داعش: المسؤولية الأمريكية «اللي شبكنا يخلِّصنا»

تعمدتُ استخدام مصطلح «داعش» وليس «الدولة الإسلامية»، من وجهة نظري، ليس بسبب ملاءمة اسم «داعش» وموضوعيته فقط، ولكن لأنني أعتقد أن مصطلح «الدولة الإسلامية» مضلل إلى حد كبير؛ كما تترتب آثار سلبية على استخدام مصطلح «الدولة الإسلامية» حيث تكمن في طياته دلالة ضمنية مضللة تجذب وتثير اهتمام بعض الأجيال الجديدة من العرب والمسلمين (غير العرب) في الغرب وتحثهم وتدفع بعضهم إلى الانضمام إلى تلك «الدولة الإسلامية». لذلك.

بعد بيان ما سبق، أشعر أنه لا بد من تحديد أدوار الجهات التي ساهمت في قيام داعش، إذ سيمكّننا ذلك من تحديد مسؤوليات كل طرف في مكافحته لها، ناهيك بإصلاح الوضع الحالي وتعويض أولئك الذين عانوا على يدها.

* * *

وفي ما يتعلق بتحديد «مسؤوليات» إنشاء داعش وتمكينها، فإنني أعتقد أن النقاط التالية تصب في جوهر هذا الموضوع من وجهة نظري:

قام الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش الابن بغزو العراق عام 2003، من دون تفويض من مجلس الأمن كما أكد ذلك الأمين العام للأمم المتحدة حينذاك، وبـرّر بوش هذا الغزو بالإشارة إلى «علاقة العراق بالإرهاب بما فيه تنظيم القاعدة». كما ادعى أن العراق يملك أسلحة الدمار الشامل. وقد أنشأ مجلس الشيوخ في الولايات المتحدة بعد الاحتلال لجنة تحقيق باسم «اللجنة المختارة للاستخبارات» للتحقيق في تلك المزاعم، وقام تقرير اللجنة بتفنيد هذه الادعاءات  وأثبت عدم صحتها. حيث كان واضحاً في كلا التقريرين أن تنظيم القاعدة، لم يكن موجوداً في العراق قبل احتلاله من قبل إدارة بوش في عام 2003، وأنه لم يزدهر في العراق إلا أثناء الاحتلال الأمريكي.

* * *

إذاً، لم يكن الإرهاب وامتلاك أسلحة دمار شامل من قبل العراق هما السببان الحقيقيان للغزو الأمريكي للعراق واحتلاله. فماذا كانت الأسباب الحقيقية الأمريكية وراء ذلك؟

1 – إذا كان السبب الحقيقي هو أن المحافظين الجدد، يريدون إدخال الديمقراطية إلى العراق، وبغض النظر عن رأينا في عدم ديمقراطية النظام العراقي آنذاك، الذي كُنتُ أحد ضحاياه، فإن حجة الديمقراطية، يمكن الرد عليها وتفنيدها بما يلي:

(أ) إن النظم العربية كلها غير ديمقراطية، وإن كانت تختلف في درجة عدم ديمقراطيتها. ويمكن للمرء أن يضيف أن العراق لم يكن البلد العربي الوحيد الذي لم يختر حاكمه بشكل ديمقراطي، وأنه الذي قد تكون أغلبية شعبه غير راضية وغير موافقة على بقائه، وأنه ليس البلد العربي الوحيد الذي لم يكن شعبه قادراً على تغيير النظام. والسؤال هو لماذا تهتم أمريكا بعدم ديمقراطية النظام في العراق وتحاول تغييره دون غيره من الأنظمة غير الديمقراطية؟ وهل هناك أسباب أخرى غير موضوع «الديمقراطية» وراء رغبة أمريكا في تغيير النظام في العراق.

(ب) بالنسبة إلى أمريكا، فإن السمات الرئيسية للنظام العراقي لم تتغير خلال السنوات الخمس والعشرين قبل احتلاله. ومع ذلك، فأمريكا تعاونت مع العراق أثناء حربه مع إيران، والتي شجعته ودفعته إليها وزودته بمعلومات وبأسلحة وقروض… إلخ. فلماذا تغير موقف أمريكا من العراق، مع أن السمات الرئيسية للنظام لم تتغير.

