رُوما للجميع

رُوما للجميع

حسين حسن السقاف

[email protected]

تبدأ أحداث قصتنا عام 44 ق. م عند ما بدأ (اوكتافيوس) أو (اكتافيان) الرجل الجمهوري البسيط مباشرة الحكم في روما ، أحبه شعبه لحنانه على رعيته التي ضاقت ذرعاً بحكم الأباطرة والملوك الذين تعاقبوا -من أمدٍٍٍٍ بعيد- على حكم روما ، كان اوكتافيوس يحكم نصف روما فقط أما اليوم فهو يحكم كل روما بعد انتصاره على ( مارك انطوي ) شريكه السابق في تحقيق وحدة روما والذي كان يحكم الشطر الآخر منها.

برغم أن اوكتافيوس  جاء باسم النظام الجمهوري إلا أنه وبعد أن استتبت له الأمور بدأ يضيق ذرعا بذلك النظام ، كان يرى فيه تقييدا لطموحاته وتطلعاته.

كان يحكم روما مجلسٌ للشيوخ ، يتم انتخابهم من الأقاليم  ، بطريقة ديمقراطية حرة ومباشرة ، ودون تأثير من أي جهة ، بعد النجاحات التي حققها اوكتافيوس ، استطاع استدرار تعاطف مجلس الشيوخ للتخلص من معارضيه بتهمة معاداة المشاعر الجمهورية .. اوكتافيوس غالباً ما يبدو رئيساً متواضعاً لا إمبراطوراً ،إلا أنه وبمرور السنين تبين أن ذلك التواضع كان تطبّعاً لا طبعاً.

بالرغم من أن الجمهوريين بدأوا يتضايقون من بعض التهديدات لمؤسسات جمهوريتهم إلا أنهم آثروا التريّث بالبوح  عن قلقهم ومخاوفهم ، في حين أن بعض زعمائهم كانوا يغرقون في حبائل رغد العيش التي وفرها لهم اوكتافيوس .. شيٌء آخر يجعل الجمهوريين يكبتون قلقهم من الخوف على جمهوريتهم ألا وهو الانتصارات التي يكثر الحديث عنها والتي يحققها لهم اوكتافيوس وبالخصوص الانتصار الساحق الذي حققه على شريكه ( مارك ) والذي كانت نتيجته أن أصبح اوكتافيوس  رئيساً لروما الموحدة .. أراد القصر أن يجني ثمرة هذه الانتصارات التي تحققت  ، لذلك قام اوكتافيوس  خطيباً أمام مجلس الشيوخ  ،  كان متذللاً في عرض طلبه للمجلس ، كان يطلب التخلي عن جميع الصلاحيات والسلطات في الجمهورية ، طلب التخلي عن مهامه هذه ، مقابل أن يعطى له لقب المواطن الصالح ، ليعيش بقية حياته بعيداً عن السياسة والحكم  خاصة أنه تحقق لروما ما تصبو إليه من حكم جمهوري يوحدها.

باغتَ  اوكتافيوس المجلس وروّعه بطلبه هذا ، وهو ما كان يتوقعه رجالات القصر الذين يطمعون في المزيد من الصلاحيات والامتيازات ، أخذ أعضاء مجلس الشيوخ يتوسلون إليه أن يعدل عن قراره الذي اعتبروه  خطراً على جمهوريتهم ، وفي شيء من التردد والإحجام اللَبق ، ونـزولاً عند إلحاحهم واستجدائهم استجاب اوكتافيوس لطلبهم  ،وفي نفس الدورة للمجلس التي اتسمت بالحماس ، مُنح اوكتافيوس لقب المواطن الأول ، بل فُوضَ بصلاحيات خاصة لمدة عشر سنوات  ، وجعلوه القائد الأعلى للجيش وحاكماً مباشراً لأهم الولايات ، بل بلغت ثقتهم فيه أن يخولوه الحق بإعلان الحرب ، وعقد الصلح وفق مشيئته ، دون الرجوع للمجلس الذي تنتقل اختصاصاته وصلاحياته شيئاً فشيئاً إلى الرئيس ، حتى أنه لم يعد يُنتخب أعضاؤه بل يعيّنهم اوكتافيوس نفسه بعد أن  أطلق القصرُ الرئاسيُّ عليه  اسم ( أغسطس ) وهو لقبٌ لم يكن يطلق حينها إلا على الآلهة .. حتى أن رجالات القصر أخذوا جزءً كبيراً من الموازنة ليصنعوا بها تماثيلَ لأغسطس ليوزعوها على الساحات العامة في عموم روما ولتِغُيّر الأسماء الجمهورية والوطنية والثقافية القديمة لتلك الساحات ، لتحمل يوم جلوس اوكتافيوس ويوم انتصاره على شريكه القديم ( مارك ) .. وصارت جمهورية روما  التي كانت محكومة بمجلس الشيوخ الذي يمتلك كل الصلاحيات  ، أصبحت تُحكم بقوة السلاح.

