شاهد على الإنسانية المهدورة

صحافي من رويترز..

على أيدي جهاز الأمن السوري

عمان ـ رويترز: القت قوات الأمن السورية القبض على مراسل رويترز سليمان الخالدي وهو أردني الجنسية حين كان يغطي أحداث الانتفاضة ضد الرئيس السوري بشار الأسد. في التقرير التالي يروي كيف عاملته أجهزة المخابرات السورية ومشاهد التعذيب التي رآها من حوله خلال احتجازه لأربعة أيام.

وكحال باقي المراسلين الأجانب طرد الخالدي من سورية في نهاية المطاف. وهو يواصل تغطية الاضطرابات المتواصلة من العاصمة الأردنية عمان.

كان الشاب معلقا من قدميه ومتدليا رأسا على عقب وتسيل رغاوي بيضاء من فمه وكان أنينه غير بشري.

هذا مشهد من مشاهد كثيرة للامتهان الانساني التي رأيتها خلال استضافتي بالإكراه في المخابرات السورية حين اعتقلت في دمشق بعد أن قمت بتغطية أنباء الاحتجاجات في مدينة درعا بجنوبسورية.

في غضون دقائق من اعتقالي وجدت نفسي داخل مبنى جهاز المخابرات. كنت في قلب دمشق لكن نقلت الى عالم مواز مروع من الظلام والضرب والترويع.

لمحت رجلا معلقا من قدميه اثناء مرافقة أحد السجانين لي الى غرفة التحقيق لاستجوابي، واضاف'انظر الى أسفل' هكذا صاح في السجان حين رأيت ما رأيت.

داخل غرفة الاستجواب أجبروني على الركوع على ركبتي وقيدوا ساعدي.

يبدو أن تغطيتي للأحداث في درعا حيث اندلعت الاحتجاجات في آذار (مارس) ضد الرئيس بشار الأسد لم تعجب مضيفي الذين اتهموني بأنني جاسوس.

والسبب الرئيسي لاعتقالي الذي قدمته السلطات لرويترز هو أنني لا أحمل تراخيص العمل اللازمة.

لم يكن عملي كصحافي لحساب رويترز أؤدي عملي المهني حجة كافية لمن يكسبون قوتهم من امتهان كرامة الانسان.

وصاح محقق 'اذن أنت عميل أمريكي حقير... جئت لتبث اخبارا عن الدمار والفوضى.. يا حيوان جئت لتهين سورية يا كلب'.

استطعت أن أسمع خارج الغرفة قعقعة السلاسل وصراخا هستيريا ما زال يدوي في رأسي حتى يومنا هذا. مارس المحققون عملهم باحتراف وبلا كلل ليضعوني في حالة من التوتر في كل خطوة من عملية الاستجواب على مدى عدة ايام.

وقال محقق آخر ظل يصرخ قائلا 'اعترف يا كذاب... اخرس يا حقير ... أنت واشكالك غربان بدكم تشوفوا سورية تتحول الى ليبيا'.

في 18 آذار (مارس) مع بداية الاحتجاجات في درعا كنت قد عبرت الحدود قادما من الأردن حيث عملت لحساب رويترز لنحو عقدين. قضيت معظم الأيام العشرة التالية وأنا أغطي الأخبار من المدينة. واستلهمت الاحتجاجات سقوط رئيسي مصر وتونس فتصاعدت بسرعة الى تحد هائل لحكم عائلة الأسد الممتد من 40 عاما.

اعتقلت في 29 آذار (مارس) في دمشق حين كنت ذاهبا لأقابل شخصا بالحي القديم بالعاصمة السوريةاقترب مني رجلا أمن في ملابس مدنية وطلبا مني الا أقاوم وأمسكا بي من ذراعيواصطحباني الى محل حلاق الى أن جاءت سيارة بيضاء اللون لتنقلني الى المخابرات.

أظهر المحققون اهتماما خاصا بأمرين في تغطيتي وهي أنني كتبت أنني شاهدت محتجين يحرقون صورا للرئيس الراحل حافظ الأسد والد الرئيس الحالي وسمعت هتافات تهاجم ماهر الأسد شقيق بشار وقائد الحرس الجمهوري.

وتنتشر تماثيل الأسد الاب وصور الرئيس الحالي في الطرقات والمكاتب بمباني جهاز أمن الدولة.

شعرت أن مضيفي يريدون أن يقدموا لي بصفتي صحافيا أجنبيا عرضا توضيحيا للأساليب التييستخدمونها مع السوريين. وكي أعد نفسي لما قد يحدث تاليا وأنقذها من الانهيار التام حاولت تركيز ذهني على ذكريات الطفولة.

ساعدتني هذه الألعاب الذهنية على تجنب التفكير في طفلي التوأم الصغيرين وزوجتي في الديار بعمان والتي لم تكن لديها اي وسيلة لتعرف اين انا او حتى ما اذا كنت حيا ام ميتا.

استمر الاستجواب ثماني ساعات حتى منتصف الليل في اليوم الاول من اعتقالي. كنت معصوب العينين في معظم الأحيان لكن العصابة أزيلت لبضع دقائق.

وعلى الرغم من أوامر المحققين بأن أظل خافضا رأسي حتى لا أستطيع رؤيتهم تسنى لي أن أرى رجلا وقد وضعوا رأسه في كيس يصرخ من الألم امامي.

حين طلبوا منه أن ينزع سرواله رأيت أعضاءه التناسلية المتورمة مربوطة بسلك بلاستيكي.

