الأبعاد السياسية لبيع قناة «أون تي في»!

عندما أعلن رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس بيع محطته التلفزيونية «أون تي في»، لرجل الأعمال المصري أيضاً محمد أبو هشيمة، اكتشفت أنه لم تتولد لدي رغبة في التشكيك في الصفقة، التي لا نعرف حجمها، كما فعلت في المرة الأولى، حتى اعتبرت أن استمرار جابر القرموطي في العمل فيها مما ينسف فكرة البيع، فكيف يمكن لمشتر أن يحتفظ به مذيعاً!

حدث هذا قبل الانقلاب العسكري، عندما فاجأنا ساويرس بالهروب لباريس بلد الجن والملائكة، ومن هناك أعلن أنه نظراً لشعوره بالخطر في عهد الحكم الإخواني فقد ترك مصر مرغماً، وأرسل لأصدقائه صيحات الحزن، فلم يوطن أولاده إلا أن يكونوا مصريين، ولهذا فإن ابنه يتوجع من ألم الشوق لـ «الملوخية»، ولم يستطع أن يلبي طلبه. يومها تلقيت اتصالاً من أحد مقدمي البرامج يخبرني أن ساويرس قد هرب بالفعل خوفاً من تنكيل الإخوان به، فقد كان هروبه بعد أن تلقى اتصالاً من «فاعل خير» أخبره أن سيارة من الحرس الجمهوري في طريقها إليه لتلقي القبض عليه، فأخذ حقيبة ملابسه وطار إلى مطار القاهرة!

كان المذيع، الذي لا يعمل في قناة «أون تي في» يتهجد وهو ينقل لي هذا الموقف، وكان مطلوباً مني أن أصدق، ولأن فضائيات الانقلاب، كانت يداً على ما سواها فقد نقلت هروب «رجل الأعمال» خوفاً من البطش الإخواني، فقد عملت فيلما من واقعة الهروب، وعادت فيه وزادت ولتت وفتت، ومن قصة اشتياق نجله للملوخية «حدوتة مصرية»، فمزقوا قلوبنا كما فعلت الفنانة المتقاعدة عفاف شعيب، التي تم استضافتها تلفزيونيا في أيام الثورة، لتعلن أن المظاهرات كانت سبباً في إغلاق مطاعم المهندسين، لدرجة أن حفيدها (يا ولداه) الذي لم يتجاوز العامين من عمره المديد، يطلب «ريش» و»بيتزا»، لكنها لم تستطع أن تلبي نداء الفطرة. فيا له من وحش كاسر، فلم يتجاوز العامين من عمره ومع هذا يأكل «ريش»!

لم يكن لدى الإخوان إعلاماً ليواجه حملة نجيب ساويرس، مع أنه آل إليهم بحكم الوضع الجديد إعلام الدولة، ولم تكن لدى أهل الحكم رغبة في توضيح الموقف، يبدو أن عبقري، طالبهم بعدم الرد، وباعتبار أن الناس تعرف الحقيقة، وعلى أساس أن الجماهير تضرب الودع، وتقرأ الفنجان!

وإذ فجأة يتم الإعلان عن تسوية مالية بين رجل الأعمال الهارب من بطش الإخوان، لأنه صاحب رأي مختلف، وإذا به متهرباً من دفع ضرائب بالمليارات مستحقة عليه للدولة وتم خفض المبلغ ليكون (11) مليار جنيه مصرياً، دفع منها بمقتضى التسوية أربعة وتبقى عليه سبعة مليارات، تم التنازل عنهم بعد الانقلاب العسكري، الذي كان ساويرس جزءاً منه، وباعتبار أن «زيت الدولة في دقيقها» و»ليس بين الخيرين حساب»، كما يقول المثل المصري الدارج!

