة في انفعالاتنا وردود أفعالنا، وسوء تصرفنا وخطأ تقديراتنا، فنحن بهذه السلبيات لا نبني مصر الحرة الديمقراطية، بل نساهم في ضياع وطننا العزيز من بين أيدينا!!

                

 * كاتب إسلامي مصري