تأديب الأولاد وضربهم بين المشروع والممنوع

من أجل ثقافة إسلامية واعية

 محظورات مباحة من أجل مصلحة معتبرة في الشرع:

 هناك أفعال محرمة، الأصل فيها أن تكون محظورة في الشريعة الإسلامية على عموم الناس، لكن الشارع رأى استثناء من هذا الأصل أن يبيح بعض الأفعال المحرمة لمن توفرت فيهم صفة خاصة؛ لأن ظروف الأفراد أو ظروف الجماعة تقتضي هذه الإباحة، ولأن هؤلاء الذين تباح لهم الأفعال المحرمة يأتونها في الواقع لتحقيق مصلحة أو أكثر من مصالح الشرع المعتبرة.

 فالقتل مثلاً محرم على الكافة، وعقوبة القاتل عمداً القصاص؛ أي القتل، ولكن الشارع جعل تنفيذ هذه العقوبة من حق ولي الدم؛ وذلك لقوله تعالى: ( وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ) الإسراء: 33، فولي الدم حينما يقتل القاتل يأتي عملاً مباحاً له بصفة خاصة، ولو أن هذا العمل محرم على غيره، وهو حين يأتيه يحقق غرضين مشروعين: أولهما: القصاص من القاتل. وثانيهما: أن يكون القصاص بيد ولي الدم شفاء لما في صدره.

 والجَرْح محرم على الكافة، ولكن لما كانت حياة الإنسان أو راحته قد تتوقف على عملية جراحية، فقد أبيح للطبيب المختص بصفة خاصة جرح المريض لإنقاذه من آلامه أو لإنقاذ حياته؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات، ولأن الشريعة تحض على التداوي من الأمراض وتوجب على المرء أن لا يلقي بنفسه في التهلكة، فإحداث الجرح يحقق غرضاً من أغراض الشارع هو التداوي من المرض، وربما إنقاذ النفس من الهلكة.

 والضرب محرم على الكافة، ولكن تربية الصغار وتأديبهم وتنشئتهم نشأة طيبة، تقتضي بطبيعتها أن يُؤدَّبوا ويُضربوا. ولما كانت الشريعة توجب على المشرفين على الصغار أن يحسنوا تربيتهم وتنشئتهم؛ فقد أبيح لهؤلاء دون غيرهم أن يضربوا الصغار بقصد التأديب والتعليم تحقيقاً للواجب المفروض عليهم.

 تعريف التأديب وبيان مشروعيته: 

 هو: مَصْدَرُ أَدَّبَهُ تَأْدِيبًا، أَيْ: عَلَّمَهُ الأدَبَ، وروَّضه على أحكام الدين وعباداته وَمحَاسِن الأخلاق والآداب والفضائل، كالبعد عن الْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَالسَّرِقَةِ ولغو الكلام وفحشه، وعن اللعن والسب، وعن مخالطة من يجري على لسانه مثل ذلك، وأهم شيء في تأديب الأولاد الحفظ من قرناء السوء. 

 وقد شرع الإسلام تأديب الْوَالِدِ وَلَده الصَّغِير، والْمُعَلِّمِ تَلاَمِيذه.... فعَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: " كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ: الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ..."، قال النووي: فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ الصِّبْيَانَ يُوَقَّوْنَ مَا يُوَقَّاهُ الْكِبَارُ وَتُمْنَعُ مِنْ تَعَاطِيهِ وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَى الْوَلِيِّ.

 من له حق تأديب الأولاد الصِّغَار: 

 ذكر العلماء: أن لِلْوَلِيِّ بِالْوِلاَيَةِ الْخَاصَّةِ، أَبًا كَانَ، أَوْ جَدًّا، أَوْ وَصِيًّا، أَوْ قَيِّمًا مِنْ قِبَل الْقَاضِي تأديب الأولاد الصغار إذا كانوا دون سن البلوغ؛ لتعويدهم على محاسن الأخلاق وآداب الإسلام، سواء كانوا بنين أو بنات، وذلك للحَدِيثِ الحسن الذي رواه أبو داوود: ( مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع ). 

 وذكروا أيضاً: أن للمعلم أياً كان: مدرِّساً، أو معلمَ حرفة، تأديبَ الصغير دون سن البلوغ، وبخاصة إذا أذن له ولي الصغير.

 وللأم أيضاً حقُّ تأديب الصغير في غيْبة الأب، أو إذا كانت وصية على الصغير، أو كانت تكفله، وليس لها ضربه للتأديب في غير هذه الأحوال عند جمهور الفقهاء، بل تشكوه إلى والده ليؤدبه ويضربه إن لزم الأمر.

