الثورةُ السورية، واِرتداداتُ الأَدلَجَة

الثورةُ السورية، واِرتداداتُ الأَدلَجَة

محمد عبد الرازق

أَطلَتْ المرحلةُ الثالثة من عمر الثورة السورية برأسها، حاملةً معها مشاريع آيديولوجية، لمْ تكن في حسبان السوريين الذين انتظروا فرصتهم طويلاً لملاقاة النظام، و فتح ملفات القهر و الخوف الدموي معه، على مدار العقود الخمسة الماضية، لقد أحرجوا بهتافاتهم السلمية كلاًّ من النظام، و حلفائه الإقليميين و الدوليين؛ فضلاً على دعاة السلمية، و الديمقراطية.

 لقد مثَّلتْ هذه المرحلة انتكاسة كبرى على صعيد الثورة؛ إذْ أخرجتها عن إطارها المحلّي، و جعلتْها ترتهنُ إلى جماعات الدعم الخارجي، الذين كانوا يسعون بشتى الطرق إلى محاصرتها، و إفراغها من محتواها، و ذلك بحرفها عن مقاصدها في إكمال مسيرة الربيع العربي، الذي سيشكل علامة فارقة في تاريخ المنطقة.

 لقد أحسَّ قادة عدد من دول الإقليم بالاندفاعة الكبرى التي تتقدّم بها هذه الثورة، ممثلةً بعذريتها التي أكسبتها مزيدًا من التعاطف المحلي، و الإقليمي، و الدولي، فهي عذراء في السياسة، و في الدين، و في القتال، و في الخبرة، و في التجربة، و في الآيديولوجيات، و في الشجاعة، و البطولة، و الإصرار، و الثبات، إنها عذراء في كل المناحي؛ فخشوا من تطاير شررها إليهم؛ فيكونون هُمْ ،و نظام الأسد في مهب التغيير.

 فقاموا تحت نُبل المسعى ( مساعدة الثوار ) بتلغيم الثورة، و تفجيرها من داخلها؛ من خلال ربط تقديم هذه المساعدات بإيصالها إلى جماعات غلبَتْ عليها سمة السلفية الجهادية، و بالطبع لن يفوتنا أمر المساعدات التي ارتبطت بمشاريع أخرى علمانية، تمّ تغليفها بغلاف ( جماعات الاعتدال ).

 إنّنا ـ و نحن بصدد الحديث عن اِرتدادات هذه الخطوة ـ لا نميّز بين الأدلجة الدينية، أو العلمانية، أو الشوفينية؛ فكلها دخيلة على المشروع الوطني الذي كانت تنادي به الثورة السورية على يد الصفين ( الأول، و الثاني ) من الثوار، على مدى ستة أشهر من السلمية، و سنة و نصف من حمل السلاح بيد وطنية خالصة، أيام حركة الضباط الأحرار، و من ثمّ الجيش الحر، الذي كان أهمّ ما ميّزه أنه كان مجرد عنوان للثورة، فليس تنظيمًا، أو حركة، أو جماعة، و يمكن أن ينتظم في إطاره، كل من يرغب في مقاتلة النظام دون أن ينتسب إليه. وهذه وضعية مناسبة لمجتمع فطري لا تعنيه الصراعات الآيديولوجية، و لا يأبه لها. فالغاية منه ابتداءً أن يكون مؤسسة عسكرية بديلة عن قوات الأسد.

 أمّا تلك الجماعات المأدلجة، التي تنتمي إلى السلفية الجهادية العالمية، التي جابت ساحات العالم الإسلامي، ساعية لجعل مشروعها يتنزل من عالم الأفكار إلى عالم الواقع؛ فكانت ذات بُعد عقدي صارم، و لا تأبه كثيرًا للخصوصية المحلية؛ لا بل تحاربها، و حمّلت السوريين مالا تطيق قواهم في مواجهة أعدائها العالميين.

 إنّ الذي يدعونا للحديث عن اِرتدادات هذا الزلزال الآيديولوجي، الذي أصاب الثورة، في المرحلة الثالثة من عمرها الممتد على أربعة مراحل:

 1ـ مرحلة السلمية.

2ـ مرحلة التسلّح.

3ـ مرحلة الأدلجة، و الارتهان الخارجي.

4ـ مرحلة تقنين الدعم و فرض الإرادات.

 هو ما لمسناه من تداعياته المرّة عليها، و على أهدافها، في إقامة نظام وطني جامع على أنقاض نظام الأسد، الذي أوجع السوريين كثيرًا بلعبه بالورقة الطائفية الدينية حينًا، و الإثنية العِرقية حينًا آخر؛ فإذا بهم يغرقون ثانية في هذا المستنقع الآسن.

 إنّ المجتمع السوري الذي خضع لعملية تجهيل متوحشة نجحت في تجريده من كل عناصر القوة وأدواتها، لم يستفد من الآيديولوجيات، و الفلسفات الراديكالية التي كانت الحركات الوطنية العربية تتمتع بها، كما لم يستفد من الوعي السياسي، أو من أي تشكيل سياسي إلا بمقدار ما يعبر عنه خطاب حزب البعث، بصيغته الأمنية المتوحشة، أو النظام بصيغته الطائفية الدموية، كما لم يستفد من أية تجربة قتالية ثورية، أو نظامية، و لا من الإسلام كمرجعية حضارية، و شرعية، و عقدية، و سياسية، و لاسيّما بعد أن أحال النظام الإسلام للصوفية المغرقة بألوان الشطحات الفكرية، و السلوكية.

