التمرد الطائفي .. وهيبة الدولة

التمرد الطائفي .. وهيبة الدولة!

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

في الأسبوع الأخير من يونيو 2008م ، اجتمع ما يُسمى مجلس نواب جنوب السودان ، وأصدر قراراً يقضى بشراء السلاح من جميع أنحاء العالم ، بما فيها الولايات المتحدة !! في الوقت نفسه كان أحد زعماء الجنوب ، ويشغل منصباً وزارياً في الحكومة المركزية بالخرطوم ، يشنّ هجوماً ضارياً على الحكومة التي ينتسب إليها ويصفها بأوصاف مقذعة !

لم يلفت الأمر أحداً في بلادنا ، ولا في السودان الشقيق فيما يبدو . وأقول إن بلادنا يعنيها الأمر لأنه يرتبط بالأمن القومي ، حيث يمثل جنوب السودان المصدر الرئيسي لمياه نهر النيل الذي هو أساس الحياة في مصر كلها .. دعك من كون السودان وإريتريا وأجزاء من إثيوبيا وأوغندا والصومال ، كانت ضمن الدولة المصرية في عهد محمد على وابنه إبراهيم باشا ، وظلت كذلك حتى بدايات الانقلاب العسكري في مصر عام 1952م ، حيث كانت العملة في بلادنا مصكوكة باسم ملك مصر والسودان ، واستطاعت بريطانيا التي كانت عظمى أن تقنع ساسة السودان وضباط الانقلاب بإجراء انتخابات لتقرير المصير انتهت بانفصال نصف الدولة سنة 1956م ، الذي ما لبث أن تعرّض للتخطيط العدواني الاستعماري من أجل تفتيته وتمزيقه !

روّج المستعمرون لفرية اتكأوا عليها لإشعال النار في جنوب السودان . قالوا : إن سكان الجنوب من النصارى ، وأن حقوقهم ضائعة لدى المستعمرين العرب في الشمال (!) . كان الواقع يقول إن الأغلبية الساحقة من أبناء الجنوب وثنيون . أي  لا دين لهم ، أو يعبدون آلهة من البيئة أو انطلاقاً من معتقداتهم الاجتماعية والخرافية . أما المتدينون فأغلبيتهم من المسلمين والبقية من النصارى ، دخلوا النصرانية على يد المنصّرين الذين ذهبوا إلى الجنوب البائس وعاشوا وسط الغابات والمستنقعات ، تحت ستار المساعدة ، وتقديم الخدمات الصحية والتعليمية .. والباقي معروف . فقد تم تسليح هؤلاء " المؤمنين " الجدد ، وتجهيزهم للحرب ضد الدولة والجيش والمطالبة بدولة نصرانية في الجنوب ، تفصل بين الاستعمار الإسلامي في الشمال (!) وقلب إفريقيا الوثني !

بسبب الخلافات والصراعات والمصالح الشخصية في الخرطوم ، قويت شوكة المتمردين في الجنوب ، وسقطت هيبة الدولة ، واستطاع المتمردون على مدى ثلاثين عاماً أو يزيد أن يحققوا المزيد من المكاسب ، وأن يخرجوا من الصراع بدولة وجيش وسفارات وهيمنة على الثروات ، بالإضافة إلى المشاركة في الحكومة المركزية بنائب رئيس يتكلم الإنجليزية ، ويرتدى القبعة البريطانية ويفرض شروطه بإلغاء الإسلام رسمياً ، وسحب البنوك الإسلامية من الجنوب ، وإذعان الخرطوم لقراراته !

التمرد الطائفي في السودان – ومصر – لا يستحى ، بل لا يعرف الحياء أصلاً ، لأنه مدعوم جهاراً نهاراً بالقوة الصليبية الاستعمارية التي تؤيده وتمنحه نسغ الحياة ، وتُموّله بالملايين دون عدّ أو حصر ، لدرجة أن مصرع " جون جارا نج " يعود إلى خلاف بينه وبين " يورى موسيفينى " حاكم أوغندا ، حول مليون دولار ، اقتنصها الأخير من رصيد الأول ، وهى من منح دول الدعم الاستعماري ، وحينما طالب جارانج يوسفينى بالمبلغ رفض ، ودبّر له حادث الطائرة التي أودت بحياته ، وكان البشير – كالعادة - هو كبش الفداء الذي ألصقت به التهمة !

