ما هو مشترك في فيينا: الفشل

الحياة

يُساق كلام كثير عن مغزى تغييب السوريين عن اجتماعاتفيينا، مع تأكيد القوى الدولية والإقليمية الحاضرة أن العمليةالتي ستقرر تفاصيلها ستكون بقيادة سورية!

العنوان الأبرز لوصف الغياب هو فشل الأطراف السورية فيأن يكون لها حضور مرموق، وأنها بلا استثناء أصبحت في«جيب» القوى الخارجية التي تتفاوض نيابة عنها. هذاالتفسير، وإن وصف حال السوريين، يوحي بأن القوىالخارجية ممسكة تماماً بخيوط اللعبة الداخلية، بل يوحيبانتصارات حققتها الأخيرة بتعزيز نفوذها على حسابالسوريين، ولم يتبقَّ أمامها سوى التفاوض على تفاصيلاقتسام الكعكة.

على صعيد متصل، ينتظر المتفائلون من محطة فيينا أنتكون الأخيرة، بعدما تعبت الأطراف المجتمعة من الصراعبأدوات سورية، وتوصلَ كل طرف بمفرده إلى القناعة العامةبعدم قدرة أي طرف على الانتصار. هنا قد تسوّق الإدارةالأميركية النتيجة بوصفها انتصاراً لسياستها، فكما هومعلوم أعلنت إدارة أوباما منذ بداية الصراع السوري ألّا حلَّسوى الحل السياسي، وفعلت ما بوسعها لمنع أي حسمعسكري. نهج إدارة أوباما هذا ليس جديداً، فحيثما لم تكنهناك مصلحة أميركية ملحة في حسم نزاع ما، تصرفتالإدارات الأميركية على قاعدة استنزاف المتحاربين حتىيصبحوا جاهزين للتفاوض. على سبيل المثال، هذا ما نُقلعن الرئيس الأسبق بيل كلينتون غداة فشل المفاوضاتالفلسطينية الإسرائيلية بإشراف حثيث منه، إذ تحدث عنعودة الطرفين إلى مائدة التفاوض بعد استنزاف فرصالحرب.

لكن النجاح الشكلي للفرضية الأميركية لا يدحض فشلإدارة أوباما في الكثير من المحطات السورية، بدءاً منتراجعها عن خطها الكيماوي الأحمر، مروراً بفشل مشروعتدريب المعارضة المعتدلة، وصولاً إلى تقرير التعاون معفصائل عسكرية كانت تنتقص من وزنها بالقول إنهممجموعة من المزارعين وأطباء الأسنان. أداء الخارجيةالأميركية في فيينا ينطوي على تلك السلسلة من الفشل،فالتنازلات التي أسرعت في تقديمها للروس والإيرانيين لمتأتِ من باب المرونة في التفاصيل كرمى للوصول إلى هدفأثمن. هي تنازلات تبتغي واحداً من احتمالين، إما استمرارعملية فيينا للقول إن قطار الحل السياسي على السكة، أوالتخلص من الصداع السوري بتسوية لا يهم مدى جديتهاطالما يمكن استثمارها كإنجاز.

للتغطية على فشلها، تستفيد الإدارة الأميركية من وجودفاشلين آخرين، فموسكو التي يحذّر الكثيرون من تورطهافي المستنقع السوري أخفق دعمها خلال أربع سنوات فيتثبيت حكم الأسد، وخلال شهر ونصف الشهر من مشاركةطيرانها تلقت قوات الأسد خسائر ضخمة جداً في العتادوالأرواح، من دون تحقيق تقدم بري يوازي قليلاً من حجمها. أن تستبق موسكو بالمفاوضات فشلاً أكبر، تلك سياسةوقائية جيدة، غير أنها منطقياً لا تجعلها في موقع منيستطيع فرض شروطه كفائز، والعديد من خصومها لايضيره انتظار لحظة الفشل المتوقعة للتفاوض بناء عليها.

