الإسلاميون والتجربة الأفغانية

حسام مقلد *

[email protected]

ذات يوم وأنا طالب جامعي في أوائل التسعينيات كنت أشارك في تظاهرة طلابية تضامنا مع أشقائنا من أبناء الشعب الفلسطيني الرازحين تحت نير الاحتلال الصهيوني الغاشم، وبالطبع كنا نرفع آنذاك عددا من الشعارات الإسلامية خلال تلك التظاهرة من بينها شعارات تشيد بالجهاد الأفغاني وتتوعد الأوغاد الصهاينة بجهاد مثله وأشد (من قبيل: خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود، ولبيك إسلام البطولة كلنا يفدي الحمى...إلخ) وبعد انتهاء فعاليات المظاهرة عدنا إلى كلياتنا وحاول كل منا الالتحاق بزملائه في قاعات المحاضرات، وعندما طرقت الباب مستأذنا بالدخول أنا وعدد من زملائي الأعزاء كان أستاذنا رحيب الصدر ووافق على دخولنا للمحاضرة، لكنه استوقفنا عند الباب وأوسعنا لوما وتقريعا وسخرية وتأنيبا على تركنا للمحاضرات للمشاركة في هذه المظاهرات (الخايبة) ثم قال ساخرا: "وبعدين جهاد أيه ومجاهدين أيه اللي أنتم كنتم بتهتفوا لهم، ما خلاص انكشف المستور وبان، فوقوا بقى من الوهم دا، أديهم واقعين في بعض دا الوقت، ولا جهاد ولا يحزنون"!! وعندئذ رفعت يدي مستأذنا أستاذنا الكريم في الرد، فأذن لي قائلا:"عاوز  تقول أيه يا فالح" فقلت: "عفوا أستاذي، هل تصدق ما تشيعه وسائل الإعلام عن الخلافات بين المجاهدين الأفغان؟! ومن يدرينا أنها أخبار صحيحة؟! ولو كانت صحيحة يمكن فيه أسباب منعرفهاش، ثم مش يمكن يكون لأجهزة المخابرات العالمية يد فيما يحصل هناك؟! وبعدين الله أعلم الحقيقة فين، مش يمكن المراسلين متواطئين..." وهنا قاطعني أستاذنا الفاضل وهو يقول ساخرا: "خلاص بقى نجمع لك مبلغ ونبعتك هناك عشان تعرف لنا الحقيقة أيه بالظبط وتيجي تقولها لنا...!!" ويبدو أنني عندما اعترضت على هذا الأسلوب في التهكم والسخرية والاستهزاء، وطلبت أن يكون الحوار علميا ـ يبدو أنني أحرجت أستاذي فصرخ فيَّ قائلا: "طلع كارنيهك" وعندها أخرجت بطاقتي الجامعية في هدوء وأعطيتها له فخرج من المحاضرة متوعدا، وخشي زملائي من رسوبي هذا العام أو على الأقل رسوبي في هذه المادة، وبعد أسبوعين جاء هذا الأستاذ الفاضل وأعطاني بطاقتي الجامعية، ونصحني بأن ألتفت لدراستي، وقال مترفقا بنبرة أبوية حانية: "متفتكروش يا ولاد أنني لا أتمنى تحرير فلسطين زيكم تمام، بس نصيحتي لكم سيبوكم من السياسة دا الوقت وبصوا لمصلحتكم، فالسياسة وحب الرياسة ممكن يخلي الواحد يبيع أخوه وهو دا اللي حصل في أفغانستان بعد انتصار المجاهدين على السوفييت"