هيبة الدولة سقطت !

وفى مصر المحروسة تبدو الأمور تسير في اتجاه يشبه الاتجاه الذي سارت فيه على أرض السودان الشقيق !

فقد كشّر التمرد الطائفي عن أنيابه ، واستثمر كل العناصر الداخلية والخارجية التي تحقق أغراضه وغاياته ، ومن خلال الأحداث التي افتعلها منذ الخانكة والزاوية الحمراء ؛ حتى أبو فانا ونزلة الفيوم ، فقد وظف بالمال الطائفي والنفوذ الطائفي صحفاً وإذاعات وقنوات تلفزيونية ومثقفين وكتابا ومسئولين ، لإثارة الرعب في قلب السلطة ، وتخويفها مما يُسمى " الفتنة الطائفية " والتلويح بالعصا الصليبية الاستعمارية الغليظة في واشنطن وكندا وعواصم الغرب الأخرى .

تأمل مثلاً المطالبة بإقالة محافظ المنيا لأنه لم ينفذ مطالب المتمردين بالاستيلاء على أراضى الدولة والإفراج عن قتلة " المسلم " البريء ، والتلويح بقطع رحلة " الأنبا شنودة " العلاجية في الخارج والعودة إلى مصر لمواجهة الأحداث والحكومة لأنه يشعر " بالقلق على شعب الكنيسة (!) " ويعدّ سلطات الدولة – كما يقول القمص مرقص عزيز خليل كاهن الكنيسة المعلقة – أحد أسباب الأزمة بسبب المماطلة في حل المشكلة بشكل جذري " ( القدس العربي 25/6/2008م). السيد اللواء المستشار الدكتور الوزير المحافظ ، محافظ المنيا ، يوم كان مستشاراً قانونياً لوزارة الداخلية كان يواجه المعارضة في مجلس الشعب – وخاصة المعارضة الإسلامية – بمنتهى الحدة والقسوة ، ولكنه اليوم ينتقى كلماته في مواجهة التمرّد الطائفي ، لدرجة أنه لم يستطع التعليق على تصريحات الأنبا شنودة المتحدية للدولة ، ووصفه أنه صاحب رؤية ولا يجوز التعقيب على كلامه ! ] .

 ثم تأمل مثلاً اعتصام ألف راهب بدير " أبوفانا  " في مواجهة لجنة الآثار والمساحة المختصة بتحديد الأبعاد القانونية والمساحة الأثرية للدير وحرمه حتى يتسنى البدء في استكمال السور الجاري تنفيذه والصادر به قرار من وزارة الثقافة . وقال القس " بولا أنور " المتحدث باسم مطرانية ملوي إن اعتصام الرهبان هو اعتصام سلمى للدفاع عن الدير ، مؤكداً أنهم في حالة دفاع لا هجومً (!) . لقد تم منع اللجنة من ممارسة عملها ، مما اضطرها لتحرير محضر في الشرطة ( المصري اليوم 25-26  / 6 / 2008م  ) و ( البديل 26/6/2008م ) .

[ هل يستطيع المسلمون أن يعتصموا في أحد المساجد ؟ وهل يمكنهم تحدى قانون تحريم التظاهر والاعتصام في دور العبادة ، الذي أعدّه فضيلة الجنرال وأصدره مجلس الشعب ؟ ] .

من المؤكد أن هيبة الدولة تتساقط وتتضاءل وتذوى في مواجه التحدي الذي يمارسه التمرد الطائفي ، وواضح أن مظاهرات التمرد الطائفي في عواصم الغرب ، والتنافس على إصدار قرارات من الكونجرس لإدانة الحكومة المصرية ، وقطع المعونات عنها ، تسبب رعباً للسلطة يدفعها إلى تقديم المزيد من التنازلات على حساب القانون والدستور ، وقبل ذلك هيبتها ونفوذها .

إن هذه المظاهرات ، التي تتبرأ منها قيادة التمرد في الكنيسة ، صورة من صور الانتهازية التي تستغل ضعف النظام ، وتسعى لتحقيق مطالبها غير المشروعة ، انتظاراً لتحقيق الهدف الأكبر ، وهو تحرير مصر العربية المسلمة من الاحتلال العربي الإسلامي ، وإعادتها إلى مصر القبطية المسيحية ديناً كما كانت قبل ألف وأربعمائة عام ، وبدون وجود الرومان !!