عبيد المدينة

أن تلتقط نجمة إلى أخرى وأن تصنع من هذه النجوم عقداً وأن ترمي هذا العقد عند قدمي الحبيبة.. أليس هذا هو حلم جميع العاشقين.

هذا ما فعلته، فبيني وبين التاريخ عهد قديم ما خفره مرة ولا خفرته. على أنه بالعشق اللدود أشبه. فالتاريخ عندي هو قصة الإنسان في عواصفه ونبله وحقده الأسود وزلازله وإبعاد الشراع وعربدة الفكر.

وهذه القصة تجري باسم الله مجراها ومرساها.. أما الناس فلا يرون منها إلا ما يشتهون وما لعلهم يرون وما شبه لهم في حين أن ما كمن من جمدية المحيط تحت الماء يزيد على تسعة أعشار ما ظهر فوق سطح الجلد..

وهذه الأحاديث ما كتبت ونشرت لتزيد الناس علماً وجل، "الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم" بقدر ما أرادت إلى أن تثير الأسئلة. وإلى أن تطوف من حولك بإشارات الاستفهام. تلك رسالتها. وأكون سعيداً لو أنك أنهيت القراءة وقد ارتسمت بين عينيك والجبين إشارة استفهام واحدة، تهز التاريخ الذي تعرف كله. تهزه من الجذور وما وراء الجذور!

* خاطرة اليوم قصة كانت في المدينة المنورة. هي ورقة سقطت من تاريخها ما ألقى إليها أحد بالاً في التواريخ التي سطرت لذلك البلد الحرام.

وإنها لمهجر الرسول الأعظم والعاصمة الأولى للإسلام ولكنها سواء أفي العهد الأموي أو العهد العباسي الأول ما لقيت إلا النكران والعنت المؤلم. السياسة، قاتل الله السياسة، جعلتها في موضع الريبة من الحكام. أليس يجتمع فيها رؤوس الأسرة العلوية، والطامعون في الخلافة من آل البيت؟ ولقد كان الحاكمون يتمكنون منها على الدوام. لأن مواردها كانت دوماً أضعف من أن تقوم المسلمين المتكاثرين فيها، والوارديين إليها من كل فج عميق. كانت منذ العهد العمري، ودون انقطاع عالة على قوافل الميرة. ترد إليها على الأخص من وادي النيل.. فإذا انقطع هذا الشريان كانت المجاعة المذلة!...

وحين وصل العباسيون إلى الحكم كانت المدينة سنة 132هـــــ - 750م قد خرجت قبل سنوات ثلاث فقط من هجمة الخارجي عليها. ولكن الخلفاء الجدد من بني العباس ظلوا يرقبون ما يجري بالمدينة. كل حركة فيها كانت ذات صدى في العراق. وتحقق الظن. فما مضى على الخلافة العباسية ثلاث عشرة سنة حتى وجد أبو جعفر المنصور نفسه أمام ثورة في المدينة يقودها أبرز الشباب في البيت العلوي:

محمد النفس الزكية..

لم يفاجأ المنصور بالثورة. فلقد كان سجنه قد عرف رؤوس العلويين، وسيفه قد قتل منهم من قتل. ومن بين القتلى والد "النفس الزكية" ولقد ود، بقطع الأيدي، لو تمكن من هذا الشاب الطموح!.. فلم يستطع إليه سبيلا. وحاول خديعته فلم ينخدع وحين كانت الثورة لم يكن إلا السيف..! وفي ظاهر المدينة قضى النفس الزكية في المعركة في منتصف رمضان والناس صيام.. وكان على المدينة أن تتحمل العواقب .. وذلة التشفي من الجيش المنتصر..

وقع البلد، بعد الهزيمة، وسحق القوي، كالنسر الجريح.

وبدأت صنوف الإذلال تعضه: صودرت أملاك الثائرين. فرضت الأتاوات. قطعت الميرة عنه.. نزلت السياط بالجلد والحبس..

وأطلقت أيدي الجند في اغتصاب الأموال والمتاجر وفي العدوان. وبدا كان الهزيمة قد أسلمت المدينة وأهلها لسكين الجزار..

