محاكم التفتيش والشرطة القمعيّة

خارج إطار نظام الطغيان الأسدي الذي دمر سوريا وشعبها، وبعيدا عن جرائم السفاحين الذين يختالون بقتل الشعب السوري؛  فهناك اقتتال سوري سوري عسكري وسياسي وفكري وديني وقومي، وهناك من يحرّكه، مستغلا حالة من قصور فكري وسياسي، ومن نزاع على النفوذ وصراع عصبوي ومظلوميات تاريخية بائسة، وهي من مخلّفات عقود قهر واستبداد.  وكما قال عمر بن الخطاب:" اذا اراد الله بقوم سوءا منحهم الجدل ومنعهم العمل".؛ فإنّ أطيافا من  السوريين اخذت تستمريء  الثرثرة والجدل العقيم والاتهام  بالتخوين، وتثير  النزاع والاقتتال.  وهذا  أمر يحمل الفتنة والتخريب والفشل.

    لم يكن لدى الحاضن الثقافي السوريّ نظرية فكرية أو سياسيّة واقعية وحداثيّة وأصيلة، فجاءت الفوضى شديدة كزلزال ترافق  حراك الثورة السورية،  وانتشر الجدل الضحل، واتسعت الغوغائية إلى  تنظير فارغ وإدانة للآخر واستعلاء وإلغاء. من الناحية الفيزيائية،  قياس الأمور يتطلب جهاز قياس. لكنْ، إنسانيا هذا صعب بالمطلق،  فالبشر مختلفون ومن غير الممكن قياس صحة الأمور في مقياس واحد ...فلكلّ شخص وجماعة رأي وتجربة ومقياس للحقيقة.  طريق العلم والمعرفة والفلسفة هو حل؛ لأنّه يعمل على خلق آليات التفكير العلمي والموضوعي والمنطقي، وتسهيل القياس بأدوات  ومعايير.  أما أن نقيس بناء على آراء كل شخص  وأهوائه؛ فهذا جدل يقود إلى جهل وجهالة وفساد.  والواقع في أمس الحاجة الآن لقيادات ناضجة وطنيا وفكريّا وسياسيا، ولمرجعيّة فكريّة أخلاقيّة تعمل على لم هذا الشتات وتقويض الفتنة والجهل.

    العمل على بناء  منظومة سياسية فكريّة أخلاقية، ضرورة،  خصوصا بعد  أن عمّت الفوضى  في هامش الثورة على  نظام الاستبداد  الذي عمل عقودا  على إلغاء المنطق والتفكير والعقل، والتي لا تقتصر  على مواقع التواصل الاجتماعي التي لمع فيها نجوم ، وتلألأت صفحات جذابة للتهويش، بل امتدّت إلى  كثير خطاب الإعلام البديل المدعوم؛ إذ  يجري إنفاق الملايين على مؤسسات إعلامية وتنمويّة وثقافية وحقوقية، لكي تقوم  بدور الشرطي والمشاغب  والمشاكس والمشوش على الثورة أو المعارضة او على  جهة ما،  لتصيّد الأخطاء والتشكيك بالجدوى وتهديم المغزى النبيل، لا للتقويم والبناء وصقل الأداء. فصار الشخص في موقع  الخطاب،  قائد المسيرة أو الجنرال  الثوري ، ينزل ضربا في  الآخرين، وتشويها وتزييفا.. وغدت المفاهيم مغلوطة والحقيقة ضائعة، وبرز ظلاميو العصر الجديد من منتفعين وانتهازيين طغاة، يتكلمون عن الحرية والتنوير والنزاهة والثورة، وهم محمومون بالمكسب والمصلحة وتجيير الولاء وفقهما،  وفي تاريهخم من  كان يملك، موقعا حزبيا أو ثقافيا أو إعلاميا سياسيا في منظومة النظام الأسدي،  وكان جزءا من التحاصص أو الرشوى أو الفساد.صحيح أن الواقع السوري كان قهرا للجميع، وقلة من نأت بنفسها عنه؛ لكن هذا الواقع ترك أثره الأخلاقي والنفسي في البشر. العقل الثقافي القائم على القمع والتشويه متوحش أيضا مثل الحذاء العسكري.