صالة كبار الزوار

الرئاسة في عهد الرئيس مرسي، أرسلت مندوباً منها لاستقبال ساويرس في صالة كبار الزوار، استقبال الفاتحين، ضمن خطة بث الثقة في قلوب المستثمرين لدرجة أن محمد أبو العنيين، رجل الأعمال المقرب من نظام مبارك، والنائب السابق عن الحزب الوطني الحاكم، والمتهم في قضية موقعة الجمل، وصاحب قناة «صدى البلد» سافر مع الرئيس في طائرته إلى الصين.

عقب العودة المشمولة بروح القدس، أعلن نجيب ساويرس أنه باع قناة «أون تي في»، لرجل أعمال تونسي يعمل في باريس، وكتبت في هذه الزاوية «فضائيات وأرضيات»، أنفي عملية البيع هذه، فالقناة لم يجر عليها أي تغيير، فحتى جابر القرموطي استمر يقدم برنامجه «مانشيت»، فكيف لرجل أعمال تونسي، لا يهتم حتى بتغيير مذيع، أو تغيير سياسة، أو حتى يدفع بمذيع تونسي ليطل من شاشتها، ليتركها مشغولة بالشأن المصري، وكأن رجل الأعمال التونسي المقيم في باريس، لديه تطلعات لخوض الانتخابات البرلمانية في المحروسة!

كنت أنفي، وكان ساويرس يؤكد أن عملية البيع قد تمت، وبعد الانقلاب أعلن هو بنفسه أنه لم يبع «أون تي في»، وأنه ما زال المالك لها، وكان من الواضح، أنه والقناة تنضم لترسانة القنوات التي تعمل ضمن منظومة التمهيد للانقلاب.

البيع الثاني

الآن جرى الحديث مرة أخرى عن بيع «أون تي في»، والإعلان تم في البدء من جانب المشتري أبو هشيمة، وهناك كلام عن أنه اشترى جريدة «صوت الأمة» أو في طريقه لشرائها، فضلا عن شراء قنوات تلفزيونية أخرى. فماذا يفعل بهذه الترسانة من وسائل الإعلام، وهو المالك لموقع وصحيفة «اليوم السابع»، ويمكنه تأسيس فضائية لن تكلفه إلا رسوم التسجيل، وكذلك بتأسيس صحيفة أو أكثر، لا سيما وأن «صوت الأمة» لم تعد كما كانت من حيث التوزيع والتأثير؟!

مثل هذه التساؤلات ستذهب بنا بعيداً، وسوف تقذف بنا إلى عالم «قراءة الكف»، لنحاول البحث عن الأسباب، وهل للفتى تطلعات شخصية، وكانت هناك تجربة إطلاق محطة تلفزيونية سألت صاحبها عن دوافع إطلاقها فقال من حقي أن أحلم بأن أكون رئيس مصر، ومع أنه لا توجد عندي تطلعات كبرى كهذه، فقد تفهمت طموحه، والسيسي نفسه حلم بأن يكون رئيساً، فلا تثريب عليه!

ومن الخاص يمكن أن ننطلق إلى العام فقد يكون الشراء لخدمة توجه معين، وقبل الانتخابات الرئاسية زارني في مكتبي رجل أعمال غير معروف، ليقول لي إن خطتهم شراء مؤسسات إعلامية قديمة للمرحلة المقبلة، ولما نصحته بإنشاء مؤسسات حديثة، لأن القديم عليه أعباء ضخمة وليست له قيمة في سوق الإعلام، سحب شهيقاً قبل أن يدفعه زفيراً وهو يتحدث بهيام عن «عبق التاريخ»!

وقد يكون الأمر أبسط من هذا، تطبيقا لمثل مصري ذائع: «من معه جنيه ومحيره يشتري به حمام ويطيره».. وهو مثل قديم لأنه يتحدث عن الجنيه باعتباره عملة مهمة، وهو وإن جار عليه الزمان فيظل له اعتباره، فيقول مثل آخر تستخدمه القواعد من النساء: «الوردة تذبل ورائحتها فيها»، وتطبيقا لهذا فكلما زرت تركيا وجدت نصاباً، يطلب مني وهو في حالة وجد أن أريه «الجنيه المصري»، فهذه أمنية له. في آخر زيارة قلت للفتى الهائم، إن المصريين أنفسهم لا يحفلون بالجنيه!