نحن الآن في وضع نستطيع أن نفهم فيه الأمور أكثر من السابق بعدما نشرت المذكرات عن حرب الخليج الثانية عام 1991. حيث نشر شوارزكوف، الذي قاد الحرب، مذكراته بعد حرب الخليج.

وهي في قسمين: الأول عن حرب فييتنام التي شارك فيها، والثاني عن حرب الخليج. يقول شوارزكوف إنه في عام 1988 عُيِّن قائداً للقوات المركزية في أمريكا. وفي عام 1989 طُلب منه تقييم الأخطار التي تتعرض لها أمريكا في الشرق الأوسط. ويحكي عن الزيارات التي قام بها إلى الخليج، بما فيه السعودية، ومصر، وقد عاد من زياراته في أواخر عام 1989 وقدم تقريراً قال فيه: «إن الخطر الأول والرئيسي الذي يواجه الولايات المتحدة في الشرق الأوسط هو العراق». لذلك يُلاحظ أنه منذ أواخر عام 1989 وبداية عام 1990 بدأ الكلام في الإعلام الأمريكي، والغربي بالتبعية، عن «المدفع العملاق»، وأوقفوا القروض من بنك التصدير الأمريكي للعراق، وبدأ التحريض في الإعلام الأمريكي والبريطاني ضد العراق. فلماذا تغيّر الموقف الأمريكي من العراق؟ ويضيف شوارزكوف أن لدى القوات المركزية تمريناً سنوياً، وأن التمرين الخاص لعام 1990، لأول مرة، تم تخطيطه على أساس أن العدو هو العراق وليس الاتحاد السوفياتي، كما كان الأمر سابقاً. وتداخل مع حرب الخليج. وفي مجال التحضير لهذا التمرين، وقبل أن تبدأ حرب الكويت، وُضعت الأهداف التي تقصف في العراق وكل التفاصيل الخاصة به.

(ج) ولكن لماذا كانت أمريكا تريد أن تضرب العراق وتحتله؟ الجواب عن ذلك هو أنه خلال الحرب العراقية – الإيرانية، حيث ساعدت أمريكا ودول أخرى العراق، لمصالح خاصة بها، استطاع العراق أن يستفيد من التكنولوجيا التي أُمِدَّ بها، وأن يطور بعض الأسلحة التي تشكل نوعاً من الردع لإسرائيل. وقد رأت أمريكا أن ذلك غير مقبول استراتيجياً لها، ويشكل خطراً على إسرائيل وعلى مصالحها في الخليج، لذلك كان المطلوب ضرب العراق.

(د) واستنتاجاً مما أشير إليه في الفقرات السابقة، فهناك من يعتقد، وأنا منهم، أن الهدفين الرئيسيين لاحتلال العراق من قبل الولايات المتحدة كانا: أولاً، القضاء على الجيش العراقي لمصلحة إسرائيل  ومصلحة الولايات المتحدة بالنسبة إلى مصالحها في الخليج، وبخاصة بعد غزو العراق للكويت عام 1990، وهو ما تم فعلاً بعد احتلال العراق، كما هو مبين بشكل مفصّل في هذه الافتتاحية لاحقاً. وأما الهدف الثاني فكان موضوع النفط وزيادة الطاقة الإنتاجية لنفط العراق، لضمان حاجات أوروبا ولتحكم أمريكا في هذه الورقة في علاقاتها مع أوروبا والعالم، وهو ما تم فعلاً، حيث تم، أثناء الاحتلال الأمريكي منح شركات نفطية عالمية (من أجل كسب تأييدها للفكرة) مختلفة عقوداً لزيادة الطاقة الإنتاجية للنفط في العراق إلى 12 مليون برميل يومياً، وهي طاقة لا يستطيع العراق تسويقها، لأن السوق العالمية للنفط لا يمكن أن تستوعب ذلك، أي أن العراق كان سيدفع كلفة توسيع طاقته الإنتاجية التي لن يستعملها كلها، في حين كان عليه تحمّل كلفة صيانة هذه الآبار الجديدة. ونتيجة للضجة التي أثارتها القوى الوطنية في العراق، وبسبب انخفاض أسعار النفط وعدم استطاعة العراق دفع كلفة زيادة هذه الطاقة الإنتاجية للشركات المنفذة، فقد تم تخفيض استهداف توسيع طاقة النفط من 12 مليوناً إلى 8 ملايين برميل يومياً. وحتى هذه الطاقة الجديدة للإنتاج لن يستطيع العراق استغلالها كاملة، ولكنها ستبقى ورقة بيد الولايات المتحدة والغرب عموماً لاستخدامها عند الضرورة. وما يؤيد موضوع النفط كهدف، هو ما جاء في مذكرات رئيس الاحتياطي الفدرالي ألن غرينسبان حين سئل عن رأيه في سبب إقدام أمريكا على احتلال العراق فقال إن «السبب كان هو النفط».