    وكما كشفت الثورة  الأقنعة عن انتهازيّة إعلاميين وأدباء ومثقفين، وجماعات كان  يمولّها النظام،  فقد برز فيها تحت عناوين التنمية الثقافية والإعلام الجديد حراك مرتبط بتمويل معيّن؛ فنمت طفيليات راحت تقوم بدور بوليس ومحاكم تفتيش على المعتقد والفكر والانتماء، مدعومة بالقوة والمال والنفوذ. مهمتها الهجوم على كل من يخالف الرؤية المطلوبة، سواء كانت سياسية، أو دينيّة، أو فكريّة، أو أخلاقيّة. استشراقية أو سلفيّة، فهناك شرطة للعلمانيين، وشرطة للإسلاميين، وشرطة للمنظمات، وشرطة للإعلام. شرطة للسلميين. وشرطة للعسكريين. وكلّها تحتكر الحقيقة والحق، وتصادر  مصداقيّة الآخر في وطنيته وأخلاقه ومفاهيمه.... وقد جاءت منسجمة مع الضعف الفكري والثقافي والفلسفي للحراك؛   فالعلمانية، في أحسنها،   هي التنوير الذي تجمد وتحنط. والدين في أفضله  هو العقل الذي تعطّل وتوقّف عن الإنتاج والإبداع. والقوميّة طرح عنصري ..أما أن ينفتح الجميع على الحوار والجدل الواعي المرتبط بالإنتاج  وتطوير المعتقد والفكر. فهو أمر تأخّر كثيرا رغم أهميّته الكبرى.   

    لا يقتصر الأمر على  ضرب أي شرعية سياسية بديلة للأسد؛ فالمعارضون الذين تدعمهم بيوتات السياسة الدوليّة، والذين يسهمون بشكل كبير في تهديم صورة المعارضة السياسية الرسمية. وبعض الفصائل العسكرية التي ترتبط مصالحها بمخططات لا تلتقي مع شرعية المعارضة السياسية؛ هم، أيضا، جزء من هذه الغوغائية والفساد. ويزداد  الصخب الشعبوي والغوغائي  نتيجة  اتساع الفجوة بين التنظير والواقع، وبين الأنا والآخر، وبين  السياسيي والمفكر والمثقف وبين عموم الناس.  مسافة يبدو  تجاوزها ليس بالأمر السّهل؛ فهي أشبه بحالة  انفصام ... فمن يقوم بتهديم الدين وتحقيره، لم يأخذ بعين الاعتبار أنّه لا يمكن فصل وجدان الإنسان عن دينه. ولا فصل الدولة عن المفاهيم الدينية العليا، وكان عليه أن يقدم، بدل ذلك، نقدا  يطالب بالتجديد والتنوير.  ومن يفرض  تطبيق الدين بالشكل الرجعي البدائي لم يأخذ بعين الاعتبار حرية البشر وحرية التفكير والاعتقاد والرأي وثورة التغيير، وكان عليه ألا يكره الناس على ممارسة الدين  وفق رؤيته فهذا ضد الفطرة، فالنهضة تستوجب التجديد في رؤية الفقة والتشريع والتأويل .كلا الطرفين بعيد عن استحقاقات الواقع وراسخ في النصوص الإرثية  والشعارات والمقولات، من دون إعمال فكر وتحليل واستنهاض للمعاني الملائمة لطبيعة المرحلة والواقع. والقوميون أيضا، مثلهم، يستوردون النظرية القومية  ولا ينتجونها من تاريخهم وفكرهم.

  هناك من قام باسم الديمقراطيّة باستثمار كل الظروف التفكيكيّة وفتح الأحقاد العرقية والصراعات الطائفية،  للثأر والوقوع في  حرب أهلية وتقسيمية.، وتقدّمت منظمات كثيرة تلبس ثوب المعارضة، أو معارضة المعارضة  لتصبح مؤسسات مضادة للثورة . تختبىء خلف غايات تنموية وتمكينية وإعلاميّة وسياسية.  ولم تستطع القيادات الثقافية والفكرية والسياسية تسخير الطاقات بالشكل الجامع المنهجي للوقوف في مد الثورة المضادة،  ولتحرير سوريا وتحقيق إسقاط النظام. لا مفر من أن يوازي المقاومة العسكرية والسياسية حراك ثقافي وتنوير ديني في كل المواضيع الفكرية والثقافية والدينية والسياسية والقوميّة. وحتى تستمر ثورة الحرية والكرامة هي بحاجة للعقل، وأشد ما يؤذيها الغوغائية والضجيج والفوضى. 

الثورة حركة جماعية تاريخية ضمن إطار التاريخ ولا تقترن بشخص أو حزب أو جماعة.  و وتتطلّب صياغة أفكار وإعادة النظر في الرؤية وفي ردات الفعل والفعل، وفي ممارسة الهوية وتوظيف كل المكومات التاريخية السوريّة من عروبة وقوميّات أخرى ودين وإنسانية وعالمية ضمن سياق دولة وأمة. جميع المكونات قادرة أن تنشيء حضارة جديدة وفي دولة  حداثية علمية عادلة عندما يتساوي في جميع مواطنيها،  وبقواعد مجتمع مدني وقادرة أن تعمل على حل إشكالية كيف يمكن توظيف العقيدة  والانتماء  حضاريا بشكل حيوي ومنتج وإنساني. وما يمكن فعله للجميع هوالتعاون لبناء تاريخ مشترك عادل.

وسوم: العدد 668