وقال الرجل الذي قال إنه من محافظة ادلب بشمال غرب سورية 'ليس لدي ما أقول لكنني لست خائنا ولا ناشطا. انا مجرد تاجر'.

وأصبت بالفزع حين انتزع رجل ملثم زوجا من الإسلاك من قابس كهربائي وصعقه في رأسه.

في لحظات أخرى كان المحققون معي رائعين لكنهم ينتقلون سريعا الى الأجواء التي لا تعرف الرحمة والتي بدت كمحاولة منظمة لإنهاكي.

وهددني أحدهم حين ضربت للمرة الثالثة على وجهي 'حانخليك تنسى من انت'.

لم أستطع رؤية ما الذي ضربت به. بدت مثل قبضة يد. جلدت على كتفي مرتين خلال احتجازي مما خلف كدمات ظللت أحملها لأسبوع.

في بعض الفترات بالطرقة حين كنت أقف وظهري للحائط رافعا ذراعي الى أعلى كان يمر علي ما لا يقل عن 12 من رجال الأمن الذين كانوا يدفعونني ويهيلون علي الإهانات. لكن الانسانية كانت تظهر في أسوأ اللحظات.

في احدى المراحل كان المحقق يصرخ ويسبني قائلا 'يا كلبوجاءه اتصال هاتفي على هاتفه الجوال. تحولت نبرته على الفور الى نبرة دافئة وعاطفية وقال 'بالطبع يا حبيبي سأحضر لك ما تريد' ليتحول من اختصاصي تعذيب محترف الى اب حنون.

تمددت لفترات طويلة على خشبة في زنزانة بلا نوافذ مضاءة ببعض الأنوار النيون مليئة بالصراصير التي تابعتها جيئة وذهابا.

تذكرني الصرخات التي أسمعها من وقت لآخر أين انا وما قد يحدث. وضعوني في الحبس الانفرادي وكان السجانون يعطونني قطعة من الخبز الجاف او حبة من البطاطا (البطاطس) وأخرى من البندورة (الطماطممرتين يوميا.

حين كنت أريد الذهاب الى المرحاض كنت أدق على باب زنزانتي. يظهر سجان حينذاك لكن الاستجابة لمطلبي قد تستغرق اكثر من ساعة. فكرت في آلاف المحبوسين في السجون السورية وكيف يتحملون الحبس الانفرادي والإهانة المستمرة وكثير منهم على هذا الحال منذ عقود. فكرت فيمن قرأت عنهم من الروس الذين يعيشون بالمنفى في سيبيريا وعن معنى الحرية بالنسبة للسوريين وغيرهم من العرب الذين يعيشون في ظل حكم استبدادي في شتى أنحاء المنطقة.

بالطبع لست أول النزلاء في هذه الزنزانة. أحد أسلافي غير المعروفين حفر عبارة على الحائط بأظافر يديه فيما يبدو تقول 'ربنا على الظالم'.

استرجعت الأحداث في درعا وآلاف الشبان الذين كانوا يهتفون 'حريةوالتعبيرات التي كست وجوه النساء والأطفال والشيوخ الذين خرجوا للشوارع للمشاهدة في مزيج من الدهشة والسعادة وروح التحدي المثيرة.

رأيت عقودا من الخوف الذي زرع في قلوب وعقول الناس تتداعى حين تحدى مئات الشبان بصدورهم العارية الأعيرة النارية التي أطلقها رجال الأمن والقناصة من على أسطح المباني. لن أنسى ابدا جثث الرجال الذين قتلوا بالرصاص في الرأس او الصدر والذين كانوا يحملون في شوارع درعا الملطخة بالدماء وعشرات الأحذية المتناثرة في الشوارع لشبان يفرون من نيران الأسلحة.

في اليوم الرابع لاحتجازي جاء من يستضيفونني لنقلي فوضعوني في سيارة أخذتني الى ما تبين أنه مقر جهاز المخابرات على بعد بضع بنايات في دمشق.

كان مجمعا ضخما به المئات من رجال الأمن في ملابس مدنية بالفناء وهم جميعا متجهمون.

وقال رجل فيما جرني اثنان آخران نحو القبو 'فتشوا حتى أظافره'.

قضيت ساعتين في زنزانة فكرت خلالهما كيف سأتعايش مع السجن في الأشهر القادمة.

ثم نقلت الى حجرة قريبةاندهشت حين قال لي رجل يبدو أن له سلطة 'سنعيدك الى الأردن'.

أدركت لاحقا عند مطالعة الصور في وسائل الإعلام أن هذا كان اللواء علي مملوك رئيس جهاز أمن الدولة السوري بنفسه وهو المسؤول الذي يحتجز رجاله آلاف السوريين في سجون مماثلة في أنحاء البلاد.

وقال إن تغطيتي للأحداث في درعا كانت غير دقيقة وأضرت بصورة سورية.

في غضون ساعات عبرت الحدود وعدت الى دياري حيث علمت أن الأسرة الحاكمة الأردنية بذلت جهودا لإطلاق سراحي وجنبتني مصيرا بائسا. كما طرد صحافيون آخرون من رويترز وبعضهم تم طرده ايضا بعد احتجازه والآن أصبحت سورية محظورة على معظم وسائل الإعلام الأجنبية.

وبعد شهرين تقريبا وبمرور الوقت استطعت أن استوعب أثر هذه الأيام الأربعة بدرجة تسمح لي أن أسجل تجربتي بالكتابة. لكنه مازال يلاحقني هذا الثمن الانساني للانتفاضات العربية التي قامت بها شعوب تطلب بعض الحريات التي يعتبرها آخرون في أجزاء أخرى من العالم أمرا مسلما به.