الوالي الذي تسلم المدينة باسم الخليفة المنصور وضع أصابعه في آذانه.. لا يريد أن يسمع شكوى.. ولا أن يرفع عدواناً.. بلى كان ينهر الشاكين ويشتم من يقوم منهم ببابه!.. وبغتة وغير انتظار من أحد قامت الثورة في المدينة. لم يقم بها أهلها، ولا بقايا الثائرين، ولا العامة من الناس، ولكن... العبيد السودان! بلى العبيد! ثاروا أنفة لأسيادهم، ودفاعاً وحمية لدار الرسول...

بدأت الثورة في السوق.. غالب الجند العباسي بعض الصيارف على كيسه فاستغاث.. وانتهب آخر من الجزار لحماً، ورفض دفع بعض الثمن، فاعتوره الجزارون السودان، فخر عن دابته قتيلاً... ثم تنادوا يلحقون الجند بالعمد، فيقتلون ويذبحون.

ونفخوا في بوق لهم، فكان السوداني إذا سمع النفخة يترك ما في يده ويأتي مكان الصوت يقاتل مع إخوانه.. وهرب الوالي العباسي من المدينة. طارده السودانيون الثائرون من الجامع، وفي الأزقة، ثم إلى ظاهرة البلد مع جنده، فلم يقف ألا وهو على مسيرة ليلتين من المدينة.. زعماء الثوار كانوا نكرات من النكرات.. ولكن المدينة أخذت تتهامس بأسمائهم وأي أسماء؟ رمقة، وثيق. يعقل.. أبو قيس.. أبو النار. عنقود. صاروا النجوم التي تأمر وتنهى.. وإذا كان قطع الميرة، ثم الحصار والعسف، قد أجاع الناس، فقد تدبر السودان الأمر وقعوا على مخازن الميرة للجند. وكانت قد حملت لهم في البحر مدداً بعد مدد، فانتهبوها، حتى أضحى حمل الدقيق بدرهمين وراوية الزيت بأربعة دراهم!

واستخذى الجند العباسي على المباغتة، وضعف الحيلة، حتى كان الفارس منه يلقى السوداني، وما عليه إلا خرقتان على عورته ودراعه، فإذا تولى عنه شد عليه السوداني بعمود من عمد السوق فقتله. ودب فيهم الرعب حتى كانوا يقولون: ما هؤلاء السودان إلا سحرة أو شياطين!

وأقبل الثائرون على السجن فأخرجوا من فيه، ومن بينهم فقيه المدينة ابن أبي سبرة، فأصعدوه المنبر، وما تزال القيود في يديه ورجليه، ليصلي بالناس!... وبدأ عقلاء القوم يخشون العواقب.. كانوا يعرفون أنهم لا يقومون، بعد الهزيمة للمنصور وجنده. وقد طردوا الآن واليه.

وقتلوا الجند وجاء بعضهم إلى معسكر السودان في سوق المدينة يسألونهم أن يتفرقوا فقال زعيمهم وثيق:

مرحباً بكم يا موالينا. والله ما قمنا إلا أنفة لكم مما عمل بكم فأيدينا مع أيديكم.. وإن الأمر قد وقع بما ترون. الخليفة غير مبق لنا، ولا لكم، فدعونا نشفكم ونشتف لأنفسنا... وإني لأرى أن نعهد إلى أربعة من بني هاشم وأربعة من قريش وأربعة من الأنصار وأربعة من الموالي ثم الأمر شورى بينهم... ولكن هذا المشروع الجمهوري كان مستحيل التطبيق.. على الأقل في الوضع الذي كانت عليه المدينة يومذاك!... وتغلب صوت التعقل والمهادنة.. وفيما كان الثائرون يتفرقون، كان وفد من أهل المدينة يلحق بالوالي يسترضيه ويعيده!.. وكانت الترضية على حساب الزعماء السودانيين قطعت أيدي أربعة منهم جزاء التمرد.. وقد قبلوا ذلك طائعين، فداء لمواليهم، وفداء لمدينة الرسول...

أليس غريباً أن يغيب هذا النبل في هوة النسيان!

وسوم: العدد 724