لعل القصر استطاع أن يحجب اوكتافيوس ،  فجمهوره الذي أحبه لم يعد يراه ، أصبحوا يرون رسمه ولا يرون أصله ، حجبته الحاشية خصوصا عمن أخلص له، حتى أصبح  لا يسمع إلا بآذانهم ولا يبصر إلا بعيونهم  ولا يبطش إلا بأيديهم !.

   صُنعت نافورة على مقربة من القصر عليها تمثالٌ غاية في الضخامة للإله ( أغسطس ) وهو يتبول ليكون بوله مورد الماء لهذه النافورة التي يتبرَّك بها العامة بعد أن تبين أن من يستحم بها تتوافر له دفعة من الأرزاق .أما العاقرات من النسوة اعتقدن أن الاستحمام في هذه النافورة  يجلب لهن الخصوبة.

ولما كانت الميزانية العامة قد أُرهقت بصرفيات الحاشية ونفقاتها بما فيها النفقة على بعض زعامات المعارضة ، والنفقة على صناعة المزيد من التماثيل الحجرية والبرونـزية بل والذهبية حتى أن صناعة التماثيل هذه أصبحت من الصناعات الرائجة التي ترك الزُرّاع والصُنّاع أعمالهم ليتجهوا إليها لما تتميز به من مردود أفضل مما تحققه صناعاتهم أو زراعتهم .

بدا للناس انه لم يكن لديهم حاكم  ، لم يعودوا يرون إلا تماثيله أما شخصه فلم يروه حتى في المناسبات الوطنية ، خوفا من التآمرات عليه بحسب ما يشاع  وبحسب ما تتم من إعدامات متكررة لأولئك المتآمرين على الحكم الجمهوري  والذين يُترَكون لتمزق الأسودُ الجائعة أجسادهم  العارية في المسارح الرومانية، لم تعد هذه المسارح  تشـهد إلا ذلك النوع من التسلية بعد أن كانت زاخـرة بأعمال الدراما والفن والأدب.

كان الحاكم بالفعل يتعرض  للعديد من محاولات  الاغتيال  الفاشلة  من بعض النبّالة ، وتكون هذه كلما أراد التصالح والتقرب إلى شعبه ، إلا أنه يتم قتل الجناة  النبّالة  مباشرة ودون محاكمات ، كل ذلك  أوغرَ صدر الحاكم على شعبه  والمعارضة خصوصاً ، ليكون أكثر بعداً عن رعيته  فهو لم يعد يراهم إلا طامعين في عرشه في حين أصبحت ثقته عمياء في بلاطه  .

عمد رجالات البلاط إلى دعم أديان وآلهة لم تكن موجودة من قبل في روما وبطرقٍ غير مباشرة ، فُتحت لها المدارس ، وقُدم لها الدعم الوفير رغم اتصافها بالعدوانية للديانة التقليدية المعتمدة والتي كان لها تأثيرٌ حسنٌ حتى خارج روما ، أثار كل ذلك العصبيّات الدينية عند طائفة كبيرة من الشعب وسادت ثقافة الصراع الديني على أسس عصبية وفي بعض جوانبها صراع من أجل البقاء .. تم التوسع من قبل أطراف الصراع في بناء المزيد من دور العبادة و المدارس الدينية بدعم داخلي وخارجي ، حتى أن المكتبات العامة كادت تخلو من بقية العلوم مما انعكس على الموروث الثقافي والفني لروما ، كل ذلك على حساب العلوم والفنون الأخرى.

