التمدّد الإيراني الإقليمي والعقبة التركية

العربي الجديد

سؤال لتنشيط الذاكرة أولاً: ما هو اسم آخر دولة عربية مهدّدة بالدخول تحت العباءة الإيرانية؟ بعد لبنان وسورية طبعاً، وبعدما تراجع المشروع في اليمن والخليج. ليست الإجابة مصر بالتأكيد، كما قد يتبادر إلى أذهان بعضهم، خصوصاً وأن القيادة المصرية تقول إنها هي التي تخترق السياسة الإيرانية الإقليمية، وتنافسها في سورية ولبنان والخليج وشمال أفريقيا. كما أنها ليست دولة أفريقية جنوبية، لأن النفوذ الإيراني هناك يتقدم ببطء بالمقارنة مع التوغل الإسرائيلي.

العراق هو الإجابة الصحيحة، حتى نقطع الطريق على سيناريوهات أخرى تذهب باتجاه دول عربية أخرى، تقع في قلب الدائرة الأولى للشرق الأوسط القديم. العراق دولة يضع أكرادها في الشمال اللمسات الأخيرة على المشروع الانفصالي الذي هو حق دستوري منحه لهم المندوب السامي الأميركي، بول بريمر، قبل 11 عاماً. يجهد الشيعة هناك لتوسيع رقعة تمدّدهم قدر المستطاع، ومنع الأكراد من ضم أراض جديدة قبل المغادرة، مخلين بالتقاسم المتفق عليه. أربيل تريد الجغرافية التركمانية داخل مناطقها عند الرحيل والأتراك لن يعارضوا إذا كان هو الخيار الأخير المتبقي أمامهم، لإنقاذ الرابط التاريخي والعرقي في شمال العراق من التمدد الإيراني.

قاوم العراق مشروع التقسيم الأميركي عام 2005، فقرّرت واشنطن معاقبته بالسوط الإيراني، وأطلقت يده ليتصرّف. رحبت إيران بالفكرة والدور، وأطلقت العنان لآلتها المحلية، طالما أن الشريك أميركي. الحشد الشعبي المعد بتجهيز وتمويل وتدريب ايراني، وبنفس مذهبي وغطاء سياسي أميركي، للرد على مشاغبة مسعود البرزاني هو المؤهل للقيام بالمهمة. نسخة معدلة لمشروع وجود حزب الله في سورية الذي ينسق مع الروس، بينما الحشد منفتح على الأميركيين، قمة البراغماتية الإيرانية في سورية والعراق.

الطرح الإيراني في المرحلة المقبلة هو نقل الحشد الشعبي إلى جنوب حلب والتحامه مع قوات 

حزب الله المنتشرة في شرق المدينة، بهدف فتح الطريق أمام نقاط الالتقاء في المشروعين، الأميركي والروسي التي تستفيد منها طهران بالدرجة الأساسية، ربط الجغرافيا الشيعية اليوم والعلوية السورية سابقاً بالجغرافيا العلوية التركية اليوم، والشيعية لاحقاً، في مشروع الهلال الشيعي المشارك في إعادة رسم الخرائط الحدودية للمنطقة.

حتى لا يزعل بعض العرب بسبب سيناريو سوداوي من هذا النوع، نطرح سيناريو مشابهاً: دولة إسلامية يطاردها مشروع التمدد الإيراني الإقليمي؟ تركيا هي أول من يتبادر إلى الذهن.

هم يراهنون على 15 مليون علوي منتشرين في تركيا، بينهم عرب وأتراك وأكراد. القومية والعرقية لا تعني الكثير هنا. تريد إيران الكثير، منهم شيعة موالون، على الرغم من معرفتها بتقدم علمانيتهم وميولهم الأتاتوركية اليسارية.

عرفنا الآن لماذا تحرّكت القوات التركية، بالتنسيق مع الجيش السوري الحر، تحت غطاء "درع الفرات" في شمال سورية، وفهمنا أيضا لماذا كانت إيران هي التي أمرت باستهداف الجنود الأتراك في مدينة الباب، ولماذا تصر واشنطن على لعب ورقة صالح مسلم في التصدي للتحرك التركي، ومحاولة عرقلته، خصوصاً وأن التقارير الاستخباراتية التركية تقول إن ضباط الارتباط الأميركيين الموجودين في شمال سورية هم الذين يزوّدون الوحدات الكردية بإحداثيات وجود القوات التركية ومجموعات الجيش السوري الحر التي تحاصر مدينة الباب. 

