الديمقراطية: رفض أم قبول؟

ملاحظة استباقية: هذه المقالة طويلة، وقد حرصت فيها على التفصيل أملاً في حسم نقاش صاخب ما يزال مستعراً منذ خمس سنين. وأعلم يقيناً أن أي مقالة لن تنهيه مهما بلغت من التفصيل والتطويل والتأصيل، لكني أطمح أن تقرّب وجهات النظر وتقلل من حدة الخلاف، وكفى بهذا الطموح من رجاء.

(1)

السؤال بهذه الصيغة ليس له جواب صحيح، وما كان ينبغي أن يُطرَح ابتداء لأنه يضيّق واسعاً ويصادر خيارات أخرى غير الرفض المطلَق والقبول الكامل. إنه يشبه مطعماً يخيّرك بين وجبة سمك مع اللبن أو دجاج مع شراب الليمون. ببساطة لماذا لا تقول: لا أريد الأوّلَين معاً ولا الآخِرَين معاً، لماذا لا تعطيني سمكاً مع الليمون؟

لدينا في هذه المشكلة طرفان، كلاهما على خطأ. طرف يقول: الإسلام قدّم لنا الحلول الكاملة فلا حاجة لنا باستيراد حلول من غيرنا. وطرف يقول: نحن بحاجة إلى الديمقراطية بكل مكوناتها لأنها الحل الكامل النهائي لمشكلة الحكم والسلطة.

إن الإسلام والديمقراطية يقدّمان قاعدة فلسفية ويقدمان حلولاً عملية، وبينهما فرق نوعي وكمّي في المجالين. فالقاعدة الفلسفية للإسلام تقوم على عبودية الله المطلقة وعلى نظرة مفصَّلة متكاملة للإنسان والوجود، للحياة ولما بعد الحياة، فيما تقوم القاعدة الفلسفية للديمقراطية على المادية والفردية وتقتصر على الوجود الدنيوي، فلا تقدم أي إجابة عن الأسئلة الكبرى: لماذا وُجدنا في هذه الدنيا وإلى أين نمضي بعدها؟ الفرق الثاني أن الإسلام يقتصر -في مجال الحكم والسياسة- على تقديم مبادئ عامة وقواعد أساسية ويترك إبداع الآليات والوسائل للناس، أما الديمقراطية فإنها تملك نظاماً متكاملاً يقدم إجابات عن أكثر التفاصيل.

الخبر الجيد الذي يجهله أو يتجاهله كثيرون: كما استطاع زائر المطعم أن "يفكك" الوجبتين، فيأخذ من الأولى سمكاً ومن الثانية شراب الليمون، فكذلك نستطيع أن نفكّك المنظومة الديمقراطية، فنأخذ منها أدواتها النافعة دون أي التزام بقاعدتها الفلسفية والأيديولوجية، ونبقى متمسكين بإيماننا محافظين على إسلامنا، فنفوز بذلك بخيرَي الدنيا والآخرة.

(2)

لا الديمقراطية هي الحل النموذجي الكامل النهائي كما يظن بعض المدافعين عنها، ولا الإسلام قدّم لنا نظاماً سياسياً مكتمل الأركان كما يتوهم كثير من الإسلاميين. الإسلام قدّم للمسلمين أسُساً ومبادئ عامة فقط، وترك لهم إبداع الوسائل والآليات التي تحققها في الواقع. والديمقراطية هي أفضل نموذج سياسي تطبيقي طوّره البشر حتى الآن، لكنه ليس النموذج الكامل أبداً، وفيه عيوب لا يمكن احتمالها، على الأقل على المستوى النظري والقاعدة الفكرية والفلسفية.

