بداية الانهيار

د. نور الدين صلاح

مركز الدراسات الإستراتيجية لدعم الثورة السورية

ما كنت أتوقع أن يبدأ انهيار النظام بهذه السرعة في دمشق ، وما كنت أظنه بهذه الهشاشة ، مع استخدامه كل أساليب القمع الوحشية التي يندى له جبين الإنسانية ولا مثيل لها في التاريخ المعاصر ، ومع وجود أحزمة حول النظام من الموالين في الداخل والخارج وهذا الكم الهائل من الخطوط الدفاعية ، وهذا التجييش الجنوني للمرتزقة وقطاع طريق الإعلام

لكني كنت أعلم أن هذه الأنظمة القمقمية عضلات بلا دماغ ودمية بلا روح ، وتموت سريرياً قبل أن تستخرج لها شهادة وفاة نهائية ، وتمر بالمرحلة العكازية (العصوية) التي ما تلبث أن تتآكل أمام هائمة صغيرة من هوام الأرض ، فيخر هذا المارد سقوطاً مدوياً وكما أشار القرآن بهذا المعنى (فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين) وهذا يعني أن السقوط لا يسبقه ترنح لذا يكون مفاجئاً وكلياً ومدوياً ، لقد دخل النظام في الموت السريري منذ قرر أن يقتل شعبه بهذه الطريقة السافرة الوحشية السادية ، وتعطل الدماغ ومات منذ اختار النظام الحل الأمني العضلي مستبعداً أي حوار مشيحاً عن أي نصح معرضاً عن كل مطلب ، لقد سقط النظام أخلاقياً أمام شعبه وأمام العالم بمؤسساته ومنظماته وشعوبه وحكامه ، مما جعل من يدافع عنه خاسراً مهما لف ودار وبرّر وتذرع ولو كان زعيم مقاومة أو شيخ ممانعة ، ودخل جميع المدافعين عنه في نفق الإحراج السياسي والأخلاقي ، ووُضعوا في مواقف لا يحسدون عليها ، والمنطق واضح إنه لا يمكن للمقاوم أن يقف إلى جانب الظالم ، وهكذا تبدأ سلسة الانهيار تبدأ من الخنادق الأمامية المدافعة عن النظام عندما تزج في نفق الإحراج ، وتدخل في مقامرة خاسرة لأن الشعوب هي الفرس الرابح في النهاية طال الوقت أم قصر

إن المتابع لحركة الموالين ليدرك أن اللهجة تتغير يوماً بعد يوم ، تبدأ بالدفاع المستميت ، ثم التبرير المؤصل ، ثم الموعظة الحسنة ، ثم النصيحة المواربة ، ثم اللمز الخفي ، ثم التنصل والابتعاد ، ثم اللوم على العناد ، يلبسون مسوح الأنبياء والأولياء وشعارهم (ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين) ومن هؤلاء من يكون أعمى البصر والبصيرة فيفاجئه السقوط المدوي (فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون)

إن دلائل سقوط النظام السوري واضحة وقد أسفر الصبح لذي عينين

إن النظام على لسان رئيسه أعلن مراراً أنه لا إصلاح تحت الضغوط ، ويحاول بين الفينة والأخرى أن يقنع العالم بهدوء الأمور واستقرار الأوضاع ، واحتفل الموالون وأعلنوا الانتصار وشربوا نخبه ، ولكن الحقيقة الممزقة لسجف الظلام أن المظاهرات تزداد في كل إحداثياتها جغرافيةً وتعداداً وهتافات يعلو سقفها ومطالب تزداد يوم بعد يوم ، إن أكثر حسابات السياسين تقوم على مبدأ شراء الوقت وكسبه ، لكن قانون الثورات يقرر أن الوقت لصالحها فهي ككرة الثلج المتدحرجة تزداد كتلة وصلابة مع الوقت والحركة ، ثم بدأت مراسيم الإصلاح ابتداءاً من رفع قانون الطوارئ مروراً بالمازوت وانتهاءً بالعفو العام ، ولكننا نلاحظ أنها جاءت باهتة باردة لم يتحرك لها أحد ولم يهلل لها من كان يؤمل أن يطير بها فرحاً ، إذا كان الشعب يهتف برحيل النظام ويطالب بإسقاطه ، فتكون الاستجابة بالعفو عن ضحايا قانون الطوارئ واعتبارهم مجرمين مشمولين بالعفو المشكور ، والقتلة الذين يلغون في دماء الشعب أبرياء ومن أمر بقتلهم لا ينتظر عفواً من أحد ، لقد رضخ النظام وبدأ مسيرة التنازل ولا بد أن يصل إلى عبارة (الآن فهمتكم) التي صارت مثلاً ليقولها بالعامية الشامية (هلق فهمت) لقد قالها الرئيس بشار يوماً لما برّر عدم تنازله أمام مطالب (كولن باول) بعد احتلال العراق بأنه إذا دخل في متوالية التنازلات فلن تقف عند حد ، وهذا صحيح فرفض ذلك حينها كما قال ، أما الآن فقد تحدى شعبه على لسانه حيث قال (إذا فرضت علينا الحرب فإننا جاهزون) الحرب على من ؟؟؟ ومن الذي فرضها ؟؟؟ وأكد هذا أحد أعضاء المطبخ السياسي الحاكم مخلوف حيث قال (سنقاتل حتى النهاية) يقاتل من ؟؟؟ ونهاية من ؟؟؟

