حتى تتعايش مع الآخرين.. تفهَّمْ مواقفهم

عندما تكون مديراً لمؤسسة يجب أن تتفهَّمَ مسالك العاملين ومواقفهم.

وعندما تكون أباً فعليك أن تتفهَّمَ مسالك أولادك!.

وعندما تكون جاراً فعليك أن تتفهَّمَ مسالك جيرانك.

وعندما تكون داعيةً إلى هدىً فعليك أن تتفهَّم دوافع المدعوّين.

وعندما تكون قاضياً فعليك أن تتفهم مسالك المحامين والمدّعين والمتهمين.

وهكذا وهكذا...

**********

وقد يُظَنُّ أن هذا التفهّم يعني بالضرورة أن تعذر الآخرين في مسالكهم، وأن تتقبّل أخطاءهم وتقصيراتهم وانحرافاتهم... وهذا الظن لا يصحّ دائماً.

وحتى ندخل في الموضوع يجب أن نميّز بين مفهومين مختلفين يتعلّقان بتفهُّم مواقف الآخرين، لكنهما قد يلتبسان في أذهان بعض الناس: مفهوم التقمُّص الوجداني، ومفهوم التعاطف الوجداني.

أما مفهوم التقمُّص الوجداني فيعني أن نضع أنفسنا مكان الآخرين، ونحاول أن ننظر إلى الأمور من المنظار الذي ينظرون هم منه. وقد يحتاج الأمر، في هذا، إلى أن نستمع إلى وجهات نظرهم، وأن نحاورهم... وبعدئذ قد نعذرهم، أو نلومهم، أو...

وأما مفهوم التعاطف الوجداني فيعني – زيادة على ما يعنيه التقمص الوجداني – أن نؤيد الآخرين، ونتبنّى وجهات نظرهم، ونسوِّغ لهم ما يعملون، ونمتدحه وندافع عنه.

وإذا كان التقمص الوجداني ضرورياً كي نحسن التعامل مع الآخرين بتوازن وموضوعية وإنصاف، فإن التعاطف الوجداني لا يكون إلا حين نرضى فعلاً عن تصرفاتهم.

ولنضرب على هذا وذاك مثالاً:

لاحظ المدير أن الموظف (س) يتكرر منه التأخر عن الالتحاق بعمله صباح كل يوم. ولدى التحقق من حال هذا الموظف، بسؤاله مرة، وبسؤال من يعرف أحواله عن قرب، تبيّن له أن زوجة هذا الموظف تعاني من أمراض تمنعها من القيام بخدمة المنزل والأولاد، وهذا ما يجعل زوجها مضطراً لأن يقوم بنفسه ببعض هذه الخدمات، ويهيئ الأولاد للذهاب إلى المدارس... وهو ما يجعله يتأخر عن الدوام في كثير من الأحيان.

في هذه الحال تفهَّمَ المدير سلوك موظفه، وحدث معه التقمص الوجداني لحال هذا الموظف، كما أنه أشفق عليه، ورثى لحاله، وتعاطف معه وجدانياً.

وهذا المدير لاحظ مثل هذا التأخر عند موظف آخر. لكن تبين له، بعد التحقق كذلك، أن هذا الموظف يسهر مع بعض زملائه وأصدقائه، يلعبون بالنرد، وقد يشربون الخمر... وهذا يجعله بحاجة إلى التأخر في النوم صباحاً، والتأخر عن الدوام!. وعندئذ قدّم المدير النصح لهذا الموظف، ثم أنذره، ثم عاقبه!.

لقد تفهّم سلوكه، ووضع نفسه مكانه، وعلم أن هذا الوضع يقتضي التأخر عن العمل. لكنه وضعٌ خاطئ من أساسه. لذلك لم يتعاطف معه وجدانياً، بل تعامل معه على أنه وضع مريض!.

***

بعد هذا يمكن أن نستخلص بعض الموجهات والنتائج:

1- لابد من الإنصاف في فهم سلوك الآخرين. فهذا رجل يقصد جمع المزيد من المال، وذاك حريص على الشهرة، والآخر كسول، والرابع ضعيف المواهب ويصعب عليه الأداء الجيد، والخامس يعاني من أمراض، والسادس موهوب مبدع يفكّر بطريقة غير معتادة!.

2- لا يكفي أن تبني رأيك في الآخرين على حقيقةٍ اطّلعت عليها بنفسك، أو سمعتها من غيرك. فلعلّ هذه الحقيقة لا تعبّر عن الموقف الكامل (في المثال السابق كان التأخر الصباحي حقيقةً في سلوك كلا الموظفين، لكنها حقيقة مجزوءة، فالحقيقة الكاملة تبيّن أن حال الموظف الأول تختلف كثيراً عن الثاني).