لقد أدرك المسلمون في أول عهدهم أن الإسلام لم يقدّم لهم سوى مبادئ الحكم الإسلامي الرشيد فحسب، فاجتهدوا في إبداع آليات الحكم وأدواته المناسبة، واستوردوا كثيراً منها من الأمم الأقدم حضارةً والأكثر خبرةً. وكان ينبغي أن يستمروا في تطوير تلك الأدوات والآليات والوسائل التي تحقق مبادئ الإسلام وقِيَمَه، لكنهم لم يفعلوا، ليس لأنهم عاجزون، ولكن لأنهم لم يحتاجوا إليها أصلاً، وإذا انتفت الحاجة سقط الدافع إلى العمل.

لقد صودرت إرادة الأمة وعُزلت عن مؤسسة الحكم والسياسة منذ بداية العقد الخامس من عمرها. من سنة 41 هجرية لم يُدْعَ جمهور الأمة إلى اختيار مَن يحكمه، ولا طُلب منه أن يُخرج من داخله أهلَ حل وعقد، فلم تُتعب الأمةُ نفسَها بالتفكير: كيف نختار من يحكمنا؟ ولا أجابت عن السؤال الخطير: كيف ننتقي أهل الحل والعقد من بين ملايين المرشحين الذين يملكون صفات أهل الحل والعقد، الذين انتشروا في الأرض وانتثروا في بلدان تفصل بينها آلاف الأميال؟

(3)

وماذا عن النموذج الديمقراطي الذي يقوم على مبدأ الاختيار الحرّ للأمة؟ كثيرون من أنصار الديمقراطية في بلادنا يصفونه بالكمال، لكنّ هذه الدعوى مجازَفة لا نستطيع التسليم بها، لأن اختيار الأمة الحر الصافي القائم على الانتخابات والاستفتاءات العامة أمرٌ نظري لا يمكن تحقيقه عملياً، فالناس يتأثرون بالإعلام، ولا بد أن تنحاز أصواتهم واختياراتهم أحياناً -تبعاً لتأثرهم- فتترك الأفضل وتذهب إلى المفضول. لقد كنتُ من قريب في بلد عربي شهد انتخابات نيابية، ولاحظت كم يبتعد اختيار الناس عن الصواب في كثير من الأحيان، وهذه المشكلة واضحة معروفة في كل الأنظمة الديمقراطية في العالم.

ثم إن الناس ليسوا سواء في المَلَكات والقدرات، فإذا مُنِح الكل أصواتاً متساوية ظُلم أصحاب المواهب والقدارت الأعلى، وهي مشكلة انتبه إليها أفلاطون منذ وقت طويل وبسببها رفض الديمقراطية. وربما كانت الأغلبية في مجتمع من المجتمعات ناقصة الإدراك فتسببت في سحب المجتمع كله بعيداً عن الصواب (كما سنرى في موضع لاحق من هذه المقالة).

هذه المشكلات كلها موجودة في النظام الانتخابي والتمثيلي الذي تتبناه الديمقراطية، ويعترف بها ويناقشها ويسعى إلى إصلاحها أصحابُها أنفسهم قبل أن نصنع نحن ذلك، لكني أعترف رغم هذا كله: على ما في هذا النظام من علل فلا يوجد أفضل منه لحل مشكلة السلطة واختيار وإدارة مؤسسات الحكم، وهو قطعاً أفضل نموذج استطاعت البشرية تطويره على مَرّ الزمان، ولو تركناه فسوف نعود إلى الفوضى وإلى الاعتماد على القوة لحسم خلاف السلطة. إن نظاماً ناقصاً يمكن إصلاحه خيرٌ من الفوضى والاقتتال، والعاقل مَن استفاد من تجارب الآخرين وخبراتهم ثم طوّرها إلى الأفضل. هذا ما صنعه سلفنا الصالح، وهو ما ينبغي أن نصنعه نحن اليوم.

(4)

إن المشكلة الحقيقة في المنظومة الديمقراطية ليست إجرائية على مستوى الأدوات (وإن يكن هذا عيباً فيها ما تزال بحاجة إلى إصلاحه، وهو مجال متغير متطور على أية حال) بل هي في قاعدتها الفلسفية والأيديولوجية، في الأساس الفكري النظري الذي تقوم عليه.

