الانحراف الفكري وغسيل الأدمغة

الانحراف الفكري وغسيل الأدمغة

د. عصام مرتجى- غزة

[email protected]

ليس من طبيعة البشر الكمال. ولذا فالانحراف في التصرف البشري عن الطريق "القويم" ، الذي تسعى البشرية جمعاء للسير عليه بكل نحلها ومللها ، هو انحراف وارد وتستطيع الفرق المختلفة أن تغفر وتعذر بعضها البعض في ظل انحراف معياري مقبول.

لكننا اليوم، وفي منطقتنا العربية والإسلامية، نشهد انحرافا شاذا وخطيرا عن المنهج "القويم" الذي تدعو له الفرق المختلفة في هذا الوطن العربي الذي أصبح في مرجل يتقلب سياسيا وفكريا ولا يعرف الهدوء.

ففي زمن العولمة والانفتاح اللامحدود على ثقافات الآخرين، ينشطر المجتمع العربي بين تجاذبات الليبرالية العربية الجديدة وثوراتها المجهولة الهوية، وبين المتنطعين في الدين؛ غلاظ الفكر والفعل ومجهولي المنشأ.

أخطر الانحرافات التي أصابت المجتمع المسلم هو من اجتهاد بعض " أنصاف المتعلمين"، كما يصفهم الشيخ الغزالي، وغسل أدمغة الأتباع من كل المناهج التي نشئوا عليها فطريا في مجتمعاتهم ذات المنهاج الوسطي، وحشو تلك الأدمغة بهذا الاجتهاد على أنه هو الحقيقة المطلقة.!!

أخطر ما دمر مجتمعاتنا المسلمة هو ذاك الاجتهاد الذي ساقه البعض في مبدأ "الولاء والبراء"... حتى صار كل من ذهب ليتعلم في دول ذات ديانة أخرى؛ هو موالي للكافرين... وكل من نسق مع الدول الأجنبية لمصلحة البلاد والعباد؛ صار من أحباب الكافرين وحشر معهم ولا بد ان يلقى مصيرهم !!؟؟

وعلى ذلك ، قام أولئك المنحرفون فكريا ببناء ثقافتهم ومنهاجهم الذي يكفرون فيه الآخرين ويستبيحون دمائهم. فظنوا أنفسهم أنبياء هذا الزمن، ومن خالفهم فهو كافر ويستحق سفك دمه!!

مع أن النبي صلوات الله وسلامه عليه، كان خير جار لكل من عرفه ولكل من جاوره على اختلاف مللهم ونحلهم... وما حارب الرسول إلا من حاربه :

{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (قرآن كريم – سورة الممتحنة8)

ووفقا لعقيدتنا نحن أهل السنة، فإن أبا طالب عم الرسول مات كافراً، ورغم ذلك فإن الرسول لم يقاطعه ولم يحاربه، ولما مات أبا طالب في نفس عام موت السيدة خديجة سميناه "عام الحزن"، لما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من حزن بوفاة عمه وزوجته خير من ناصره وخير من دعمه في دعوته !!!؟

وقد روى البخاري ومسلم وأحمد والترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا عماه قل لا إله إلا الله، أشهد لك بها يوم القيامة"، فقال: لولا أن تعيرني قريش يقولون: ما حمله عليه إلا جزع الموت، لأقررت بها عينك، ولا أقولها إلا لأقر بها عينك، فأنزل الله عز وجل {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } (قرآن كريم –القصص56) .

وهكذا قال عبد الله بن عباس وغيره: إنها نزلت في أبي طالب، حين عرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: لا إله إلا الله.

فهل هذه الآية تدل على كره وحرب سيدنا محمد لعمه "الكافر" أبا طالب ... أم حبه ودعوته له ، دعوة المحب النصوح، بالحكمة وبالموعظة الحسنة ؟؟!!

البعض ظن نفسه نبي الزمان ورسوله ، ويريد محاكمة الناس ومعاقبتهم وإقامة الحد عليهم وفقا لفكره المشوه، مع أن رب العزة ودينه القويم، لا يجبر الناس على منهاجه وهو الصراط المستقيم وطريق الحق المطلق  القويم :

{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ }  (قرآن كريم –يونس99)

{مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } (قرآن كريم –الإسراء15).