 وجوب التدرج في التأديب:

 يجب التدرج في تأديب الصغير فيكون بِالْقَوْل والترغيب، ثم النصح والوعظ، ثُمَّ الْوَعِيدِ، ثُمَّ التَّعْنِيفِ، ثُمَّ الضَّرْبِ، إِنْ لَمْ تُجْدِ الطُّرُقُ الْمَذْكُورَةُ قَبْلَهُ، ولا يجوز التأديب بالسب والشتم والتعيير والتحقير...إلخ، وفي الحديث الشريف: " ليس المؤمن بالطعَّان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء " .

 شروط تأديب الأولاد الصغار بالضرب:

 ذكر العلماء: أنه يشترط في تأديب الصغار بالضرب، سواء كانوا أبناء، أو تلاميذ، ما يلي:

 1ــ أن يكون التأديب بالضرب على ذنْب فعله الصغير، لا على ذنب يخشى أن يفعله.

 2ـ أن يكون الضرب غير مُبَرِّحٍ ولا شديد، أي: متفقاً مع حالة الصغير وسِنِّه بلا إسراف.

 3ـ أن لا يكون على الوجه والمواضع الـمَخُوفَة كالبطن والعورة، لحديث البخاري: ( إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه )، ولقول علي رضي الله عنه لرجل: " اتقِّ الوجه والمذاكير ".

 4ـ أن يكون بقصد التأديب، لا التشفي والإيذاء.

 5ـ أن لا يزيد على ثلاث ضربات، وقيل: عشر ضربات متفرقات على مواضع الجسم.

 6ـ أن يكون الولد بلغ العاشرة من عمره ويكره قبل ذلك. وقيل: بل يضرب إن بلغ سبع سنين، واتفقوا على أنه لا يضرب قبل ذلك، لأن من كان دون سن التمييز فهو فاقد الأهلية كالمجنون، بخلاف المميز الذي وعَى الأمور بعض الشيء، لكنه ناقص الأهلية.

 المسؤولية في تأديب الأولاد الصغار بالضرب: 

 إذا كان الضرب في الحدود المشروعة المذكور آنفاً، المعتاد في الكم والكيف والمحل، فلا مسئولية على الضارب؛ لأن الفعل مأذون له فيه، ومباح له شرعاً؛ لإصْلاَحِ الصَّغِيرِ.

 وللفقهاء قولان في تضمينه الدية أو الأَرْشَ بما تلِف بتأديبه المشروع إذا لم يَتَعدَّ:

 القول الأول: لا يضمن التالفَ؛ لأنه فَعَل المأذونَ فيه شرعاً ولم يقصد التعدي، وهذا قول الحنفية والمالكية والحنابلة.

 القول الثاني: يضمن التالفَ بتأديبه المشروع؛ لأن فِعْلَه مشروطٌ بسلامة العاقبة؛ إذ المقصود التأديب لا الإهلاك، فإذا حصل الهلاك أو التلف، تبيَّن أنه تجاوز الحدَّ المشروع، فيضمن الدية، وهذا قول الشافعية، واحتجوا بما روي أن عمر رضي الله عنه أرسل إلى امرأة ذُكِرت عنده بسوء لتأتي، فخافت وأجهضت ما في بطنها، فقال عليٌّ رضي الله عنه: أرى أنَّ عليك الدية، فقال عمر: أقسمتُ عليك لتفرقنَّها في العاقلة. أما الأَرْش والعلاج ونحوه فيضمنه في ماله.

 أما إذا تعدَّى الأب المؤدِّب في الضرب وكان الضرب شديداً غير معتاد مثلُه في التأديب، فأدى إلى تلفِ الصغير أو تلف أحد أعضائه، فهو مسئول عنه ويقتص منه ـ أيْ: من الأب ـ في غير النفس، أو يُعزَّر بحسب أقوال الفقهاء، أما غير الأب فيقتص منه في النفس وما دونها أو يعزَّر أيضاً، ويضمن المتلِفُ لما أتلفه مالياً؛ لأن الأنفس معصومة لا تهدر بالعدوان عليها.

 وهكذا نرى: أن الشريعة الإسلامية شرعت لخاصة الناس تأديب الأولاد، ووضعت للتأديب ضوابط وقيوداً مناسبة؛ لئلا يشتط المؤدِّب في تصرفاته؛ لأن الهدف هو الإصلاح والتقويم، وليس الإتلاف والانتقام.

وسوم: العدد 715