لن أدخل في عيوب تفصيلية -كدوَران الأفكار المركزية للديمقراطية على الفردية والمادية والمنفعة الجزئية والحرية المطلقة أو شبه المطلقة- بل سأقف عند أصل جامع تتفرع منه عيوب "النظرية الديمقراطية" ويجعلها غيرَ صالحة لأمتنا الإسلامية، وهو ما يسمونه "نسبيّة الحقيقة".

هذا المصطلح يعني أن الديمقراطية (والليبرالية التي تزاوجت معها في النظم السياسية الحديثة) لا تعترف بأي قيمة ثابتة أو حكم مطلق نهائي في الثقافة البشرية، فكل شيء يعرفه ويعتقده البشر خاضع للفحص والتغيير في كل المجالات، الأخلاقية والدينية والثقافية والسياسية. هذا المبدأ يتعارض مع منظومتنا الإسلامية الصلبة، بما فيها أصول العقائد وأحكام العبادات والأحوال الشخصية والمعاملات المالية التي نعتبرها "قطعيّات" معتمِدةً على نصوص الوحي، فهو يقول إنها كلها ليست أحكاماً نهائية قطعية، وإن "الأغلبية" تملك الحق في تغيير تلك الأحكام أو التصويت على تغييرها، تماماً كما يحق لها اختيار مؤسسة الحكم ومراقبة أدائها ومحاسبتها وتغييرها إذا أخفقت في تنفيذ مهمتها.

(5)

الإطلاق السابق صحيح في حالة مؤسسة الحكم لأنها "وكيلة" عن أصحاب الحق الأصليين في إدارة شؤونهم وتحقيق مصالحهم، فهي أشبه بمجلس الإدارة الذي ينتخبه المساهمون لإدارة الشركة الكبيرة التي يشتركون كلهم في مُلكيّتها وحمل أسهمها. نعم، من حق المساهمين (حَمَلة الأسهم) أن يختاروا مَن يدير الشركة التي يملكون أسهمها ويشتركون في ملكيتها، ومن حقهم أن يتابعوا تقاريرها الدورية والسنوية وأن يقوّموا أداءها ويحاسبوها في حالة التقصير أو يستبدلوا بها غيرَها في حالة العجز والإخفاق، ولكنْ ماذا عن القيم والمبادئ العامة التي تخضع لها الشركة في عملها: هل يملكون حقاً مطلقاً في صياغتها وتعديلها واستبدالها حسب تصويت الأكثرية؟

ماذا لو أن المساهمين اتفقوا بأغلبيتهم على زيادة أرباح الشركة عن طريق الاحتكار أو إنتاج سلع مغشوشة أو بقذف مخلّفات سامة (سوائل أو غازات) في البيئة المحيطة بمنشآت الشركة الصناعة؟ لو أن غالبية المساهمين أقروا تلك السياسات فهل يستطيع مجلس الإدارة اعتمادها وتنفيذها؟ لا، لأن الشركة خاضعة لسلطة أعلى، وهذه السلطة تملك وحدها حق تحديد "القوانين والمعايير الأخلاقية" التي لا يجوز لأصحاب الشركات تجاوزها. هذه السلطة العليا هي وزارة التجارة التي خرجت الشركةُ إلى الوجود ابتداءً بقوانينها وأنظمتها، ويقابلها في حياة الناس الخالقُ الذي خلق الناس وأوجدهم بقدرته وحكمته (ولله المثل الأعلى).