* * *

وفي ما يتعلق بغزو العراق للكويت، فأود أن أبيّن، وبقدر من الاختصار، رأيي حول هذا الموضوع:

أولاً، أود ابتداء القول، إنني ضد استعمال القوة في حل أي خلاف بين بلدين عربيين أو أكثر. ومن هذا المنطلق فإنني أرفض غزو العراق للكويت. كما لا يمكن اللجوء والاستناد في العقد الأخير من القرن العشرين وفي ظل النظام الدولي القائم إلى دعاوى تاريخية لتغيير الحدود ولغزو الكويت وضمها إلى العراق من دون موافقة شعبها، مهما كانت قوة تلك الحجج التاريخية، لأن اللجوء إلى الأسباب والتبريرات التاريخية سيغير الكثير في الخارطة العربية الحالية وفي «دول» عربية قائمة الآن، بغضّ النظر عن رأينا في تلك «الدول».

ثانياً: أعتقد أن العراق كان هدفاً لضربة أمريكية، سواء غزا الكويت أم لا، للأسباب التي سأشير إليها فوراً. ولا يعني هذا تبرير غزو العراق للكويت، لأن نتائج الضربة الأمريكية للعراق من دون غزوه للكويت كانت ستكون مختلفة، عربياً ودولياً، وكان سيكون من المتعذر على أمريكا أن تجمع كل «التحالف» العربي والدولي الذي جمعته، ولما كانت الأنظمة العربية وقفت مع أمريكا، مختارة أو مضطرة.

ثالثاً: أما استهداف العراق من أمريكا، الذي بدأت بعض ملامحه قبل أكثر من سنة من غزو العراق للكويت، حيث بدأت حملة إعلامية أمريكية – بريطانية واسعة ومنظمة على العراق حول امتلاكه أسلحة دمار شامل (أسلحة كيميائية… المدفع العملاق… إلخ) وإثارة قضايا حول حقوق الإنسان في العراق، علماً أن أمريكا تعاونت مع النظام في العراق خلال معظم فترة الحرب العراقية – الإيرانية تعاوناً وثيقاً، فإن هذه الحملة الإعلامية كانت تهيئة الرأي العام الأمريكي، والغربي بعامة، لتوجيه ضربة عسكرية للعراق، للأسباب التالية:

أ – لقد حصلت تغييرات أساسية في النظام الدولي خلال السنوات الأخيرة، وانتقل العالم من مرحلة «الحرب الباردة» بين الجبارين (أمريكا والاتحاد السوفياتي) إلى «مرحلة الوفاق» بينهما، بعد حل الاتحاد السوفياتي وظهور «روسيا الإتحادية» وما ترتب عليها من برامج نزع وتحديد أسلحة الدمار الشامل. وكان المعيار الرئيسي في مرحلة الحرب الباردة لتحديد «القوى الكبرى» في العالم هو «القوة العسكرية»، ولذلك كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي القوتين العظيميين في العالم. أما في مرحلة «الوفاق»، فقد بدأ معيار «القوة الاقتصادية» يأخذ أهمية تدريجاً ليصبح بشكل متزايد المعيار الرئيسي لتحديد «القوة الكبرى» في العالم. ولأن الولايات المتحدة كانت تعاني أوضاعاً اقتصادية سيئة حينئذ: ركود اقتصادي وعجز كبير في ميزانيتها، ونظراً إلى نشوء مجموعات كبرى في العالم مثل الجماعة الأوروبية واليابان، فقد كانت ستظهر قوى عظمى أخرى في العالم على أساس المعايير الاقتصادية ولن تكون أمريكا إلا واحدة منها. كما أن اعتماد أمريكا على النفط المستورد كان في تزايد حينذاك، وهي كانت تستورد خلال عام 1990 أكثر من نصف حاجة استهلاكها من النفط، وأن بعض التقديرات الأمريكية كانت تشير إلى أنها قد تضطر إلى استيراد ثلثي حاجتها من النفط من الخارج.