ورغم عدم قناعتي بمعظم ما قاله أستاذنا الجليل آنذاك إلا أن هناك أسئلة مهمة ظلت تؤرقني وتلاحقني طوال الوقت ـ وربما لا تزال تؤرقني وتلاحقني إلى اليوم ـ هذه الأسئلة هي: لماذا نضيع الغايات الكبيرة الواضحة أمامنا جميعا جريا وراء وهم المجد الشخصي، أو بحثا عما نتوهم أن فيه بعض المنافع البسيطة لنا، ثم نتأكد بعد فوات الآوان أنه كان مجرد سراب؟! لماذا نغبن أمتنا، ونظلم قومنا، ونفجع أهلنا بنا، وقد وثقوا فينا وعلقوا علينا آمالا عراضا ومكثوا ينتظرون منا أن نبهج قلوبهم ونسعدهم بتحقيق أمنياتهم وأمنياتنا معهم؟! لماذا يتفنن البعض منا في حقن شعوبنا العظيمة بجرعات اليأس والإحباط كلما لمع بريق الأمل في أعين الناس وظنوا أننا قاب قوسين أو أدنى من تحقيق حلمنا وإنجاز غاياتنا النبيلة وأهدافنا العظيمة والوصول بكفاحنا وكفاحهم إلى نتائج إيجابية طيبة تثلج قلوبنا، وتلبي مطالبنا، وتحقق مصالحنا جميعا؟!!

نعم لقد حارب المجاهدون الأفغان العدو السوفييتي الشيوعي بكل بسالة وشجاعة وإقدام، قاتلوه وهو قوة عظمى آنذاك، وهم ثلة قليلة من المتطوعين ـ قاتلوه بكل جرأة وقوة وشجاعة نادرة، وانتصروا عليه بفضل الله تعالى، وأسقطوا الحكم الشيوعي في أفغانستان، وكان المؤمل والمنتظر أن تولد دولتهم القوية الناهضة لتكون أنموذجا حضاريا وضاءً مشرقا لبقية دول العالم الإسلامي، لكن ماذا حدث في النهاية...؟! بسبب نزغات الشيطان، وهوى النفس، ومكائد الأعداء وما حاكوه من دسائس ومؤامرات ـ بسبب كل ذلك تأزم الوضع بين فصائل المجاهدين الأفغان الذين حاربوا الاحتلال السوفيتي يدا واحدة في الثمانينات، وبكل أسف بعد انتصاراتهم المبهرة، وظفرهم بعدوهم، ونجاحهم الكبير في إخراج السوفييت من وطنهم، تصارعوا على السلطة فيما بينهم، وكلٌّ منهم كان يريد السيطرة  وحده على أفغانستان، ويسعي بكل جهده وطاقته للاستئثار وحده بكعكة السلطة!!

 وبعد أن كان المجاهدون الأفغان يشكلون قوة مهيبة بزغت لتوها في دولة جبلية نائية، واستبشر المسلمون خيرا بأن هؤلاء المجاهدين سيبنون دولتهم بإخلاص ويجعلونها دولة عصرية متطورة ـ بعد ذلك وبسبب الأهواء والعصبيات الشخصية تنازع أخوة الجهاد فيما بينهم!! وانشقت الحركة الإسلامية في أفغانستان إلى قوى عديدة متنافرة متصارعة فيما بينها، وخفتت في جميع وسائل الإعلام عبارة المجاهدون الأفغان التي كانت تشعرنا بوجود كيان قوي موحد يحمل هم الدولة والأمة والدعوة الإسلامية في أفغانستان، وبدأنا نسمع عن فصائل متناحرة بقيادة الكثير من الأسماء على شاكلة: عبد الرشيد دوستم، وعبد رب الرسول سياف، وأحمد شاه مسعود، وقلب الدين حكمتيار وبرهان الدين رباني... وغيرهم، وكل واحد من هؤلاء كان يسعى لفرض رؤيته الذاتية للحكم، والاستئثار وحده بالسلطة لتطبيق رؤيته للدولة الإسلامية التي يحلم بها، وهكذا وبكل أسف بعد جهاد طويل للسوفييت اندلعت الحرب بين المجاهدين الأفغان وبعضهم البعض في عام 1992م، واقتتلوا فيما بينهم قتالا شرسا، واقتلعوا بأيديهم شجرة الجهاد التي غرسوها ورووها بدمائهم قبل أن تنتج وتخرج ثمارها الحلوة التي كنا ننتظرها جميعا!! ولأسباب كثيرة استمرت الحرب سجالاً بين مجاهدي الأمس أعداء اليوم حتى عام 1996م، ودمرت تلك الحرب الأهلية الشرسة التي استمرت فيما بينهم أربع سنوات كاملة (بين عامي1992م ـ  و1996م) أکثر من 70% من العاصمة الأفغانية کابول، وغيرها من المدن الكبيرة الأخرى، وقتلت زهاء(50000 شخص) معظمهم من المدنيين الأبرياء العزل، وكانت أسوأ نتيجة لهذه الفتنة بين المجاهدين الأفغان تشويه صورتهم أمام أعين العالم أجمع فضلا عن أعين أخوانهم المسلمين، وتقديم سابقة سيئة لا تشجع أحدا بأي حال من الأحوال على تكرار نفس التجربة البائسة في مشهدها الختامي!!