وهكذا كلما أبدى تنازلاً يقال له جاء متأخراً والسقف أعلى بكثير ، والسبب في هذا واضح جلي (فسياسة ضربة على الحافر وضربة على النافر) أساءت إلى الحافر والنافر ، فقد سببت انعدام الثقة لدرجة حتى لو قرر الرحيل لن يرضى الشعب فسيطالب بمحاكمته وملاحقته أمام محكمة عادلة مدنية لا في محكمة عسكرية في ظلال قانون الطوارئ الرحيم !!!

إن غياب الصوت السياسي من أعلى سلطة في النظام وعدم الخطاب المباشر للشعب هو دليل إفلاس وعجز ، وعلامة تخبط وتردد ، ودليل انسداد أي أفق للحوار ، ولو خرج علينا فماذا سيقول : انتصرنا عليكم ، لقد قتلناكم وسجناكم وجوعناكم وحاصرناكم وعذبناكم وهجرناكم ، وكما قال أحد الصحفين المتحذلقين في تلفزيون النظام إنها عملية جراحية استئصالية دقيقة ويضحك في التلفزيون ضحكة عبقري اكتشف للبشرية البنسلين أو الأنسولين ، ما هذه المفردات القميئة جراحية استئصالية ولمن ؟؟؟ لشعب أعزل يطالب بحقوقه المشروعة

إن المواقف الدولية زادت حدة وسوف تزيد من النظام بنفس المنطق فهو حكم على نفسه بالضعف ، لقد بدأت الأصوات تعلو بالرحيل وفقدان الشرعية يوم أصدر النظام قرار العفو ، وأنا أقول بلغة منطقية وموضوعية لو أن هذا القرار صدر بعد أول مظاهرة بسيطة كالتي وقعت في منطقة (الحريقة) بدمشق وكان النظام لماحاً يستشف المستقبل بقراءته لقوانين الاجتماع ، بل لو قرأ الواقع القريب الذي لم يجف مداد التاريخ عن كتابته بل ما زال يكتبه كما في الثورتين التونسية والمصرية ، لتدارك الأمر من أوله ولكان عفوه مكرمة في نظر كثيرين ، لكن غرور القوة ، ومنطق قوم عاد (من أشد منا قوة) جعل النظام يسير في الاتجاه المعاكس ليصرح الرفيق القائد (بأن بلادنا بمنأى عن هذه الرياح وليست سوريا كمصر وتونس) هذا الاستعلاء بالنظام يقابله استخفاف مهين بالشعب ، ولماذا سوريا ليست كمصر وتونس ؟؟ هل تعيش سوريا خارج التاريخ وقوانينه !!! أم البشر في سوريا ليسوا كبشر مصر وتونس !!! وإذا كان يعني بنفي المماثلة (أنه نظام المقاومة والممانعة) فهذه العبارة خارج الصراع ولا علاقة لها فيما يجري من قريب ولا بعيد في جدلية النظام والشعب ، لم نسمع أحداً يتحدث عن المقاومة بشر أو سوء على كثرة المظاهرات وتعدد الشعارات والهتافات ، وهذه مخادعة ثانية ممن يريد أن يقايضنا المقاومة بالحرية والكرامة !! ولا يمكن ترقيع الداخل بإنجازات الخارج ، إن الزوجة والأولاد لن يقتنعوا بأريحية الزوج الأب على أبناء الجيران ورفقاء الحارة إذا كان بخيلاً جباراً على من يعول ، إن المطالب داخلية ، لكن النظام أصيب بالعور السياسي ، فيطالب الشعب بالحرية وتعديل الدستور بما يسمح بالمشاركة السياسية فيرد برفع الرواتب الرمزي وخفض المازوت الشكلي فتبدو هذه الاستجابات رشوات هزلية بائسة وكما قال الشاعر :

قالوا اختر طعاماً نجد لك طبخه    قال اطبخوا لي جبة وقميصا

يطالب الشعب بمحاكمة المسؤولين عن المجرمين الذي يرتكبون المجازر أو يعطون الأوامر بارتكابها فيجيب النظام بالعفو عن المعارضين السياسيين الأبرياء وكأنهم مجرمون والعفو مكرمة لهم على مبدأ (زناه فحدّه)