ب – لقد خرج العراق من الحرب العراقية – الإيرانية بانتصار أكبر مما كانت الولايات المتحدة ترغب فيه. كما استطاع العراق تطوير التقانة التي مكنته أمريكا والغرب منها أثناء تلك الحرب، لاعتبارات خاصة باستراتيجيتها في المنطقة، وتمكَّن من تطوير تلك التقانة وبعض الأسلحة لديه، بحيث أصبح يمتلك قدراً من «الردع» يمكن أن يحول دون العربدة الإسرائيلية حيث يؤثر في أمن إسرائيل  وفي بعض مشاريع التسوية الأمريكية في المنطقة، وفي تصحيح جزئي لميزان التسلح المختل بين العرب وإسرائيل. لذلك كان تدمير القدرة العسكرية العراقية الناشئة، التي بدأت تخرج عن الطوق الأمريكي، هدفاً أمريكياً ملحاً.

ثالثاً: كان هناك استفزاز كويتي غير مبرر للعراق، إذ تشير بعض الوثائق والمعلومات، التي تكشفت فيما بعد إلى أن الأمر لم يخلُ من تنسيق بين الكويت وأمريكا حوله.

 فقد كانت هناك محاولة للضغط الاقتصادي على العراق، كانت الكويت إحدى أدواتها، من خلال تخفيض أسعار النفط بزيادة الإنتاج عن الحصص المقررة من قبل الأوبك. وكان العراق قد وضع خططه على أساس دخل معين من عوائد نفطه، على أساس حصته المقررة من الأوبك والأسعار المتفق عليها، ليموّل هذا الدخل حاجاته من الاستيراد الضروري، وبالتالي فإن أي تخفيض لأسعار النفط وبالتالي لدخل العراق من إنتاجه النفطي سيحدث له إرباكات اقتصادية لا يستطيع تحملها. وقد قامت الكويت والإمارات بزيادة إنتاجهما من النفط بأكثر من حصتهما التي حددتها لهما الأوبك، وهو ما أدى إلى تخفيض الأسعار العالمية للنفط في حدود وصلت أحياناً إلى 20 – 30 بالمئة من أسعاره. والذي يجلب الانتباه أن الكويت والإمارات لم تكونا بحاجة ملحة إلى دخل إضافي لتمويل برامجهما التنموية أو عجزهما، وأنه في حالة الكويت بالذات لم تكن لها أي «مصلحة اقتصادية» في ذلك، لأنها زادت إنتاجها من حوالى 1,5 مليون برميل يومياً إلى حوالى 2 مليون برميل يومياً، وهو ما أدى إلى انخفاض أسعار النفط في الحدود المذكورة أعلاه، أي أن حصيلة مجموع دخلها من حجم الإنتاج الجديد لم تزد على دخلها السابق. ولا بد في هذه الحالة أن تكون لديها دوافع أخرى غير اقتصادية لهذا العمل الذي أضر بالعراق وبالأقطار العربية الأخرى ذات الإنتاج القليل للنفط والتي تحتاج إلى عوائده بصورة ماسة (مثل الجزائر ومصر واليمن وسورية). وقد كشف وزير النفط الكويتي حينئذ (الشيخ علي خليفة الصباح) عن هذا الدافع حينما عاتبه وزير النفط الجزائري (بو سنة) حينما كان رئيساً للأوبك، وزار الكويت وغيرها للبحث معهم حول تخفيض أسعار النفط، حيث أكد له وزير النفط الكويتي أن تخفيض الأسعار ليس موجهاً ضد الجزائر وإنما ضد العراق!