3- لا يجوز أن تسارع إلى إساءة الظن بالآخرين، وتفسير سلوكهم على النحو الذي يدينهم، فهناك مواقف تبدو، للنظرة العجلى، أنها خاطئة، أو تحمل نوايا سيئة، مع أنها في حقيقتها شيء آخر. وهنا: أن تخطئ فتحسن الظن بمن هو سيّئ، خير من أن تخطئ فتسيء الظن بمن هو حسن. وهذا ما نفهمه من كلام رب العالمين: }يا أيّها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن. إن بعض الظن إثم، ولا تجسسوا...{ فبعض الناس يعُدُّون سوء ظنهم بالآخرين نباهةً وذكاء، وقد يُتْبعون ظنّهم هذا بالتجسس، لعلهم يحصلون على دليل يؤكد ظنّهم.

وهذا المسلك خطير في شؤون الحياة الاجتماعية.

ألا فاعلم أن الأصل أن تحسن الظن ما وَسِعَك ذلك، وأن تلتمس للناس الأعذار، ما أمكنك ذلك!.

4- قد تحكُمُك اهتمامات معينة وموازنات وتوجهات... وتنطلق عفوياً لتفسير سلوكات الناس وفق اهتماماتك وموازناتك وتوجهاتك... كأنك تفترض أنهم يحملون في نفوسهم مثل هذه الاهتمامات، مع أنهم قد ينطلقون من اعتبارات أخرى. مثلاً قد تملأ نفسك الاعتبارات العشائرية أو الإقليمية، وترى أن رئيس أحد الأقسام في مؤسستك قد عيَّن أحد الموظفين من أبناء عشيرته، فتتَّهِمَه أنه يحابيه لهذا الاعتبار، ويكون رئيس القسم غافلاً كليةً عن هذا المعنى، وقد عيَّنه لكفاءته وخبرته فحسب!.

تذكَّر أنه في بعض الأحوال يكون الخلل منك أنت، وليس من الذي تنتقده. فأصلح نفسك!.

5- أحد المفاتيح المهمة لفهم سلوك الآخرين أن تحاورهم، وتستمع إليهم، وتُشعرهم بالثقة. فكثيراً ما تتعجل في تفسير سلوكهم تفسيراً خاطئاً، وكثيراً ما تُشيح عنهم بوجهك، وتغلق أمامهم قلبك، فلا ينفتحون عليك، ويكون التعامل بينك وبينهم كحوار الطرشان!.

- عندما تطّلع على سلوكٍ ما، لصاحبك أو مرؤوسك... لا تتسرّع في إصدار حكمك على ذلك السلوك، أو، في أقل تقدير، لا تصدر حكماً قطعياً، بل يكفي أن تقول: إنه غالباً يقصد كذا!

- أعط نفسك علامة نجاح كلما استطعت أن تقلل من التصرفات الخاطئة عند أقرانك وأصحابك... وسوف تستحق المزيد من علامات النجاح عندما تحوّل السلوك الخاطئ إلى سلوك جيد، وتنقل الخصم إلى صديق، والفاسق إلى تقيّ، والمنحرف إلى مستقيم.

- كن صبوراً وأنت تصحح عقائد الآخرين وقيمهم ومفاهيمهم، وتعالج سلوكهم الخاطئ... فهي مهمات عسيرة قد تجلب لك المتاعب والأذى... لكنها تمنحك في النهاية رضوان الله وراحة الضمير. اقرأ وصية لقمان لابنه: }يا بنيّ أقم الصلاة وأمُرْ بالمعروف وانْهَ عن المكنر، واصبِرْ على ما أصابك. إن ذلك من عزم الأمور{

- لا تتوقع ممن تصحح أفكارهم ومسالكهم أن يقدّموا لك الشكر، بل توقّع منهم الأذى، ووطّن نفسك على الصبر... إنه وصفُ أهل العزائم.

- اعلمْ أخيراً أن أئمة الهدى أعطَوا من أنفسهم القدوة الحسنة، وصبروا على الْتِواء النفوس، وتبجّح الباطل، وابتَغَوا الأجر من الله، فأعانهم الله وفتح لهم القلوب، ونَصَرَهم وجعل لمنهجهم السيادة.

}إنّا لننصر رسلَنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد{ سورة غافر:51.

وسوم: العدد 678