نحن -البشر- لنا الحق في إدارة شؤوننا بأنفسنا، لنا الحق في حكم أنفسنا بأنفسنا، لنا الحق في وضع القوانين والأنظمة التي تحقق مصالحنا وتُصلح معاشنا في هذه الدنيا بشرط واحد: أن لا نخالف أنظمة "السلطة العليا" التي وُجد نظامنا البشري كله بإرادتها وإشرافها، أن لا نناقض النظام الإلهي السامي الذي نعيش في مُلكه وسلطانه، أن لا نعتدي عليه لا بتعطيلِ فريضةٍ واجبة ولا باستحلالِ محرَّمٍ ممنوع.

(6)

خلافاً لكثير من الأنظمة البشرية، ومنها الديمقراطية، نعتقد نحن -أصحابَ الأديان السماوية، وفي مقدمتها الإسلام- أنّ الحقيقةَ الأخلاقية والدينية مُطلَقةٌ وليست نسبية. بمعنى أن المحرَّمات الدينية والأوامر الإلهية قطعيات غير خاضعة لأمزجة البشر واختياراتهم، وأن القيم الأخلاقية التي قدمها الوحي ثابتة نهائية لا تتبدل بتبدل الحال والزمان والمكان.

يقول أنصار نظرية "نسبية الحقيقة" أن الناس بمجموعهم لا يمكن أن يتفقوا على خطأ، وهذا القول نفسه خطأ يُثبت تاريخُ الإنسانية الطويل أنه بعيد عن الصواب. الذين هتفوا لأحد المتصارعَين في كولوسيوم روما وطالبوه بقتل رفيقه كانوا أغلبيّة، والذين مارسوا طقوس الكاباكوتشا (ذبح الأطفال) على أهرام الأزتك والمايا لاسترضاء الآلهة كانوا أغلبية. كان يمكن أن تكون أنت -يا قارئ هذه المقالة- المصارعَ القتيل أو تكون طفلتُك الصغيرة قربانَ الدم لو كنتَ أحد سكان تلك البلاد في تلك الأيام.

ثم دار الزمان فاكتشف الناس أن تلك الأفعال الهمجية كانت خطأ فاحشاً، فتركوها بعدما استحلّوها -بأغلبيتهم- لوقت طويل. نعم، استقامت أمزجة الناس وصَلُحَت فِطَرُهم من ناحية، لكنها اختلّت من ناحية أخرى، فصارت بعض "الأغلبيات" في بعض البلدان لا ترى بأساً في المخدرات، فأباحت قوانينُها تعاطيها وبيعها وشراءها علانية بلا قيود! وأغلبيات أخرى لم تَرَ بأساً في زواج الأمثال، فعاش الرجل مع الرجل والمرأة مع المرأة تحت سقف واحد في رابطة زوجية شاذة منكرة! فهل ترون لأي دركات يمكن أن تهوي البشرية إذا حطّمت كل "التابوهات" واستباحت كل المقدسات ولم تعترف بسلطان القوة العليا، الخالق الذي خلق الإنسان ويعلم ما يصلح للإنسان؟

هذا العيب الخطير (استحالة ضمان اهتداء الأغلبية إلى الصواب) يعترف به أصحاب الديمقراطية أنفسهم. يقول المنظّر اللّيبرالي الفرنسي الشهير باسكال سولان: "إن الاحتكام للأغلبية يتيح للسياسيين الأقوياء أن يسخّروا القوانين لرعاية مصالحهم الشخصية وأن يَسْطوا على حقوق الفئات الأضعف غير القادرة على التكتل للدفاع عن مصالحها". حتى فرانسيس فوكوياما الذي يتنبأ بأن النظام الديمقراطي الليبرالي سيصبح النموذجَ العالمي للمجتمع البشري الجديد يعترف بأن "الأغلبيات الديمقراطية في بعض البلدان يمكن أن تتفق على فعل أشياء فظيعة لبلدان أخرى، ويمكن أن تتغول على الحقوق والقيم الإنسانية التي بُني عليها نظامها الديمقراطي نفسه".