كما تبين أن الكويت قامت أثناء الحرب العراقية – الإيرانية بالتجاوز على احتياطي العراق من حقل الرميلة المشترك بين العراق والكويت، الذي يقع أكثر من 90 بالمئة منه في الأراضي العراقية، وكان العراق قد قام بإغلاق آبار هذا الحقل لديه أثناء الحرب، إلا أن الكويت استمرت تضخ من هذا الحقل ومن المخزون النفطي فيه العائد للعراق، وهو ما أكده مهندسون كويتيون عملوا فيه وأكدته بعض المصادر الوطنية الكويتية المعارضة . وهذا بدوره يثير التساؤل أيضاً، لماذا تلجأ الكويت إلى هذا الاستفزاز في حين أنه لديها من الاحتياطي النفطي في الكويت ما يمكِّنها من إنتاج كل ما تريده؟

 وهذا كله يثير تساؤلاً مشروعاً، وهو لماذا يلجأ بلد صغير مثل الكويت إلى استفزاز جار كبير مثل العراق وهو يعلم طبيعة النظام الحاكم فيه؟

رابعاً: إن مأساة حرب الخليج تمثّل مجموعة من الأخطاء والخطايا، فقد رد العراق على خطأ الكويت واستفزازها له بخطأ أكبر بغزوها. وردت السعودية مختارة أو طائعة، بما ترتب عليه تعقيدات كثيرة. وجاء مؤتمر القمة العربية، الذي عُقد بعد غزو العراق للكويت، ليتخذ قراراً بأغلبية بسيطة يعطي فيه تغطية عربية للتدخل الأمريكي ثم المشاركة مع هذه القوة الأجنبية في الحرب.

خامساً: إن هذه الأخطاء والخطايا التي ارتكبت أثناء أزمة الخليج ولا تزال، توضح، في رأيي، أزمة الديمقراطية في الوطن العربي ومدى الحاجة الملحة إليها. فلو كانت هناك ديمقراطية في الكويت، ولو لم يُحَلّ مجلس الأمة الكويتي، لما أقدمت حكومة الكويت على الاستفزازت التي قامت بها. ولو كانت هناك ديمقراطية حقيقية في العراق، لما استطاع النظام العراقي غزو الكويت. ولو كان هناك ديمقراطية في السعودية، لما استطاعت طلب أو قبول التدخل الأمريكي فيه. ولو كانت هناك ديمقراطية حقيقية في الأقطار العربية المشاركة في القمة العربية، لما استطاعت القمة أن تغطي عربياً التدخل الأمريكي ثم تشارك في حرب الخليج.

سادساً: لقد كان موقفي من غزو العراق، وبعد ثلاثة أشهر فقط من ذلك الغزو، ومن خلال الندوة الذي عقدها مركز دراسات الوحدة العربية في القاهرة حول «أزمة الخليج وتداعياتها على الوطن العربي» في نيسان/أبريل 1991، من الوضوح والجرأة بحيث لا يدع مجالاً للشك في هذا الموقف .

إلا أنه، وللأسف، كان تأثير هذا الغزو العراقي للكويت في الأخوة الكويتيين كبيراً لدرجة أن كثيرين منهم فقدوا صوابهم كما فقدوا القدرة على التعامل الموضوعي مع الأمور. وامتد هذا الموقف غير العقلاني إلى موقف البعض منهم مني شخصياً ومن مركز دراسات الوحدة العربية.

 ورغم وجود أقلية في الكويت من أمثال المرحوم جاسم القطامي عضو مجلس الأمناء المؤسس لمركز دراسات الوحدة العربية واسماعيل الشطي – التي استمرت في تفهمها لحقيقة ما تم وأن قرار غزو العراق للكويت تم بقرار من الرئيس صدام حسين ومن دون معرفة وموافقة الشعب العراقي، إلا أن بعض هذه المواقف الانفعالية استمر حتى بعد تحرير الكويت. وكمثال على ذلك ما جاء في كلام الصحافي الكويتي آنذاك، فؤاد الهاشم، في مقاله في صحيفة الوطن يوم 19 كانون الثاني 1993: «الكويتيون يا شعب العراق – لا قائده – أرفع منكم وأطهر»… «نقول للعراق ولشعبه كله لا لنظامه الحالي أو المستقبلي – أنتم أسفل السافلين … فاللهم سلّط على العراق غضبك واللهم لا تبقي فيها حجراً على حجر»!.