إن من أكبر علامات نجاحات الثورة وانهيار النظام بدأ الثورة من الأرياف الفقيرة والمدن المهمشة ، ولقد انطلقت ثورة البعث من نفس المواقع وكان من هتف لها العمال والفلاحون والكادحون وصغار الكسبة ، لقد راهن الحزب على هذه الطبقات في الوصول والاستمرار ، لكن من الملاحظ أن انتقال سوريا من نظام الاشتراكية إلى الرأسمالية ومن القطاع العام إلى الخصخصة كان على حساب هؤلاء ، وكان أبرز ملامح هذا التحول التزاوج غير الشرعي بين البورجوازية الجشعة والطبقة الحاكمة ، فنخر الفساد المالي والإداري في كل مرافق الدولة ، والنظام كما يصرح الكثيرون يراهن على المدن الكبرى كدمشق وحلب ، فالمستفيدون والطفيلية الاقتصادية فيهما بل والأغلبية الوسطى الصامتة كما يظنون ، وسوف يظهر بعد قليل أن الثورات ليست كالبكر المخطوبة سكوتها علامة رضاها ، بل سكوتها لحسابات أخرى كثيرة ، لكن من المؤكد إن بدأ الانهيار الاقتصادي وازدياد التنكيل وانتشار رقعة الدم والشحن العاطفي ، ستخرج أكثر الطبقة الوسطى الصامتة عن صمتها وسترجح ميزان الثورة ، وهكذا كل الثورات

والذي يؤكد انهيار النظام ونجاح الثورة أن روادها من جيل الشباب الذي تربوا في طلائع البعث وشبيبة الثورة واتحاد الطلبة (المحاضن الإجبارية العقائدية التربوية لحزب البعث في المؤسسات التعليمية) وكان من المفترض أن يكون هؤلاء حماة البعث ونظامه ، والحراس اليقظين على مكتسبات الشعب ومنجزاته التقدمية ، لكن وجدناهم على العكس من هذا تماماً وهذه شهادة وفاة حقيقية لهذا الحزب العتيد ، هؤلاء لم يتربوا في أحضان السلفية ولا الإخوان ولا أي توجه آخر ديني أو فكري مخالف ، لكن الحقيقة أن الإنسان هو الإنسان والمطالب الإنسانية هي المطالب الإنسانية في كل زمان وفي كل مكان ، بل على العكس من هذا أدرك هؤلاء أكثر من غيرهم بل وقبل غيرهم التناقض الصارخ بين التوجيه الحزبي والممارسة الواقعية ، وثمة سؤال بسيط يطرحه كل من عاش في سوريا ودرس في مدارسها وجامعاتها أين الوحدة ؟؟ أين الحرية ؟؟ أين الاشتراكية ؟؟ لقد شارك البعثيون في الانفصال ، ولم تقم الوحدة بين نظامين بعثيين متجاورين سوريا والعراق بل كانا أعدى نظامين في كل الدول العربية ، وأما الحرية فلست بحاجة إلى دليل على أن سوريا في ذيل القائمة في دول العالم ، وأما الاشتراكية فهي اشتراكية مخلوف وشاليش وآل الأسد ومن على شاكلتهم من ذوي النفوذ والمناصب ، ولا أدل على هذه الاشتراكية من زيادة نسبة الذين هم دون خط الفقر من الشعب ، وانعدام أي مؤشرات لتنمية حقيقية ، وبإمكانكم مراجعة التقارير الرسمية المحلية والدولية في هذا المجال

وأخيراً فإن الاحتقان وانسداد الأفق أمام أي إصلاح وانعدام الثقة بمن سيتولون الإصلاح لأنهم بنظر الشعب هم المفسدون الحقيقيون الكبار ، ومن أطيح أو سيطاح بهم من المفسدين هم من الصغار الذين يقتاتون على موائد المفسدين الكبار ، والمشكلة لن تحل بتغيير حكومة (ظل) ولا بجلب مجلس شعب جديد قال فيه الشاعر : وفجعتموا الشعب بمجلسه الذي          سقتم إليه موافقين ونوّما

ولا المراوغة ولا لعبة كسب الوقت ولا الرشاوى لبعض فئات الشعب ، ولا فزاعة الاقتتال الطائفي ولا التهديد بالفوضى ، ولا فزاعة الأصوليين الإرهابيين ، ولا السلفيين ولا التهديد باللعب بأمن إسرائيل ، ولا التهديد بإشعال المنطقة ، كل هذا لن يقنع ولن يخيف شعبنا الثائر ، لسببين الأول لأنه اكتشف ذاته وأظهر أنه على درجة عالية جداً من الوعي بل وأوعى من النظام بكثير ويراهن على نفسه ولا ينتظر من الخارج شيئاً ، والسبب الثاني أن الفزاعات الموجهة للغرب والتي لعب بها فهيم تونس ومخلوع مصر ومودع ليبيا يدركها الغرب تماماً لأنه هو الذي اخترعها ولعب بها وينطبق فيها المثل الدارج (على هامان يا فرعون !!!)