اليوم ونحن نشهد بين أظهرنا جريمة قتل المتضامن الإيطالي فيكتوريو ... لا بد وأن نقف مع أنفسنا لنعرف إلى أي مستوى وصل بعض الشباب الفلسطيني  بانحرافاتهم الفكرية !

ماذا فعل المتضامن الإيطالي ليتم قتله ؟ وما هو جرمه ؟

هل كان بجرم زعيم المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول الذي تطاول على الرسول ووالى المشركين وخذل المسلمين وأرجف في صفوفهم .......  وعندما قال عمر بن الخطاب  رضي الله عنه (يا رسول الله دعني اضرب عنقه) قال (ويحك يا عمر أتريد أن يتحدث الناس أن محمد يقتل أصحابه ....!!!؟؟).

القضية قد لا تكون مجرد شباب منحرف فكريا ، أو أدمغة محشوة بالبارود .... ولكن القضية قد تكون  أكبر من ذلك بكثير.

فبعض الشباب المحافظ والمُغالي في دينه و يظن أنه نبي الزمان، و أنه صاحب الحقيقة المطلقة ؛ يعتقدون أنهم يتبعون لشبكة عالمية لتحرير المستضعفين في الأرض ، ويتلقون أوامرهم ودعمهم عبر وسائل الاتصالات الحديثة، وهم لا يعرفون حقيقة أمرهم و أمرائهم وأوامرهم المشبوهة.

لقد ثبت في كثير من الحوادث المفجعة التي اجتاحت الوطن العربي، والتي تهدف لإثارة النعرات الدينية والطائفية، أن من يقف ورائها هم جهات مخابراتية تستخدم عقول مشوهة ومنحرفة فكريا .

الكل الفلسطيني يقف مذهولا من هذه الفعلة الشنيعة ونستغرب من أين جاؤوا بمبرر ومسوغ شرعي لفعلتهم وجريمتهم النكراء ؟؟؟ وكيف برر هؤلاء المشوهة أدمغتهم وفكرهم قتل متضامن جاء ليناصر قضيتهم؟

ومن المستفيد وبهذا الوقت بالذات ؟

إن هذا الوضع المأساوي والمفجع الذي وصل له بعض الشباب الفلسطيني يدفعنا جميعا إلى ضرورة حوار فكري مفتوح بين جميع التنظيمات القائمة والناشئة والمتسترة والعاملين بصمت لحشو أدمغة الشباب بهذا الفكر المشوه.

هذا الحوار لا بد أن يدفع البعض إلى ضرورة إجراءا مراجعات فكرية تعدل الانحراف الخطير الذي وصل له بعض فكر وثقافة شبابهم .

فالأفكار لم تعد أسطر أو كلمات تقرأ في جلسة تتحولق عند عمود مسجد او في زاوية صالون فكري ...  ولم تعد أناشيد جهادية مع صور خيول تركض وسيوف ...  ولكنها صارت عقول مشوهة تتجول بين أظهرنا وصارت دما مسفوكا ومسفوحا طال من ليس لنا عندهم لا ناقة ولا جمل .. !!

ولقد صار بعض الشباب أدوات في يد من يحاورهم على الشات والماسنجر .... لمجرد أن محاوره كنى نفسه بأحد أسماء الصحابة الأجلاء...!!!؟؟

من هنا أتوجه بدعوة مفتوحة لكل الحركات التنظيمية والسياسية العاملة على ساحتنا الفلسطينية، ولكل علماء وفقها الدين والسياسة وعلوم النفس والاجتماع وذوي الاختصاصات المتعلقة بهذا الموضوع ، لإقامة حوار فكري ومنهجي بينهم يصلون من خلاله لقواعد وثوابت فكرية، تشخص العدو من الصديق بحدها الأدنى ، وتحافظ على الفرد الفلسطيني من هذا الانحراف الفكري الخطير بما يحفظ النسيج الوطني والوحدة الوطنية .

وإن لم نقم بذلك مبكرا فسيستمر مسلسل الذبح والقتل بالجملة حتى يطال عابري السبيل الأبرياء .... على قاعدتهم الفقهية  الخطيرة، وكما يفهمونها  بطريقتهم المشوهة .... "يبعثون على نياتهم" .