وما أشبه الليلة بالبارحة فبعد نجاح ثورة الشعب المصري المباركة للمطالبة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والمساواة، وبعد عرس الحرية والديمقراطية الذي عاشته مصر في الاستفتاء الأخير، ها نحن أولاء نقرأ ونسمع ونرى الكثير من وسائل الإعلام المصرية والعربية والدولية تمارس لعبتها القديمة في الإثارة والتهييج وبذر بذور الشقاق والخلاف، واللعب على أوتار الاختلاف الطبيعي بين الناس جميعا في آرائهم وميولهم وتوجهاتهم وقناعاتهم المتباينة، وها هي أجهزة المخابرات الدولية وأصابعها وذيولها ـ ها هي تبث سمومها وتنفث حقدها الدفين على مصر وشعبها، وللأسف تجد من بين المصريين من يبتلع الطعم فتستعمله مخلب قط  في يدها، وترتديه كقفاز يخفي بصماتها حتى لا تدان في جريمتها الجديدة التي ترتكبها بكل مكر وخبث ودهاء، وها هي نزغات الشيطان، وأهواء النفوس، ومكائد الأعداء وما يحيكونه من دسائس ومؤامرات، وها هي الغلواء والإسراف في حب الشخص وتمجيد الذات وعشق الرأي ـ ها هي كل جراثيم الفساد والإفساد تنهش وحدتنا وتمزق صفوفنا وتثير الفرقة فيما بيننا، ولا تتورع وسائل الإعلام المختلفة عن إذكاء النيران المشتعلة هنا وهناك لإفشال ثورتنا والإجهاز عليها، أو على الأقل الالتفاف حولها؛ لإجهاضها من الداخل!!

وفرق كبير بين حرية الرأي وحرية الاختلاف في الرأي وبين رغبة كل واحد في السيطرة على الآخرين أو ينشق عنهم ويحاربهم ويتصدى لهم إن هم لم ينصاعوا له وينفذوا رغباته ويقتنعوا بآرائه ويستجيبوا له ويطيعوه في كل ما يريد!! ولا أدري أين ذلك من شعارات الحرية التي نرفعها جميعا هذه الأيام؟ وأين ذلك من موقف رسولنا الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحابته الأبرارـ رضوان الله تعالى عليهم ـ من أسرى بدر؟! فقد كان لأبي بكر ـ رضي الله عنه ـ رأي، وكان لعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ رأي مخالف، فأخذ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ برأي أبي بكر، فلم يغضب عمر ولم ينشق عن الصف بل تبع رأي الأغلبية، وإن كان القرآن الكريم نزل بعد ذلك مؤيدا لرأي عمر ـ رضي الله عنهم جميعا ـ ووالله إنه لدرس بليغ لنا في الديمقراطية وحرية الرأي والانصياع لرأي الجماعة، وما أحرانا أن نتعلمه ونطبقه بكل قوة  هذه الأيام، فمطلوب الآن من جميع القوى في مصر وعلى رأسها الإسلاميون بكل أطيافهم وتنويعاتهم أن يعلوا مصلحة مصر وشعبها فوق الجميع، وأن يفرقوا بين شئون السياسة وما فيها من مخاتلة ومناورة ومداورة وبين مصلحة مصر العليا، وعلى أهل الإعلام وأصحاب الكلمة أن يتقوا الله في مصر ويكفوا عن إثارة الفرقة والنزاع والإحن والأحقاد والضغائن والانشقاقات بين المصريين أيا كانت توجهاتهم السياسية أو مشاربهم وانتماءاتهم الفكرية!!