أرادت تركيا قطع الطريق على لعب الورقة العلوية الكردية ضدها في إطار تفاهم أميركي إيراني على حدودها المشتركة مع سورية، ويبدو أنها أقنعت موسكو بخطورة ما يجري، وأنه سيكون على حساب مصالحها ونفوذها أيضاً. صدر قرار بوتين باتجاه معاقبة النظام السوري على تورطه ودوره التآمري ضده في الانغماس بالخطة الإيرانية الأميركية التي وعدته بدولة علوية الهوى، شيعية الالتزام، تجاور الكيان الكردي هناك، فقرّر التحرك بالتنسيق مع أنقرة لبناء تحالف جديد في شمال سورية من دون الأسد وصالح مسلم أدوات طهران وواشنطن. تحريك الطائرات التابعة للنظام في سورية، على الرغم من الروس في حلب، لمهاجمة الجنود الأتراك، وإعلان نظام الأسد تمسكه بالباب، ودعمه الدور الكردي في معركة الرقة، قد يكون حلقة في خطة الانتقام الروسي أولاً، ثم لإشعال مواجهة تركية روسية ثانياً، تخدم مشروع التمدد الإيراني أولاً وأخيراً. الحل الذي وجدته واشنطن هو دور أكبر لإيران في تركيا، كما حدث في العراق، فهي وحدها القادرة على إيقاف أنقرة عند حدّها، ولن تتردّد إيران في تقديم الدعم اللوجستي، وتنفيذ المطلوب أميركياً، طالما أن مصالحها الإقليمية تؤخذ بالاعتبار.

تقارير الاستخبارات التركية مذهلة حول عدد وحجم نفوذ وسائل الإعلام الإيراني و"صوت" إيران في تركيا، والجمعيات الثقافية الاجتماعية الخدماتية بغطاء إيراني والاتصالات والتواصل بين المؤسسات الإيرانية، ومقربين عديدين منها في المدن الحدودية صلة الوصل مع الداخل "العلوي". معلومات أمنية استخبارتية تركية لا تنقطع بشأن محاولات الاختراق اليومي لأجهزة الحرس الثوري الإيراني، ورجال الاستخبارات الإيرانية، والعمل على إقامة شبكة علاقات بغطاء تجاري وثقافي وإعلامي مع عشرات من الشبان الأتراك بطابع مذهبي في المدن الحدودية بين البلدين. دخول جهاز المخابرات التركية على الخط بشكل مباشر والأرقام حول عدد المعتقلين الأتراك والإيرانيين بتهم من هذا النوع يعكس حجم الأزمة وتمسك إيران بمخططها في الداخل التركي.

منذ أشهر والإعلام الإيراني يشن حملةً مركزة ضد تركيا بذريعة دعمها وتمويلها جماعات الإرهاب الجهادية، وفي مقدمتها "داعش"، من دون أن يضع بين يدي المجتمع الدولي أي دليل وبرهان. التصعيد الإيراني هذا لا يمكن أن يكون سوى حلقة من مشروع التقارب بين طهران وواشنطن وخطوة تساعدهما على الانفتاح، طالما أن لغتهما وأدواتهما بدأت تتوحد في الأشهر الأخيرة. 

يحمل التقارب الإيراني الأميركي معه أكثر من فرصة لطهران وواشنطن، بينها لعب ورقة الجهاديين و"داعش" في المنطقة. والمصالح الأميركية في سورية والعراق ولبنان واليمن باتت تمر، على ما يبدو، عبر إيران مباشرة، وهي لا بد أن تقدم لها ما تريد إذا ما كانت راغبة في حماية نفوذها في تلك البلدان.

تنقل قائد قوات فيلق القدس في الجيش الإيراني، قاسم سليماني، على طريق بغداد – أربيل- الموصل، ودوره التنسيقي في توجيه جبهات القتال يؤكد حقيقة أن إيران تتحرّك على الأرض عسكرياً ولوجستياً بمعرفة واشنطن قبل غيرها، طالما أن أنقرة تصعد وتتعب الجميع بشروطها ومطالبها وتصلبها اللامتناهي. وغضبة إيران سببها أنها حصلت على كل ما تريد من واشنطن، وبعض اللاعبين الإقليميين، لكنها تفشل في الوصول إلى هدفها النهائي، بسبب العناد التركي الذي عجز بعضهم عن تليينه.

إعلان حالة الطوارئ في تركيا أغضب بعضهم، كما يبدو، بسبب كشف النقاب عن الخبايا والخفايا بين طهران وجماعات الكيان الموازي، بقيادة فتح الله غولن، عبر الجسر الأميركي في تبادل الخدمات والرد التركي، في آخر لحظة، لقطع الطريق على هذا المشروع. هل ستمضي الإدارة الأميركية الجديدة وراء هذا المشروع؟ هذا ما سنعرفه قريباً جداً.

ناقش الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في اتصال هاتفي في اليوم التالي لاستهداف الجنود الأتراك، مع نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، التطورات الأخيرة في شمال سورية، وكيف ستتعامل موسكو مع الاعتداء. تتهم أنقرة النظام السوري بالعملية، لكن من شجعه على فعل ذلك غير معروف بعد. لذلك هي تريد دعم روسيا. استمرار الطائرات التركية في مهام قصف مواقع "داعش" داخل الأراضي السورية يعني أن موسكو ماضية في تفاهماتها السورية مع أنقرة، ومنزعجة من محاولات توجيه الرسائل إلى الأتراك، عبر استغلال اسمها ونفوذها هناك، لكن ذلك لن يكفي الأتراك طبعاً.

وسوم: العدد 697