دوافع أبو هشيمة في الشراء، ليست موضوعنا، فما تشغلنا هي دوافع ساويرس في البيع، فهل يستشعر خطراً آتياً، وهل يخشى من ثورة تقوم في مصر، سيكون حتماً أحد ضحاياها لكونه محسوبا على الانقلاب على «ثورة يناير» والحكم المنتخب فباع شركة المحمول «موبينيل»، وباع قناة «أون تي في» ليكون عند وقوعها «خفيفا .. خفيفا»، فلا تربطه بمصر إلا مواقع على الانترنت التي ينفق عليها ومطبوعة ورقية يمكن أن تدار من الخارج أو أن تتوقف، فضلاً عن شراكة في «المصري اليوم» ليست مكلفة، لا سيما وأن أنجاله هم الآن فعلا خارج مصر، ولم يعودوا يشتاقون للملوخية؟!

«بشرة خير»، وقد يكون البيع لاستشعاره أن السيسي يقود مصر للمجهول، فباع بحثاً عن الخلاص الشخصي، فلا أمل ينتظر والمحروسة تنتقل من فشل إلى فشل فلا يوجد ملف واحد نجح فيه قائد الانقلاب!

دوافع البيع

في مداخلة على برنامج «العاشرة مساء» على قناة «دريم»، أرجع «ساويرس» دوافع البيع إلى أمرين: الأول أن القناة لا تغطي نفقاتها. وهذا ليس سبباً مقنعاً للبيع من وجهة نظري، فالإعلام لا يغطي نفقاته، لا سيما مع المرتبات الضخمة وغير المبررة التي تدفع لمقدمي البرامج في القنوات التلفزيونية الخاصة في مصر.

وقوله إنه ليتدارك هذا لا بد من أن تخرج القناة عن خطها كمحطة إخبارية لتذيع مسلسلات، و«أون تي في» قناة إخبارية، هو قول غير صحيح فـ «الحياة» كانت تستحوذ على كل إنتاج الدراما لا سيما في شهر رمضان، ومع هذا فشلت!

الأمر الثاني: هو ما عبر عنه ساويرس من أن قناته أغضبت الحكومة والقوى السياسية، ولا أعرف من يقصد بالقوى السياسية، لكني أعلم من يقصد بالحكومة، فهل السيسي وسكرتيره عباس كامل، الذي يدير الإعلام في مصر بالتعليمات، وهذا هو الأوقع فلا يوجد هامش للحرية بإمكان إعلام ساويرس أن يتحرك فيه، وقد كانت الضغوط الأمنية وراء تقاعد كثير من الإعلاميين في قناته، وبدأت القائمة بريم ماجد، ويسري فودة، وانتهت بيوسف الحسيني لمجرد أنه استضاف وزير التعليم الأسبق حسام عيسي ليقول إن صنافير وتيران مصريتان، كما فرضت الأجهزة الأمنية عليه أن يقيل مدير القناة «ألبرت شفيق»، لأنه أراد أن يعيد ريم ماجد للشاشة من جديد ببرنامج نسائي هو «جمع مؤنث سالم»!

فساويرس ساهم في عودة حكم العسكر، ظنا منه أن سيسوي بواسطته حساباته مع خصومه السياسيين، فجاء الدور عليه، فهذا هو الاستبداد على مر الزمان!

أزمة «ساويرس» في ظنه أنه سيكون شريك السيسي في الحكم، فاته أن العسكر كالفريك، وقد ورد في الأثر: الفريك لا يحب شريك»!

وسوم: العدد 669