كم من الدماء الزكية تكفي لتنزاح النظم الاستبدادية

كم من الدماء الزكية

تكفي لتنزاح النظم الاستبدادية؟

أ.د. ناصر أحمد سنه - كاتب وأكاديمي من مصر

E.mail:[email protected]

كتمت أنفاسي، أراقب الأحداث، فمرضت.

حتى إذا ما تماثلت لشفاء كانت قد ذهبت الأمور لأبعد مما يتوقع لها، ولا ينبغي لأحد السكوت عليها.

مؤسف، ومحزن، ومؤلم، وممنوع، ومدان إطلاق الرصاص الحي علي تجمعات جماهيرية تطالب بحق الحياة/ العمل/ الحرية/ والحدّ من غلاء الأسعار في "تونس الخضراء". "يبست" تونس/ الزيتونة، "تونس" ابن خلدون، "تونس" أبو القاسم الشابي، فصارت إلي ما صارت إليه.. "سجن كبير"، بفضل أنظمة القمع والقهر والاستبداد، ورواد سياسة "تجفيف الينابيع".

مؤسف، ومحزن، ومؤلم، وممنوع، ومدان إطلاق الرصاص الحي ـ لا علي العدو الحقيقي لآمتنا العربية الإسلامية، القابع هناك في سويداء قلب الأمة "فلسطين" يضحك، ويمرح، ويعيث فسادا وإفساداً، لا يخفي كيداً وهدماً، ولا جريمة ولا تهويداً، ولا تقتيلاً ولا تشريداًـ بل علي أدمغة وأعناق وصدور وبطون أكثر من خمسين من بين رجل وامرأة، شاب وفتاة ، طفل وأستاذ جامعي، عامل ونقابي الخ.

مؤسف، ومحزن، ومؤلم، أن نري ذلك الرجل الطريح علي وجهه علي الأرض (مرتديا نظارته الطبية) غارقاً في بركة من الدماء. أو ذلك الطفل المحمول بين الأيدي، وفوق الأعناق.. لا يدري هذا ولا ذاك ولا غيرهم من العشرات الذين أمتلئت بهم مشافي مدن "سيدي بوزيد" وغيرها من ملايات تونس: لماذا قتلوا؟. ولما استبيحت دمائهم الزكية، علي "مذبح" النظم الاستبدادية؟.

نظم تدعي تحمل مسئوليات جسام، وتراهم وأسرهم وأولادهم وذويهم يموهون ويتحايلون ويقاتلون من أجل البقاء.. حيث لا بقاء فقد سالت الدماء، وانعدمت "الثقة المتبادلة"، ومن قبلها غابت الشرعية والمشروعية والعقد الاجتماعي بين المتحكم وبين المقهورين.

بعد خمسة أو ستة عقود مما سمي "بالاستقلال".. ليدلني أحد علي نهضة بلد ما، كما نهضت اليابان وألمانيا والهند، ونمور أسيا، وأخيرا البرازيل وتركيا.

لكن مضي وولي زمن القهر، والخوف والإذلال، والظلم، وخاب وخسر من راهن علي موت الشعوب. الشعوب لا تموت ومتحكميها هم إلي زوال.. مهما أدعو كما أدعي فرعون من قبل عن "موسي" ومن معه: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ" (الشعراء: 54-55)).

:"وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ، فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ" (الذاريات:22-23). لكن وفق الداروينية السياسية والاجتماعية.. إذا البقاء للأقوى وللأقهر وللأبطش..، تقتلونهم وتبيدونهم وتحاصرونهم، وتفقرونهم، وتدعون أنكم تعملون وتتولون وتنافحون عن مصالحتهم.

كفي طغياناً واستبداداً واستكباراً في الأرض من الميلاد حتي الممات، من القصور حتى القبور. أين تداول السلطة، وتغيير البرامج والسياسات والوجوه؟؟. إن التغير والتغيير سنة الحياة، والعقم والفناء "ودعاوي استقرار الأنظمة الفاسدة المستبدة" صنو الجمود والتخلف والموت، وما هكذا شأن ومآل أمتنا. لقد بلغ السيل الزبي.

كفي فساداً وإفساداً، نهباً وإنتهاباً، وتبريراً وتسويقاً له. كفي سلطة مُطلقة فـ "السلطة المُطلقة، مفسدة مُطلقة". أين الأمانة النزاهة والرقابة والمراقبة والمسئولية والمحاسبة؟. أين تنفيذ أحام القانون، وتمتع السلطة القضائية بالاستقلال الكامل؟. كفي رشوة ومحسوبية وتحايلاً  واحتكاراً، ومحاباة، وعصبية، وإستقواء بمال وقبيلة وعشيرة ومنصب وجاه الخ.

لقد فقدت الحياة في نظر شباب ذوي مؤهلات عليا، متعطل متبطل، (في تونس، ثم في الجزائر، وبالأمس 12/1، في موريتانيا/ بلاد "شنقيط") قيمتها فضلاً عن بهجتها، يصرخ الناس:"باطن الأرض خير من ظاهرها"، وزمن الاحتلال خير من زمن ما سمي بالاستقلال، في حين أنهم يستحقون حياة كريمة: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا" (الإسراء:70)).

