الفلوجة بين مطرقة داعش وسندان الحصار-

 نقلت أجهزة الإعلام، وبالصور والفيديو، جثث لعائلات من الفلوجة حاولت الهرب، فألقت قوات داعش القبض عليها وأعدمتها وألقت بجثثها في نهر الفرات. فمحاولة هروب تلك العائلات من سيطرة قبضة حديدية ولاختراق حصار عسكري مُحكَم على مدينة الفلوجة، يعبّر عن حالة قاتلة يعيشها أهالي الفلوجة نتيجة الحصار الذي أُحْكِم على المدينة فنضبت كل أسباب الحياة من أكل ودواء وماء نظيف وأمن، ولمدى أشهر وسنين (سنتان). الأمر الذي يجعل المخاطرة بهروب ينتهي بالإعدام وإلقاء الجثث بالنهر يتساوى مع البقاء والصبر تحت حكم داعش من جهة، وتحت الحصار الذي يضرب المدينة بحجّة القضاء على داعش.

       لقد أثبتت تجربة كل الحصارات المماثلة أن ضحاياها هم عموم الناس ولا سيما أضعفهم حالاً فيما المقاتلون الذين يسيطرون على الوضع والذين يشكّلون حجّة الحصار لفرض الاستسلام عليهم هم آخر من يتأثر في الحصار. ولهذا لا حلّ إلاّ في مقاتلتهم، وأمعاؤهم ملأى بالطعام مهما طال الحصار.

ولهذا فإن التجربة أثبتت أن حصار مناطق آهلة بالسكان لا يؤدّي إلى الاستسلام والانتصار العسكري من تلقاء نفسه. بل لا يعود على ممارسِهِ إلاَ بالإدانة والسمعة السيئة حتى بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية. وقد أثبتت التجربة كذلك أنه لا يؤدي إلى الثورة ضدّ حَمَلَة السلاح المُسيطِرين على الناس. لأن القبضة الحديدية لا تسمح للعُزّل والمُسَيطَر عليهم بأن يثوروا أو يحتجوا، فهم تحت الحصار دروع بشرية تحت تحكّم المُسَيْطِر عليهم. ولهذا تقوم داعش بإعدام مُحاولي الهرب.

الأمر الذي يُسقِط كل الحجج العسكرية والسياسية أو التسويفات لضرب الحصار على المناطق الآهلة بالناس العاديين. علماً أن المُحاصِر يُعلِن أنه لا يستهدف الأهالي.

ومن هنا فإن محصلة حصار الفلوجة هو حصار الأهالي والناس العاديين والمستضعفين، عملياً، وليس حصار داعش عسكرياً تمهيداً للقضاء عليها.

وإذا كان للفلوجة رمزيتها الخاصة التي تتعدّى مجرد حصار مدينة لأغراض عسكرية، يصبح حصارها سلبياً وعملاً مضاداً حتى لضاربه عليها. فالفلوجة هي التي كانت في طليعة المقاومة للاحتلال العسكري الأمريكي للعراق، وهي التي قصفها الاحتلال الأمريكي بالقذائف المنضبة نووياً، وقد ترك فيها أكبر نسبة للسرطنة ولا سيما بالنسبة إلى الأطفال. فكيف تُكافأ بمثل هذا الحصار الذي راح يفتك بالناس العاديين وليس بداعش التي فتكت بأهلها وهي تُحكم قبضتها الحديدية عليهم، وتخضعهم لسيطرتها، وأغلبهم يرفضون تلك السيطرة على التأكيد، ولكن كيف يظهر ذلك ما داموا قد وُضِعوا بين مطرقة داعش وسندان الحصار.

وللفلوجة رمزية وأهمية لوحدة مكوّنات العراق التي يُراد لها أن تتمزق وتتعادى وتتقسّم حتى لا يبقى ثمة عراق موحّد يلعب دوره التاريخي في نهضة العرب والمسلمين. ولهذا فإن حصاراً قاتلاً للفلوجة لا يخدم وحدة العراق ولا تَحرُّرَه ولا نهوضه، ولا سيما حين تكون حكومة حيدر العبادي مسؤولة عن الحصار. بل هو شخصياً بصفته القائد الأعلى للجيش.

إن الأخبار التي راحت تدعم بعضها بعضاً عن الحالة التي وصل إليها وضع أهالي الفلوجة من حيث فقدان كل أسباب البقاء على قيد الحياة، كما من حيث مداواة المرضى والجرحى تفرض أن يتوقف هذا الحصار فوراً، وأن تعلو كل الأصوات الحريصة على وحدة العراق وعلى مقاومة داعش، من داخل العراق وخارجه، ومن مختلف المستويات السياسية والفكرية والثقافية ولا سيما العلمائية بالمناداة لوقف الحصار والإسراع في إيصال الطعام والدواء والماء النظيف إلى الأهالي. ولا يجب أن تُقبل الحجّة التي تصرّ على الحصار باعتباره موجهاً ضدّ داعش. فداعش تُواجَه بالقتال وليس بالحصار، وليس بتحويل الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ والشباب إلى دروع بشرية في خدمتها، ولا سيما حين تستغل ما يعانونه من حصار لتحرّض ضدّ محاصِريها.

فليس الحصار ولا الجوع أو فقدان الدواء هو الذي حرّر تدمر من داعش، ولا أيّة مدينة عراقية قبل اليوم، وإنما هو القتال. فلماذا الإصرار على حصار الفلوجة والاحتجاج بأنه الطريق لمواجهة داعش فيها. فالفلوجة لا تُحرَّر من داعش إلاّ بالقتال. فداعش ليست جائعة ولا عطشى ولا ينقصها دواء في الفلوجة بل الحصار يُقوّيها ولا يُضعفها.

أما أهالي الفلوجة من الناس العاديين فهم الجوْعى والعطشى وبلا دواء، ومن دون أسباب البقاء على قيد الحياة في الفلوجة. فها هنا المأساة الإنسانية والكارثة الأخلاقية، والجرح العميق لوحدة الشعب.

إن هذه الصرخة ضدّ حصار الفلوجة يجب أن تُقرَأ معمّمة على كل حصار لمدينة أو قرية ما زال أهلوها يسكنونها، وبلا استثناء. فالحصار غير مسوّغ إلاّ في الموقع العسكري البحت. أما المختلط بين العسكر والأهالي والناس العاديين فلا أهمية عسكرية له إن كان يُقصَد منه العسكر وليس الأهالي. لأن الحالات المختلطة أثبتت أن العسكر الأقل تضررّاً وتأثراً من الحصار، إن ثبت وقوع ضرر عليهم أصلاً. أما الضحايا الحقيقيون ودافعو الثمن الأغلى فهم الناس العاديون، والفقراء منهم بخاصة. فإذا كان المحاصِرُ فعلاً لا يقصدهم وإنما يعتبر الحصار تكتيكاً عسكرياً يستهدف القوات المسلحة، فعليه ألاّ يلجأ لهذا التكتيك العبثي من الناحية العسكرية. ولكنه المُسيء إليه من النواحي السياسية والإنسانية والأخلاقية، ناهيك عن أبعاده المدمِّرة لوحدة مكوّنات الشعب، ولاتقاء الفتنة.