 لقد كان مجتمعًا مقهورًا، و مجردًا من: الخبرة، و التجربة، و المرجعية، و الآيديولوجيات. فما كان منه في أول مواجهة شاملة مع النظام إلا التحصن بـ ) الفطرة )، بوصفها المجال الوحيد الذي يتيح له التمايز عن النظام من جهة، والمرجعية الوحيدة التي يمكن الاسترشاد بها في مواجهة النظام من جهة أخرى.

 ففي الوقت الذي كانت تبدو فيه الفطرة علامة ضعف عقدية عنده؛ إلا أنها كانت علامة قوة بارزة يصعب اختراقها، على الرغم من محاولات الاحتيال، و التلبيس التي كانت تبذل من قبل الآخرين.

 فالعودة إلى الفطرة تعني، بوعي أو من دون وعي، القطع التام مع ما يصادمها من آيديولوجيات، و فلسفات، و حتى امتطاءات لظهر الثورة من هذه الجهة أو تلك. و هي تعني في الوقت نفسه إمكانية الوقوع في المحاذير العقدية من دون وعي؛ و عليه يبدو طريفًا أن تنادي مظاهرة بـتحكيم الشريعة، أو بـعودة الخلافة، ويكون فيها، أو في غيرها من ينادي بـالحظر الجوي، أو بـالحماية الدولية.

 لذا ليس عجيبًا أن يلحظ المرء لدى السوريين شعورًا بالغربة، والاستهجان في أية مناقشة ذات صلة بالمسائل العقدية، و الآيديولوجية، و حتى السياسية، فتجد الكثيرين منهم حين يشتد النقاش عمقًا، يجيبون بالقول: ( أنا لا أفهم ما تقول )، وبعضهم الآخر يختصر النقاش بالقول: يا أخي .. يا عمي .. أنا مسلم على الفطرة، و هذا يكفيني .. لا توجع راسي .. الله يرضى عليك.

 إزاء مجتمع هذه حاله ستشعر أنك إذا تعاطفت مع المشروع الإسلامي السُّني؛ فعليك أن تطيق صبرًا من تعدُّد مشاربه:

 1ـ السلفي بأطيافه المتنوعة ( إخوة المنهج ): أقصى اليمين ( تنظيم الدولة الإسلامية، و ملحقاته التي التحقت به قبل و بعد ضربات التحالف الأمريكي )، وسط اليمين ( جبهة النصرة، جند الأقصى، جبهة الأصالة و التنمية، و من يشايعهم بمسميات أخرى )، يسار اليمين ( حركة أحرار الشام، و أخواتها الجهادية في تجمع الجبهة الإسلامية ).

 2ـ التحريري: له فصيل واحد فقط ( تجمع أنصار الخلافة ).

 3ـ الإخواني: الذي أمدّ كتائب عدة ( الدروع، فيلق الشام، جيش المجاهدين، نور الدين الزنكي ).

 4ـ المشايخي: يذكر لهم من الكتائب ( كتائب تابعة لتجمع دعاة الشام، تجمع حلف الفضول ).

 و إذا غضيت الطرف عن هذه المشاريع الإسلامية السُّنية؛ فعليك أن تتعايش مع كلٍّ من:

 1ـ الدعوات الدرزية المنادية بتشكيل كتائب خاصة بهم في السويداء، و ريف إدلب.

 2ـ كتائب الآشوريين الموجودة في الحسكة.

 و بالطبع لن يفوتنا الحديث عن مسألة القوميات، و الأعراق غير العربية، فدونك مثلاً:

 1ـ لجان حماية الشعب الكردي التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني العلماني.

 2ـ الكتائب الكردية الوطنية المنضوية تحت ألوية الجيش الحر.

 3ـ الكتائب التي ينوي اليزيديون تشكيها في الفترات القادمة دفاعًا عن أنفسهم من تغوّل رجالات تنظيم الدولة الإسلامية عليهم في جبال سنجار العراقية من قبل، و لاحقًا في مناطق عفرين السورية.

 هذا كلّه، و سورية تحت سمع العالم، و نظره، و في المركز من اهتمامات الدول العظمى، و المجتمع السوري ــ كما رأينا ــ بعيدٌ عن الأدلجة، و السياسة، خارجٌ من غيابات قُمْقُم أمضى فيه قرابة نصف قرن من التجهيل، و الظلم، و القهر، و العسف.

 إنّ الذي نظمَ السوريين في عِقد ثورتهم هذه هو خيط الظلم ـ ياسادة ـ ، و بُغيتُهم في البدء من ثورتهم مشروعٌ وطنيٌّ جامع؛ فلا تحمِّلوهم ما لا يطيقون من مشاريع آيديولوجية أكَدَّتْ هممَكم، و فتَّتْ من عضُدكم، و جعلتْكم مطيةً لمشاريع دول تعرفونها، و طرائدَ لأجهزة مخابراتها.