العلم الذي لا ينفع

يعرف النفع على أنه السعادة أو البهجة مقابل المعاناة والألم، وهو قيمة أخلاقية للفعل تقيم الفعل بمقدار ما ينتج عنه من النفع، أما العلم، بتعريفه الحديث، فهو يطلق على طريقة التفكير العلمية (مشاهدة، فرضية، تجربة، صياغة)، والمنظومة الفكرية التي تنتج عنها، وتشتمل على مجموعة الفرضيات والنظريات والقوانين والاكتشافات المتسقة والمتناسقة التي تصف الطبيعة وتسعى لبلوغ حقيقة الأشياء، يقصي هذا التعريف كل ظاهرة غير قابلة للمشاهدة وكل فرضية لا يمكن اختبارها بالتجربة لإثباتها أو تفنيدها.

بالمقابل فإن العلم النافع في النظرة الإسلامية في أغلب تعريفاته هو حصراً للعلم الشرعي (تفسير، حديث، فقه... إلخ)، وترتكز دلالات العلم النافع في أغلب الأدبيات الإسلامية -تبعاً لهذا التعريف- على مقدار تزكيته للقلوب والأرواح، وعلى وصف حال المتحدث بهذا العلم، فإن كان من الذين "لا يرون لأنفسهم حالاً ولا مقاماً ويكرهون بقلوبهم التزكية والمدح ولا يتكبرون على أحد"، أو "أنه يدل صاحبه على الهرب من الدنيا وأعظمها الرياسة والشهرة والمدح"، كان ذلك دلالة على أن العلم نافع!! غاضاً البصر عن انعكاس هذا العلم على الواقع وعلى حياة الناس، من حيث الفائدة والمصلحة والنفع للفرد والمجتمع.

إن المرتكز الأساسي للعلم ليصبح نافعاً هو أن يكون قابلاً للتصحيح والتغيير والإضافة والحذف وحتى الإلغاء، فيما إذا تبين خطأ الفكرة أو النهج أو النتيجة، وهو المرتكز الذي يجعل العلم دائم النفع، وإلا تحول إلى غثاء آسن نتيجة الجمود والركود بفعل المتغيرات المتسارعة التي تطرأ على المعرفة.

بالمقابل تحوم حول (معظم) "العلوم الإسلامية" هالة من القداسة تحول بينها وبين إبداء الرأي حولها على أقل تقدير، فضلاً عن طرح فكرة التصحيح أو التغيير أو الإلغاء، ويتهم من يفعل ذلك بالطعن في الدين أو الثوابت والتشكيك في العقيدة، مع أن نظرة متفحصة لتلك "العلوم" تخلص إلى كون "معظمها" مجرد آراء وتصورات ونقولات شخصية، وتتسم في كثير من الأحيان بالتضارب، ويفسر ذلك ضمن الوسط الإسلامي على أنه نوع من الاختلاف الفكري الذي مؤداه التيسير والتسهيل!

ولعل نظرة إلى "علوم القرآن" أو "علم مصطلح الحديث" أو "القواعد الفقهية" أو كتب "الفقه" أو إلى الأحكام الفقهية بشيء من التجرد وبعيداً عن التبريرات اللامنطقية قد يخلص إلى تلك النتيجة، فالأمر الواحد -على سبيل المثال- قد يكون حراماً "يأثم فاعله"، وقد يكون هو نفسه وفي نفس المذهب جائزاً أو حلالاً "يثاب فاعله"، وقد يكون مكروهاً أو لا شيء فيه، ناهيك عن استعمال كلمات ومكاييل وتصنيفات ومعايير وأمثلة لم تعد مستخدمة منذ زمن بعيد.

ويبقى الأمر الأهم أن تلك النقولات والآراء ووجهات النظر أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الشريعة الإسلامية ومن دين الله الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.

إن أخطر ما اجتاح هذه العلوم هو استعصاؤها على النقد أو التعديل أو الإضافة أو الإلغاء، بصبغها صبغة القداسة، ما جعلها غير صالحة واقعياً لتواكب المتغيرات المتسارعة، وليكشف التطبيق العملي "لأغلبها" الكثير من عوارها وعدم أهلية معظمها لتكون نافعة، وهو شأن العلوم جميعها فيما إذا أصابها نفس الجمود أو الركود، نتج ذلك عن توجهات أرادت حماية هذه العلوم ورفع مكانتها وتنزيهها عن النقد، فأماتتها من حيث لا تدري.

من زاوية أخرى، يبرر الكثيرون ضعف مخرجات كليات الشريعة الإسلامية في معظم الجامعات المنتشرة في العالم، من كون من ينتسبون إلى هذه الكليات هم من ذوي التحصيل العلمي الأقل خلال سنوات الدراسة، وعلى الرغم من واقعية هذا الطرح في الأغلب، فإن الطرح الأهم الذي يجب أن يتداول، هو مدى نفعية هذه "العلوم" -التي تدرس- سواءً للدارس، أو مردودها النفعي لاحقاً للمجتمع.