(7)

كثيرون، كثيرون جداً من مجاهدي سوريا الصادقين وغيرهم من العاملين المخلصين يعتقدون ويصرّحون بكفر البرلمانات، وكثيرون غيرهم (وهم أيضاً عاملون مخلصون صادقون) يريدونها ويَدْعون إليها ويعتقدون أنها أفضل علاج ممكن لمشكلة الاستبداد السياسي وإقصاء الأمة عن الحكم.

كلا الطرفين محق، وليس هذا تناقضاً، فهما لا يتحدثان عن الأمر نفسه. الذين يحاربون البرلمان يتصورونه مجلساً يملك حق التشريع من دون الله (التشريع كلمة مرادفة للتقنين، ولكنها تثير حفيظة المتدينين لأنها تختلط في أذهانهم بالتشريع الإلهي المعصوم) لأنهم اعتبروا أن التلازم حتمي بين البرلمان، وهو أداة تطبيقية من أدوات النظام الديمقراطي، والأساس الفلسفي للديمقراطية الذي تعرّفنا إليه آنفاً، وهو نسبية الحقيقة، فصار البرلمان عندهم مشرِّعاً من دون الله.

الآخرون الذين يؤيدون هذا النظام ويدعون إليه يقولون: صحيح أن الأساس النظري كفري لأنه لا يعترف بقطعيات العقيدة والتشريع، ولكنّ الأداة العملية لا هُويّةَ لها ولا دين. إنها مجرد أداة، وسيلة، والوسائل لا يُحكم عليها بحِلّ ولا بحرمة. الكأس أداة للشرب، وهي وسيلة محايدة ليس لها حكم، فإنْ شربتَ بها لبناً سائغاً سلمت وإن شربت خمراً مُسكراً أثمت. الحِلّ والحرمة فيما تضعه فيها، في المحتوى لا في الوعاء. وقُلْ مثل ذلك في الجهاز الذي تقرأ فيه الآن هذه الكلمات، هل تقول إنه حلال أو حرام؟ يستطيع المرء أن يقرأ فيه القرآن فيتقرب إلى الله أو يشاهد المقاطع الإباحية فيأثم ويُغضب الله.

الحكمة ضالّة المؤمن، أنّى وجدها فهو أحق بها. وإن لم يصحّ هذا النص حديثاً فإنه قاعدة صالحة في الدين والحياة، فلا يقول عاقل إن علينا أن نرفض منتجات القوم العلمية والتقنية لأنها يمكن أن تُستعمَل في حرام، ولا يقول عاقل إن علينا أن نرفض منتجاتهم الإدارية والتنظيمية والسياسية لأنها يمكن أن تؤدي إلى حرام.

(8)

لقد كان الإسلامُ أحكمَ أنظمة الدنيا وأكثرَها إنصافاً عندما قرر القاعدة الذهبية: "السيادة لله والسلطان للأمة". إن الأمة جديرة بحكم نفسها بنفسها وإبداع الأنظمة وتقنين القوانين التي تلائمها في الحياة، لكنها مُلزَمة بأن تمارس هذا الحق ضمن الحدود التي حدّدتها الشريعة الإلهية، في أوسع اختياراتها وأكثرها مرونةً وملاءمةً للواقع والعصر وحياة الناس.