قبل موسكو، كانت طهران قد تبجحت بسيطرتها المطلقة علىقرار الأسد، وانخرطت فعلياً في تفاصيل الصراع السوري،إلى حد إدارتها مباشرة العديد من المعارك ومن المفاوضاتمع فصائل المعارضة. الإمبراطورية الإيرانية الجديدة، التيتسابق مسؤولون إيرانيون للتبشير بها، سرعان ما كشفتعن تدهور كبير في النفوذ الإقليمي، إمدادات حزب اللهتُقصف متى شاءت تل أبيب، الحوثيون بدأوا يخسرون فيالحرب ما كسبوه في التفاوض السابق وفي مغامرتهمالعسكرية، نظام بشار بالكاد يستطيع المحافظة علىسيطرته على ثلث البلاد، الثلث الذي لم يعد ينفع كممرأسلحة لـ «حزب الله» مع الغارات الإسرائيلية المتجددة بعدالتدخل الروسي، وذلك بخلاف الخسائر الكبيرة في الأرواحالتي طالت قادة من «الحرس الثوري» ومن مختلفالميليشيات الشيعية.

على جبهة داعمي المعارضة، يتجلى الفشل في عدةمستويات، أولها الخلافات بين الداعمين وعدم وجوداستراتيجية دعم موحدة أو مشتركة، الأمر الذي انعكسبتشتت الفصائل التي تقاتل النظام تنظيمياً وسياسياً. وعلىرغم احتفاظ داعمي المعارضة بصداقة تقليدية مع الولاياتالمتحدة، فشلوا في إقناع إدارة أوباما بالحسم العسكري،أو حتى بإنشاء مناطق آمنة خارج سيطرة النظام، معالفشل في سد الذرائع الأميركية المستندة إلى الواقعالتنظيمي المهلهل للفصائل المقاتلة، وإلى تبني العديد منهافكراً إسلامياً متطرفاً أو إرهابياً. المسألة هنا ليست فينجاح نظام بشار في تسويق مقولة «إما بقاؤه أو الإرهاب»،في الواقع مثلما استثمر بشار في الإرهاب استثمر بعضالقوى الإقليمية فيه لأهداف مغايرة، ونجاح بشار، إن كانثمة نجاح، يرجع في قسم معتبر منه إلى استثماراتالآخرين لا إلى لعبته المكشوفة. مشكلة داعمي المعارضةوتشتتهم ستتفاقم في فيينا مع طرح فكرة قائمة موحدةللتنظيمات الإرهابية، فموسكو ستضغط وسيوافقها بعضالغربيين، وفق تصريح وزير الخارجية البريطاني مؤخراً، منأجل ضم تنظيمات إلى قائمة الإرهاب تحظى بدعم حكوميإقليمي. ذلك سيضع تلك الحكومات إما أمام خيار فقداننفوذها، أو خيار إعادة تشكيل تلك الفصائل على بنيةأيديولوجية مختلفة.

مشكلة عملية فيينا أن أكثر المنخرطين فيها جربوا الفشل فيالملف السوري، من دون أن يتوصلوا إلى قناعة حقيقية بأنهمفشلوا، وبأن وقت التنازلات الكبرى حان فعلاً. ثمة أطراف لاتخفي جشعها في أن تحقق بالمفاوضات ما عجزت عناغتنامه بالسياسة، وثمة أطراف تراهن على استهلاك الوقتليس إلا، على أمل أن تحقق ميدانياً ما لا يمكن تحقيقهسياسياً.

بالتوازي مع ذلك، يصعب الزعم أن السوريين بمجملهمتوصلوا إلى قناعة مشتركة بأن زمن التنازلات الكبرى قدحان. هناك تعب وتململ عامّان من الحرب، هذا ما تمكنملاحظته لدى القوى غير الفاعلة، أما القوى الفاعلة فيالحرب فلا تبدو مستعدة حتى الآن للتضحية بمتطرفيها،وهو شرط التوصل إلى حل وسط في أية تسوية من هذاالقبيل. نهج إنكار الواقع لا يصنع سياسة، لا داخلياً ولاخارجياً، وبوجود هذا الكَمّ من الفشل وإنكاره على طاولةواحدة لا يستبعد الوصول إلى تسوية عيبها أنها غير قابلةللتطبيق.

وسوم: 642