الإعلام والثورة المصرية!!!

حسام مقلد *

[email protected]

واهمٌ من يظن أو يتوقع أن وسائل الإعلام على اختلاف أنواعها وأشكالها: المقروءة والمسموعة والمرئية، وسواء أكانت رسمية (تمتلكها الحكومات) أو مستقلة (تمتلكها مؤسسات أهلية غير حكومية) أو خاصة (يمتلكها الأفراد) وحتى ما يعرف بالإعلام الجديد ـ واهم من يتوقع أن هذه الوسائل جهات محايدة، أو جمعيات خيرية كل هدفها نفع الناس وتقديم الرعاية والعناية لهم، وصناعة رأي عام حر بكل شفافية ونزاهة، وخدمة المجتمعات البشرية المختلفة لوجه الله تعالى!!

على سبيل المثال هيئة الإذاعة البريطانية الـ (BBC) (British Broadcasting Corporation‏) هي هيئة إعلامية مستقلة تأسست عام 1927م، وتضم الآن شبكة واسعة جدا من الإذاعات والقنوات الفضائية والمحلية والمراسلين ومؤسسات الإنتاج الإعلامي، وتبث برامجها المختلفة بأكثر لغات العالم، ويأتي تمويلها الضخم ـ كما تقول هي ـ بشكل مباشر من المواطن البريطاني من خلال الضرائب التي تضعها الدولة على كل جهاز تلفاز في بريطانيا، ففي حال امتلاك المواطن للتلفاز عليه أن يدفع ضريبة سنوية، وتجمع الحكومة البريطانية هذه الضرائب لتشكِّل في النهاية ميزانية ضخمة تذهب لتمويل البي بي سي بفروعها المختلفة...، والسؤال هو: هل تدفع الحكومة البريطانية الرأسمالية هذه الميزانيات الهائلة التي تقدر بمئات الملايين من الجنيهات الإسترلينية ـ وربما المليارات ـ هل تدفعها كل عام لوجه الله تعالى؟ هل تتحمل هيئة الإذاعة البريطانية كل هذه النفقات الباهظة والتكاليف الهائلة لصناعة الإعلام الموجه بكل لغات الدنيا فقط من أجل تقديم هذه المنفعة الإعلامية خالصة للإنسانية دون أية أغراض أخرى؟! ألا تسعى بريطانيا لتحقيق أهداف سياسية خاصة بها وبحلفائها من خلال بذل كل هذه الأموال للتأثير في ميول الشعوب وتوجهاتها، وصناعة رأي عام موالٍ لها وللمنظومة الغربية بكل قيمها وأنماط حياتها وثقافاتها المتنوعة؟! هل ينفق الإنجليز كل هذه الأموال بدافع إنساني محض منهم لتوفير الخدمات الإعلامية المحايدة والموضوعية للمجتمعات المختلفة أم أن لهم غايات أخرى وراء ذلك؟!

إن هيئة الإذاعة البريطانية لا تمل من الزعم مرارا وتكرارا وفي كل مناسبة بأن سياستها الإعلامية حرة ومحايدة، وتناولها وتقديمها للأخبار والقضايا العالمية والبرامج المختلفة يتَّسِم بالشفافية والحياد إلى حد بعيد خاصة فيما يتعلق بتناول القضايا العربية والإسلامية على وجه الخصوص، وتؤكد البي بي سي أنها تحرص على الدقة والحيدة والموضوعية في عالم يسوده اختلاف شديد في الآراء والقناعات السياسية، وتدَّعي أن حيادها كمؤسسة إعلامية هو منهجها الوحيد الذي تبنته منذ بداية تأسيسها؛ ولذلك تحظى بثقة مشاهديها ومستمعيها حول العالم، لكن المتابع الجيد لبرامج البي بي سي سواء في الإذاعة أو التليفزيون لا يلبث أن يكتشف زيف هذا الادعاء!! فالحقيقة أن هيئة الإذاعة البريطانية مؤسسة إعلامية كبيرة وتمتلك قدرات فنية هائلة، وتتمتع بقدر كبير من الحرفية العالية والمهنية الكبيرة ولا شك، لكنها مع ذلك غير محايدة بتاتا في تناولها لأية قضية وعلى رأسها القضايا العربية والإسلامية، ويظهر لكل باحث منصف انحيازها الواضح إلى رؤى محددة ووجهات نظر معينة في أي قضية تتبناها، نعم تتمتع  الـ ( بي بي سي) بنوع من الاستقلالية المادية عن الحكومة البريطانية، لكن سياستها الإعلامية تتشكل وتتبلور وتسير حتما وفق ما يريده منها دافعو الضرائب البريطانيون، وهذا لا شك يؤثر على طريقة تناولها للأحداث المختلفة، وواضح جدا موقف الـ ( بي بي سي) من الثورة المصرية وانحيازها ضد الإسلاميين في مصر والسلفيين منهم على وجه الخصوص، كما أن موقفها غير المحايد والساعي إلى إحداث تغيرات اجتماعية في المملكة العربية السعودية يأتي شديد الوضوح فيما تثيره من قضايا وشبهات حول حقوق العمالة وحقوق المرأة وأوضاع الشيعة وغير ذلك من الموضوعات التي تموج بها الساحة السعودية.