هنا تجتمع قِيَمُ الإسلام وقوانينه ومبادئه الضابِطة مع أجهزة الديمقراطية وأجهزتها المنظِّمة لتنتج أفضل نظام سياسي في العصر الحاضر: نظام انتخابي تملك الأمة فيه حق اختيار حكامها ومراقبتهم ومحاسبتهم وضبط المال العام. نظام شوري برلماني تفوّض فيه الأمة ممثّليها في مجلس الشورى (البرلمان) الذي يملك حق التقنين، أي وضع القوانين المنظِّمة لحياة الناس والمحقِّقة لمصالحهم، بشرط أن لا تعطّل تلك القوانينُ واجباً مُجمَعاً على وجوبه ولا تُحِلّ حراماً مُجمَعاً على حرمته. نظام يقوم على التنافس السياسي وتداول السلطة ومنع احتكارها، لأن الاحتكار السياسي أسوأ من الاحتكار الاقتصادي، ولأن المستفيد من تنافس القُوى السياسية المختلفة هو الشعب الذي تحتاج تلك القوى إلى أصواته مع كل انتخابات. نظام يفصل بين السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية (أي التقنينية) والقضائية، لكي يبقى أصحابُ السلطة التنفيذية تحت سلطان القضاء ولا يسخّروا القوانين والأنظمة لمنافعهم الشخصية. نظام يحكم بمؤسسات مستقلة محترفة وليس بأفراد من الموالين والمحسوبين، نظام يكرّس العدالة وسيادة القانون.

(9)

سمّوا هذا النظام ما تشاؤون، الاسم لا يهمّ، المهم أنه يضمن الحرية السياسية، فلا تُصادَر فيه حرية الأمة التي ستكون قادرة على ممارسة دورها الواعي في التفويض والرقابة والاختيار، ويضمن سيادة الشرع، فلا يُعتدى على الدين بتعطيل فرائضه واستحلال محرّماته.

ولا تعتبروه النهاية المطلقة، فإن أصحابه أنفسهم لم يعتبروه كذلك، فقد تطورت أكثر النظم السياسية المعاصرة خلال العقدين الأخيرين باتجاه الديمقراطية الليبرالية، مما يعني أن الديمقراطية لم تكن نظاماً نهائياً كاملاً، لأن النهائي لا يأتي بعده شيء والكامل لا يكمّله شيء. وما زالت الديمقراطية محلاً للنقد حتى بعد ما طرأ عليها من تغيير في العقود الأخيرة، وما زالت متّهَمة بتكريس تسلط الطبقات العليا على الطبقات الدنيا والتداول المحدود للسلطة والثروة.

إن أدوات الديمقراطية هي أفضل آليات تملكها البشرية حالياً للحكم ولحل مشكلة السلطة، لكن فيها عيوباً ينبغي إصلاحها، فلماذا نبقى عالة على الآخرين وننتظر غيرَنا ليقوم بهذه المهمة؟ ولماذا نَحْرم أنفسنا منها ونحن لا نملك بديلاً عنها (لا تصدقوا من قال إننا نملك البديل، ومن زعم هذا الزعم فاطلبوا منه الدليل)؟ لماذا لا نقتبس الشق الإجرائي من النظام الديمقراطي (دون الشق الفلسفي الأيديولوجي منه) ثم نجتهد في تعديل أنظمة الترشيح والتصويت وشروط التمثيل النيابي واستحداث مؤسسات احترافية للشورى المتخصصة، مع تطعيم النظام كله بالقيم التي تفتقدها الحضارة الغربية المعاصرة، التي تحقق التوازن بين الحرية والمسؤولية، وبين مصلحة الجماعة وكرامة الأفراد.

إن من الغباء أن نتخلى عن نظام يصلح لواقعنا (ولو كانت فيه عيوب) ونحن لا نملك بديلاً عنه، ومن العجز المذموم أن نأخذ مُنتجَاً جاهزاً ثم لا نعمل على تطويره وتحسينه وتكميله ليصبح النظام الأمثل لبيئتنا وثقافتنا الخاصة.

هنا يأتي الجواب عن السؤال الذي طرحَته هذه المقالة ابتداء: هل نرفض الديمقراطية أم نقبلها؟ بلا تردد: نرفض فلسفتها التي لا تعترف بقطعيات مقدَّسة ولا بسلطة عليا فوق سلطة الإنسان، ونأخذ أدواتها النافعة ونظامها الإجرائي التطبيقي الذي يحقق مبادئ الإسلام وقِيَمة في الحكم العادل الرشيد.

وسوم: العدد 695