وفي هذه المرحلة التاريخية الحاسمة بالغة الدقة والحساسية ينبغي ألا ينشق عن الصف كل من له رؤية مختلفة عن غيره من زملائه داخل أي حزب أو جماعة، وينبغي كذلك ألا يقصى أحد من المصريين أو يهمش دوره لاختلافه معنا في الرأي، مهما كانت رؤيته السياسية ومرجعياته الفكرية أو الديينية، وينبغي أن يسود بين الجميع حسن الظن والتسامح وحسن القصد والنية، وعلى الجميع إخلاص العمل، وشحذ الهمة، وتعبئة الطاقات، واستفراغ الجهد والوسع، فمصر الآن في أمس الحاجة إلى جهود جميع أبنائها المخلصين مسلمين وأقباط من كل التوجهات ومن كافة الأحزاب فمسيرة البناء طويلة جدا، وميراث الفساد الذي ورثناه عن العصر البائد طيلة العقود السابقة ميراث كثيف مضنٍ، وكل مجال من مجالات الحياة في مصر وكل شبر من أرضها بحاجة إلى عزيمة أبنائها الأشداء، وعقولهم المبدعة وجهودهم الجبارة، ونفوسهم الصافية الزكية، وقلوبهم الطاهرة النقية الخالية من الأحقاد والمطامع التي لا تعرف الدسائس، ولا تسمح أبدا بتدبير المكائد وحياكة المؤامرات ضد مصر وأهلها الأوفياء البررة. 

علينا جميعا مهما كانت قناعاتنا ومهما اختلفت أحزابنا، ومهما تباعدت رؤانا أن نتحد ونتعاون معا من أجل مصر وإعادة بنائها، وينبغي أن نبدأ مسيرة الإصلاح والنهضة على أسس متينة ودعائم راسخة قوية دون فرقة أو تنازع، قال تعالى: "وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" [الأنفال:46] وقال عز وجل: "وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا" [النحل:92] وعلى جميع القوى السياسية في مصر وبخاصة الإسلاميين أن يضربوا لنا القدوة الصالحة والمثل الأعلى في التضحية والإيثار، وتقديم مصلحة مصر وأمتها العربية والإسلامية لأنها مصلحة باقية دائمة بإذن الله على كل المصالح الشخصية الزائلة والمؤقتة، وليتنا نشكل ائتلافاً واسعا من كل الأطياف وكافة التوجهات لرسم خارطة طريق واضحة المعالم تحدد كيف تنهض مصر؟ وكيف نبني ديمقراطيتنا الحديثة ودولتنا المدنية ذات المرجعية الإسلامية على أسس راسخة ودعائم قوية من المشاركة الإيجابية وقبول الرأي والرأي الآخر دون فرقة ونزاع؟ وما أجمل أن نتحلى جميعا بالصبر وطول النفس وهدوء الأعصاب ونتحمل الآخرين... "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" [آل عمران:200] "وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" [يوسف:21]  "إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ" [هود : 88].

                

 * كاتب إسلامي مصري