وليست هيئة الإذاعة البريطانية وحدها بدعا في ذلك الانحياز لمواقف ووجهات نظر معينة عند طرحها ومناقشتها لأية قضية من القضايا، فكل وسائل الإعلام الدولية والمحلية الفضائية والأرضية المقروءة والمسموعة والمرئية، الإسلامية وغير الإسلامية... كلها كلها على هذه الحال من عدم الحيادية فلا موضوعية مطلقة، ولا حيادية تامة في كل القضايا والموضوعات التي تطرح، بل هناك حسابات معينة وتوازنات دقيقة وحساسة تحكم عمل أية وسيلة من وسائل الإعلام، لكن هذا لا يعني أن هناك قدرا من المسؤولية الأخلاقية والمهنية تقع على عاتق جميع هذه الوسائل ويجب أن تتحملها بكل نزاهة لأن ذلك في الحقيقة يعكس شرف الرسالة الإعلامية التي تنهض بها مختلف وسائل الإعلام، وفي المقابل على المتلقي الذي يتعامل مع هذه الوسائل أن يتحلى بأكبر قدر من الوعي والنضج والحذر والحيطة وهو يتابع أية وسيلة إعلامية.

وفيما يتعلق بموقف وسائل الإعلام المختلفة من الثورة المصرية بعد سقوط النظام السابق فلعل من يتابع موقف القنوات الفضائية المصرية الخاصة، وموقف بعض القنوات والإذاعات والصحف العالمية يرى ما يلي بوضوح شديد:

1. تسعى ـ بشكل أو بآخر ـ معظم وسائل الإعلام العالمية والصحف والقنوات الفضائية المصرية الخاصة التي يمتلكها رجال الأعمال الذين خرجوا من عباءة مبارك ـ تسعى إلى تشويه الصورة الحضارية الناصعة التي ظهر بها المصريون أثناء ثورتهم المباركة التي فجرها شباب مصر الأوفياء في 25 يناير 2011م.

2. تحاول هذه الجهات الإعلامية صرف المصريين عن بناء مجتمعهم بعد الثورة على أسس ديمقراطية وعلمية صحيحة.

3. محاولة إرباك المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي يتولى زمام السلطة في مصر، وإظهاره بمظهر المتناقض مع نفسه أحيانا، أو بمظهر المتواطئ مع النظام السابق المتلكئ في محاسبته، أو بمظهر المتحالف مع الإخوان المسلمين، أو بمظهر الممالئ للعلمانيين...إلخ، وكلها في نظري محض هواجس وافتراءات لا يسلم مروجوها من اتباع الهوى بإشاعة هذه الشبهات المغرضة!!  

4. تضخم وسائل الإعلام بعض الأحداث والمواقف والأخطاء البسيطة الوارد وقوعها في كل زمان ومكان وفي كل دولة وفي أي مجتمع ، وإن لم تجد خطأ افتعلته هي، واختلقت قصصا وهمية لشغل الناس عن قضاياهم الملحة، وصرف اهتماماتهم عن الأمور الجادة، وتبديد طاقاتهم في الجدل والشقاق، ومن ذلك هوجة الرد على بعض تصريحات السلفيين وتضخيمها بشكل فج لا إنصاف فيه، وقصة الرجل الذي قطعت أذنه والزعم بأن ذلك بداية لتطبيق الشريعة في مصر، ولا أعرف ـ حسب علمي ـ أن هناك حدا في الشريعة الإسلامية يقضي بقطع الأذن!!

5. تعمل هذه الجهات الإعلامية على تبديد طاقات المصريين في القضايا الفرعية والثانوية والمسائل الخلافية التي لا يمكن أن يجتمع عليها الناس أبدا، ومن خلال ذلك يستنفد المجتمع المصري طاقاته الإبداعية الخلاقة وتستمر حالة الركود الاقتصادي، وتتواصل معاناة المصريين الحياتية في أمور المعيشة اليومية، وتبقى المشاكل الجوهرية على حالها دون حل، ويدب اليأس والقنوط في نفوس الناس، وتتلاشى ومضات الأمل التي أضاءت جوانب كثيرة في حياة المصريين بعد الثورة.