وعلى الرغم من الصعوبات التي يواجهها هؤلاء الخريجون من الحصول على العمل أو المردود المادي القليل مقارنة بغيرهم نتيجة لحقيقة القيمة النفعية منها، فإن التبرير الذي يجانب الواقعية في كثير من الأحيان هو أن السبب في ذلك هو تهميش أو محاربة الدين من قبل الغرب والأنظمة وأصحاب القرار.

ويغض الطرف دائماً عما ينشأ عن تعلم هذه العلوم من خلق أفراد في المجتمع، يعيشون حالة استعلاء وانفصام، تمليها عليهم علوم لا ترتبط بالوقت الحالي بأي رابط، ويمتلكون فكراً نشازاً عن المجتمع نتيجة محاولتهم الدائمة لإعادة إسقاط الأحكام والأحداث التاريخية -التي تدرس لهم- على الواقع الذي يفصلها عنه مئات السنين على أقل تقدير؛ لتخلق مزيداً من المنفصمين الذين يحاولون السير عكس الواقع والمجتمع والفطرة، تعرفهم بسيماهم بمجرد النظر إليهم، يزيدون المجتمعات بلبلة واضطراباً، خاصة إذا ما آل أمر الحكم لهم، ولعل المستغرب في الأمر هو انتشار فكرة نفعية هذه العلوم في الدول المنكوبة حتى أصبحت بعض الجمعيات الخيرية المعنية بقضايا الإغاثة تنفق على تدريس هذه العلوم كونها جزءاً لا يتجزأ من الإغاثة "الفكرية"، وأن هذه العلوم هي المنطلق الأساسي لبناء الدولة والمجتمع وتغيير العالم، في نظرة لا تخلو من السطحية.

ومع كل التطور الذي وصل إليه العلم التجريبي في تمحيص المعلومات وتدقيق الأخبار العلمية على وجه الخصوص، فإن قراءة النصوص الواردة في كتاب الله والأحاديث، لم يتطور إلى الوضع الذي نستطيع فهم هذه النصوص بشكل حقيقي من خلال تجربتها تجربة علمية واقعية، إلا من خلال ما يسمى "الإعجاز القرآني"، وهو الطريقة المقلوبة لفهم النصوص، الذي يدل على العجز في العقول أكثر من إعجاز النصوص، فأحاديث مثل أكل العجوة ووقايتها من السم والسحر، وماء زمزم وبركته، والذباب داؤه ودواؤه، والرعد وأحاديث الغيب وتفسير "ويعلم ما في الأرحام" مثلاً، لا بد أن تخضع للتجربة العلمية لإثباتها، بدل الاكتفاء والانكفاء على السند والمتن فحسب لتبيان صحتها من خطئها، وكذلك الأمر مع كتاب الله، لا بد أن يُنطلق للبحث عن الدلالات الواقعية لآيات الكتاب بدل الاكتفاء بمقابلة الكلمات وعد الحروف للتنبؤ بالغيب، واستنطاق الجمل والركون إلى التفسيرات والأفهام السابقة للوصول إلى أحكام هي أبعد ما تكون عن الحقيقة والصواب.

حتى فيما يسمى "علم الاقتصاد الإسلامي" ومع حداثة نشأته، تجد أن أكثر القواعد والمبادئ التي تؤسسه لا تخرج عن موضوع الفهم التاريخي للنصوص والأحداث التي جرت منذ مئات السنين، وعن الاقتباس من كتب وأقوال فقهاء عاشوا بفترات بدائية مقارنة بالواقع الاقتصادي اليوم، مع معاداة واضحة للأنظمة والنظريات الاقتصادية الحديثة الناجحة باعتبارها وضعية وذات نتائج سيئة، وهو يخلص في نهاية الأمر إلى تحريم معظم التعاملات البنكية وعقود التأمين وعقود البيع بالآجل والسندات، الذي أصبح مشاعاً في تعاملات الناس، باعتبار ذلك كله من الربا المحرم، وليجعل منه علماً لا يعمل به حتى في البلدان التي تطبق الشريعة الإسلامية كمصدر وحيد في الحكم؛ لعدم قابليته للتطبيق، ولتؤدي هذه الأحكام إلى مزيد من تأنيب الضمير والشعور بالذنب لأفراد المجتمع الذي لا يجدون مناصاً من استخدام تعاملات كهذه لتيسير أمور حياتهم.

إن العلوم التي لا تقبل التجديد والتحديث ومواكبة الحاضر ومن ثم تحقيق النفع للمجتمع، لا يمكن أن يكتب لها الحياة، وتصبح مواتاً لعدم جدواها، ومن الصعب حينئذ إعادة الروح في كيانها، وهي سنة كونية لا تكاد تخطئ شيئاً مطلقاً، ولذا علمنا النبي محمد صلى الله عليه وسلم الاستعاذة منها، كونها اجتثت بفعل جمودها من قرار الحياة، فأجدبت أرضها لتصبح هشيماً تذروه رياح التغيير.

بقي أن نشير في دعوتنا هذه إلى تقدير أعمال السالفين وجهودهم، فهم أدوا ما عليهم من بذل جهد واجتهاد، لكن الأمر المطلوب هو أن نسير بما ساروا عليه من تمحيص وفهم أعمق لدين الله ولواقع متجدد سنسأل عن تطويره بجهودنا عندما نجدد ما بأنفسنا.

وسوم: العدد 695