يكشف العرض السابق الخلفية التي تفسر إلى حدّ كبير «التبرير» المعلن وغير المعلن للتدخل الأميركي في العراق قبل انتهاء الحرب مع ايران وبعدها. كما تلخص الأسباب الرئيسة لاجتياح هذا البلد العربي ولتدميره المنهجي بحيث مهدّت لقيام الشروط الموضوعية والذاتية لقيام تنظيم «داعش».

* * *

وفي ضوء ما تقدم يصبح تحديد مسؤولية الدور الأمريكي في قيام «داعش» وتمددها واتساعها ممكناً تبعاً للشواهد التالية:

لقد ساعد تفكيك الجيش والأجهزة الأمنية، إضافة إلى حل وزارة الدفاع العراقية، من قبل بول بريمر، توسيع هذه المنظمات الإرهابية في العراق بعد الاحتلال، فبريمر هو الذي عُيـّن «المحافظ الأمريكي للعراق» بعد الاحتلال في أيار/مايو 2003، وذلك فور تسلّمه منصبه مباشرة . ونتيجة ذلك، فقد تسبب الأمريكيون بحصول فراغ وفجوة أمنية وطنية، وفّرا الوضع المثالي لازدهار الجماعات الإرهابية.

كما أصدر بريمر أيضاً «قانوناً»، عين من خلاله ما أسماه «مجلس الحكم المؤقت» الذي تشكل على أسس وقواعد طائفية ومذهبية وعرقية وكرّسها بموجبه، وما عاد الأمريكيون سيتكلمون عن شيء اسمه «الشعب العراقي»، بل عن عرب وأكراد وتركمان، وعن شيعة وسنة. كما أصدر قانوناً يسمى «قانون اجتثاث البعث»، وهو ما أسفر عن إقصاء الآلاف من كبار موظفي الحكومة العراقية لأنهم «بعثيون». ولم يؤخذ بعين الاعتبار أن النظام السابق (البعث) قد حكم لأكثر من خمسة وثلاثين عاماً، وأنه ما من موظف حكومة يرتقي بالوظائف الحكومية العليا إلا «بالتسجيل» كمنتسب للحزب، وبغض النظر أيضاً عما إذا كان مقتنعاً فعلياً بذلك أم لا، وبغض النظر عما إذا كان أي من الذين تم اجتثاثهم قد انتهك القانون بأي طريقة. وفي مقابلة مع قناة «العربية» التلفزيونية، حاول بريمر أن يبرر ويدافع عن «حل الجيش العراقي»، فادعى أن الجيش العراقي لم يكن موجوداً في ذلك الوقت. لكن هذا الادعاء لم يكن صحيحاً، حيث إنه في الوقت الذي أصدر فيه أمره رقم 2، كان هناك فيلقان من الجيش العراقي في شمال العراق، أحدهما في الموصل والآخر في كركوك، وكل منهما كان مؤلفاً من ثلاث فرق ولم يشارك الفيلقان في الحرب. وحين أصدر بريمر «التعليمات»، ووفقاً لشهود عيان، قام قادة وضباط كلا الفيلقين بترك ثكناتهم وأسلحتهم التي استولى عليها الأكراد، وبعض القبائل العربية وجماعة النقشبندية (وهي طريقة صوفية). كما أن بعض هذه الأسلحة استخدمت في وقتٍ لاحق من قبل المقاومة العراقية، وتنظيم القاعدة، وبعد ذلك من قبل داعش.