لليس من مات فاستراح بميت        إنما الميت ميت الأحياء.

- إنهم يصرخون: لماذا يكون لأبنائهم المُلك، وقصوره، ومنتجعاته ويخوته، ولأبنائنا ـ شركاء الوطن الصالحين المُصلحين ـ الفقر والحرق والمرض والشتات واللجوء والموت وقواربه؟؟. لقد باتت أغلي أمانينا أنْ تغرق بنا ـ مرة بعد مرة، ومرة ـ "قوارب الموت" بحثاُ عن "فرصة حياة/ عمل"، لدي أنظمة أوربا، التي تدعم الاستبداد والتخلف والفقر والجهل والمرض، وتكرسه في مستعمراتها القديمة / الجديدة / المتجددة. لقد فعلنا كل ما بوسعنا ـ تعلماً وتعليماً، قدرة ومُقدرة، كفاءة ومهارةـ يلقون حتفهم ـ يأساًـ في "قوارب الموت".

ما أقسي وما أصعب أن تجاهد أسر من أجل تربية وتعليم أبنائنا وتأهيلهم للحياة، ثم يقبعون بجوارهم في البيت أو علي المقاهي، لا يجدون فرصة عمل لائق بمكانهم ومكانتهم. ثم نجد جدل المنافقين والمرتزقة والمنتفعين، وأعوان وعلماء السلطان والصولجان في تحديد نسبة البطالة هل هي: 16% أو  20% أم 30% من طاقة العمل. إن حالة تبطل واحدة كآلاف الحالات من البطالة.. سُبة وعجز عن القيام بالمسئوليات في دول ليست فقيرة بمواردها ودخلها القومي العام. لكنه عدم "التوزيع العادل للثروة" التي تذهب إلي "تحالف شيطاني" بين السلطة والثروة ذلك الذي حذر منه أول من حذر ابن تونس "عبد الرحمن ابن خلدون" من قرون..

كفاية قتل.. الكفاءات والطاقات والسواعد والعقول. كفي مناخاً مقصودا لتهجير العقول والسواعد.. والأجنة في بطون أمهاتهم، وتدمير الطبقات المتوسطة. إن غالب "عِلية القوم" يضعون مواليدهم هناك خلف البحار والمحيطات، لينالوا الجنسية والجنسيات، الخير والخيرات، في الحاضر وعواقب الأمور والمآلات.

بالأمس القريب شكر أحرار العالم الرئيس البرازيلي" لولا دي سلفا"..الذي أدي ما عليه ونهض ببلده واخرج نحو 30 مليون برازيلي من عداد الفقر، ووزع معدلات نموه الفعلية علي كافة قطاعات الشعب المستحقة. مع ذلك لم يعدل دستورا أو يمدد ولاية لمدي الحياة، بل ترك لمسئولية لمن بعده، لأول سيدة تحكم البرازيل. لقد تمنوا له حياة هنيئة رغدة بعيدا عن السياسة ، و"ألاعيبها"، وأهلها ورؤسائها وزعمائها الذين يقولون مالا يفعلون، ويبقون فلا يموتون، والحياة تتغير وهم لا يتغيرون، ويصحّون فلا يمرضون، فموائدهم ملئ، وبطون الناس خاوية، ويشاهدون فلا يتعظون، وتحرجهم فلا يتحرجون.. "فالسلطة المطلقة مفسدة/ معماة مطلقة"، وهم لا يريدونها إلا أن تنتزع إلا انتزاعاً لكن بعد تقديم ثمن الحرية.. دماء زكية مستباحة، ستروي الأرض فلا تيبس.

كفي بطر الحق، وغمط الناس وحقوقهم.. لماذا يقتل الناس تعذيباً وخوفاً وجوعاً وإهمالاً.. صحياً ومرورياً وتعليمياً ومدرسياً.. وإعلامياً؟؟. لماذا يقتل الناس ـ ولا حسيب ولا رقيب ـ في العبارات والقطارات والطرقات و"قوارب الموت علي شواطئ جنة أوربا.. العنصرية".

وإلي أولئك الذين ظنوا أنهم " سادة المستعمرات القديمة والحديثة: حذار من دعم أنظمة لفظتها شعوبها. ولتعلموا "أن أول الغيث قطرة، وينهمر السيل، وستتحقق "نظرية الدمينو" التي تخشون منها علي مطامعكم واستنهاب مقدرات الشعوب، مساهمين في الإفقار والقهر والتشرذم والفتن، والتدخل لتفتيت العالم العربي والإسلامي من جاكرتا حتي الرباط". وهل غاب عنكم نباً شاة إيران "محمد رضا بهلوي"، والدكتاتور الروماني "نيقولاي شاوشيسكو"، والصربي"سلوبودان مليسوفيتش" وغيرهم بعيد.

وللحرية الحمراء باب بكل        يدٍ مضرجة بالدماء يدق.

وهذا شاعر تونس الكبير " أبو القاسم الشابي":

إذا الشعب يوماً أراد الحياة        فلا بد أن يستجيب القدر.