عُمّرت المكتبات بالكتب الدينية التي تحمل ثقافة الصراع والتكفير واستباحة دم الآخر ، سادت سيكولوجية العنف على أسسٍ أثنيةٍ وطائفيةٍ ، حتى أن ذلك  تطور إلى أعمال عنف ، بل إن بعض الجماعات تلجأ إلى الإرهاب الذي يُمثل فناً يُلزَم تعلُمه للتخلص من الخصوم ، وبعد أن كانت الديانة عملاً روحياً طوعياً ،أصبحت احترافاً  ومصدر ثراء ، وأصبح رجال الدين الأكثر تطرفاً هم الأكثر دعماً والأكثر رواجاً ، وانعكست المعايير وانعكس ذلك على تقييم الناس ، فمن كان أكثر شراسة وبطشاً يكون هو صاحب القدوة والحظوة .

أوشكت مظاهر الديانة التقليدية على الانقراض ، بعد طغيان مظاهر الديانة الجديدة، أخذ أحد مراكز القوى في السلطة مهمة دعمها ، ليس حباً فيها ولكن حبٌ في استمرار الصراع بين الفريقين ، تقاسمت في ذلك هذه المراكز أدوار الدعم للفرقاء المتصارعة ، أصبحت السمة المميزة لأطراف الصراع هي ملابسهم ورموزهم وهيئتهم الدينية التي يحرصون على إشهارها والتميز بها عن الفريق الآخر ويتعصبون إليها أكثر من الدين نفسه ، حتى إن ذلك أثَّر في الزََّي الشعبي لروما ، ساد قانون الغاب فروما التي كانت مركز إشعاع حضارياً يفيض خيره لخارجها ، أصبحت تشتهر بالإرهاب الذي غدا قابلاً للتصدير إلى الخارج كخدمة متعددة الأغراض.

أصبح عمل أجهزة الرقابة والحماية للمال العام ، هو عقد ( مقاولات الوقيعة ) بمن يحاول الوقوف حجر عثرة أمام ناهبي المال العام من النافذين ، حتى نفذت كل أملاك الدولة تقريبا لتصير أملاكاً شخصية لحفنة منهم.

أصبحت الضرائب التي تعد  عصب اقتصاد الدولة لا يدفعها إلا الفقراء كل ما يدخل الخزينة العامة  هو ربع ما يُجبى ، أما الثلاثة الأرباع الأخرى فهي من حق القائمين على الجباية على أن يدفعوا منها القرابين اللازمة للإبقاء على وظائفهم، كانت الوظيفة العامة والمراكز القضائية تباع لذلك فان على هذا القاضي أو الموظف أن يسدد المبالغ التي دفعها ثمناً لوظيفته.

سادت مظاهر الفقر والجوع ، الذي يعاني منها السواد الأعظم من الشعب . قل كثيراً تعداد الطبقة الوسطى ، التي كانت تسهم في ردم فجوة الفقر ، بعد أن اضطرت مرغمة للتحول إلى طبقة أدنى ، بعد أن أقصي بعض منتسبيها  من وظائفهم ، أو استولى النافذون على أراضيها ، أو أتت الضرائب على أعمالهم.

هناك حفنةٌ تعاني من التخمة ، وهم رجالات البلاط والمستأثرون به ، ويلحقهم  رجالات الدين الذين يُذكون جذوة هذه الصراعات ويتّجرون بها ، وكذا تُجار التماثيل .. ورغم كل ذلك  فثمة مشاعر ثوريةٌ حقيقيةٌ  ، أذكى الفقرُ جذوة شعلتها، لم يثنِ عزمها خذلان بعض زعاماتها ممن أغوتهم الدورُ والقصورُ ،  والذين سرعان ما عادوا إلى حظيرة الجياع ، الذين جعلوا من أنفسهم رقماً مهماً يُركن إليه  في المعادلة السياسية بعد ان كانوا على هامشها.

تحولت صراعات القوى التي كانت في الأمس القريب متناحرة  إلى غضب وثورة ضد النظام نفسه، لقد وصفه أحدهم بميكروب يتكبسل بغطاء الجمهورية، فشل البلاط في استنهاض المشاعر الجمهورية عند الجماهير التي أهملها، ثارت هذه الجماهيرلاستعادة شمس الجمهورية الحقيقية .كانت جماهير روما الجائعة أكثر التفافاً حول هدف واحد هو (روما للجميع ).