دفعت الإجراءات المشار إليها سابقاً أعداداً كبيرة من ضباط الجيش العراقي السابقين وموظفي الحكومة المقصيين، الذين تُركوا من دون أي وسيلة عيش، أن يصبحوا مرشحين طبيعيين للتجنيد من قبل تلك المنظمات الإرهابية. كما أنه من المعروف جيداً الآن، أن عدداً غير قليل من قيادات داعش هم ضباط سابقون في الجيش العراقي المنحل وبعضهم ذوو خلفية دينية بالأصل . وبهذه الطريقة صبت إجراءات الاحتلال الأمريكي في مصلحة تنظيم القاعدة وداعش فيما بعد، سواء عن قصد أو عن غير قصد،. وفي النهاية، كانت نتيجة الاحتلال ليست تغيير النظام فحسب، بل تدمير الدولة العراقية أيضاً. كما أن داعش كانت تمارس سلطتها في الموصل في ظل الاحتلال وقبل انسحابه في نهاية عام 2011. وكانوا يفرضون الضرائب على الناس وفقاً لمهنهم تحت أعين سلطة الاحتلال. كان البغدادي، «أمير» داعش، في سجن بوكا في جنوب العراق وأفرج عنه الأمريكيون قبل انسحابهم من العراق. وتفيد تقارير شهود عيان بأن البغدادي كان يجند ويدرب أتباعه داخل ذلك السجن، كما أنه كان ينسق مع ضباط بعثيين سابقين موجودين في السجن نفسه. ، كما أطلق سراحه من قبل قوات الاحتلال الأمريكية قبل انسحابها من العراق. كما أن الطريقة التي سيطرت داعش بواسطتها على الموصل، في حزيران 2014، تبقى لغزاً محيِّراً. فقد كانت هناك ثلاث فرق من الجيش العراقي التي تشكلت أثناء الاحتلال الأمريكي للعراق، وعلى أسس طائفية واثنية، وهي يُفترض أنها كانت مدربة من قبل قوات الاحتلال ومجهزة بأسلحة أمريكية حديثة، وكانت قياداتها قد تم اختيارها من قبل قوات الاحتلال، وعلى الأقل بالتشاور معه. وفجأة، وما إن بدأت داعش بهجومها في الموصل حتى قام قادة هذه الفرق الثلاث وضباطها من ذوي الرتب العليا بالفرار وهجر فرقهم وترك أسلحتهم الضخمة وراءهم. وقامت داعش بأخذ تلك الأسلحة التي مكنتها، إضافةً إلى عوامل أخرى، من إنشاء «دولتها». وعلى الرغم من كل التحقيقات التي قام بها ما يسمى «البرلمان العراقي» وجهات خارجية أخرى، فلا يزال من غير الواضح حتى اللحظة من هو المسؤول عن ذلك النزوح، رغم أن العديد من الاتهامات وُجِّهت نحو الأمريكيين، وذلك استناداً إلى علاقاتهم بقادة الفرق الثلاث في الموصل.

* * *

لقد أعطت أعمال العنف الأخيرة التي قامت بها داعش في فرنسا ودول غربية أخرى دافعاً لبعض السياسيين الغربيين ووسائل الإعلام الغربية لمهاجمة العرب وغير العرب من المسلمين الذين يعيشون في الغرب. وكان صوت دونالد ترامب (Donald Trump) مثالاً صارخاً لذلك، حيث إنه أراد أن يمنع المسلمين من دخول الولايات المتحدة في حال انتخابه رئيساً. هذه الأصوات، كما نأمل، لا تعبر بالضرورة عن رأي الأغلبية في الغرب. وقد نشرت جريدة الغارديان مقالة ذكرت فيها أسماء اثني عشر مسلماً بارزين، على سبيل المثال، وليس الحصر، ممن ساهموا في بناء الحضارة الأمريكية. فاستناداً لما قاله كاتب المقال، ستيوارت جيفريز، إن هؤلاء الأشخاص «صاغوا أمريكا» على حد تعبيره . وبالرغم من بوادر إيجابية كهذه، فإن الأقوال والتصريحات والتصرفات التي تشبه أسلوب دونالد ترامب، ومع أنها قد تكون آراء الأقلية، إلا أنه من الممكن ومن المرجح أن تخيف العرب والمسلمين الذين يعيشون في الغرب كمواطنين صالحين، والذين قد يصغون لتلك الأصوات الشاذة ويعيرونها انتباههم فيعملوا برد الفعل وينضموا إلى داعش.

وسوم: العدد649