6. تعمل معظم وسائل الإعلام بكل طاقتها من أجل تشويه وشيطنة الإسلاميين في عيون العامة، وتخويف الناس منهم لا سيما السلفيين، وبث الذعر والهلع في نفوس المصريين من خطر ما يسمى بالدولة الدينية التي توشك أن تقبض على مفاصل السلطة في مصر!

7. تسعى معظم وسائل الإعلام هذه إلى صرف المصريين عن التفكير في حلول عملية ناجعة وناجزة وسريعة لمشاكلهم الحقيقية، مثل:

·    قضية التربية والتعليم، والتي هي في رأيي مفتاح حل اللغز، وكلمة السر التي ستحل كل قضايانا ومشاكلنا بإذن الله تعالى.

·    معضلة البطالة، والحاجة إلى توفير ملايين فرص العمل التي يحتاجها شباب مصر كل عام.

·    تحقيق الحرية والديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية بين جميع طبقات الشعب.

·    تحقيق المواطنة الحقيقية بين جميع المصريين، واجتثاث الفتنة الطائفية من جذورها.

·    توفير حياة أكثر رخاء ورفاهية للمصريين جميعا، وإنقاذ نحو نصف أبناء الشعب المصري من العيش تحت خط الفقر.

·    استصلاح المزيد من الأراضي الزراعية والخروج من الشريط الضيق لتوفير آفاق أوسع لنهضة مصرية حقيقية.

·    القضاء على المشاكل المزمنة في مصر كالأمية والتلوث... وغيرهما.

·    بناء جهاز شرطة قوي ومتطور ومهني يحترم المواطنين ويسهر على راحتهم لا أن يبتزهم ويستغلهم ويهدر كرامتهم!!

·    التفكير العملي لإيجاد سبل التنفيذ السريع للأفكار الإبداعية كفكرة ممر أو معبر التنمية الذي طرحها الدكتور فاروق الباز.

وفي رأيي أن جميع أبناء الشعب المصري العظيم، بكل فئاتهم وشرائحهم مدعوون الآن للرد على ما تبثه وسائل الإعلام هذه من أكاذيب، وما تنشره من أضاليل وأباطيل، وما تضخمه من مخاوف، وما تحاول أن تروجه من حالة الفوضى والفزع والهلع، وأفضل وسيلة للرد هي الانصراف للعمل ثم العمل ثم العمل، والدخول في حالة حوار مجتمعي شامل حوار صريح صحي وشفاف، حوار مفتوح بين جميع أبناء الشعب المصري بكل طوائفه ونقاباته المهنية وشرائحه الاجتماعية، وأتمنى أن تؤسس لجنة وطنية أهلية مستقلة من كبار مفكري ومثقفي مصر تشرع فورا في بدء حوار وطني فعال بالتوازي مع الحوارات الرسمية القائمة الآن في أكثر من اتجاه، ولعلني أكون أكثر جرأة وتفاؤلا عندما أدعو للقاءات سريعة بين:

السلفيين والأخوان، والسلفيين والأقباط (أو النصارى...)، والإسلاميين والعلمانيين، والإسلاميين والأقباط والفننانين، والإسلاميين والعلمانيين ورجال الأعمال، وعلماء الأزهر ورجال الكنيسة، والإسلاميين وأقباط المهجر، والشيوخ والشباب، والإسلاميين والمعارضة والحكومة،...، وأتمنى أن أرى في برامج الإعلاميين المصريين ذائعي الصيت كبرنامج العاشرة مساء وغيره ـ أتمنى أن أرى وجوها جديدة من المفكرين والإسلاميين ورجال السياسة والفن والأدب، فمصر مليئة وزاخرة بالعقول النابهة والرجال المخلصين، ومن الغريب فعلا ألا نرى في هذه البرامج أمثال: محمد حسان، رفيق حبيب، محمد إسماعيل المقدم، جمال سلطان، عصام العريان، أحمد النقيب، جمال أسعد عبد الملاك، ياسر برهامي، وحيد عبد المجيد، حسام تمام، مع حفظ الألقاب وكل الاحترام والتقدير للجميع ... وغير هؤلاء الكثير والكثير، نحن بحاجة فعلا إلى بث الثقة فيما بيننا، وتخليص نفوسنا قدر المستطاع من أهوائها، وتقديم مصلحة مصر وشعبها الوفي وأبنائها البررة على كل مصالح ذاتية أو مطالب فئوية تبقى بسيطة ومحدودة إذا ما قورنت بمصلحة مصر العظيمة والحرص على استقرارها ونهضتها وحل جميع مشاكلها بطريقة علمية ناجعة وشاملة وجذرية، والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل "إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ" [هود : 88]

                

 * كاتب إسلامي مصريي