أين مصر والعرب من ثورة 23 يوليو؟

نص محاضرة للعالِم الجيولوجي المصري المرحوم

د. رشدي سعيد

 في مركز الحوار العربي

29/7/2009

 

لا يوحي الوضع الراهن في مصر أو في عموم الدول  العربية بوجود أي أثر يُذكر للثورة التي قامت في مصر في 23 يوليو/تموز سنة 1952. فقد مرّت منذ قيامها تحولات كثيرة أحدثت انقلاباً كاملاً في التوجّهات التي جاءت بها وفي الأهداف التي حاولت تحقيقها. قامت الثورة من أجل تحرير مصر والأمَّة العربية من أغلال الاستعمار الذي كان جاثماً على معظم أراضيها حتى تأخذ مقاليدها بأيديها وتبني دولاً منيعة ومستقلّة تستفيد من مصادرها الطبيعية والبشرية، والتي كان الكثير منها مستغلاً لصالح الأجنبي، وتوجّهه لخدمة شعوبها حتى تنعم بفوائدها وتعيش موفورة الكرامة ورافع الرأس. كانت أهداف الثورة واضحة: إجلاء الاستعمار وإعادة الثروات المنهوبة إلى أهلها والدخول في عصر الصناعة والزراعة المتقدّمة والمعتمدة على أصول البحث العلمي المتقدّم.

وجاءت استجابة الأمّة العربية لرسالة هذه الثورة مبشّرةً بالنجاح، فعلى مدى العشرين سنة الأولى لعمر الثورة، وعلى الرغم من عديد الانكسارات، تمّت إنجازات هائلة؛ تحقّق الاستقلال لكلّ البلاد العربية، وتمّت تصفية القواعد العسكرية الأجنبية فيها، وأعيدت إلى الكثير من البلاد العربية مصادر ثرواتها التي كانت ملكاً للأجانب، وتمّ تأميم قناة السويس والكثير من شركات البترول العالمية التي كانت تستغلّ حقول النفط في الكثير من البلاد العربية، كما تمّ تأميم المصارف والشركات الأجنبية الكبرى وأصبح الاقتصاد ولأوّل مرّة في خدمة الشعوب العربية.

وجاءت استجابة الشعوب العربية لمبادئ الثورة ومنجزاتها مبشّرة بإمكان تحقيق وحدة عربية شاملة كانت نواتها دولة الوحدة بين مصر وسوريا في سنة 1958.

وعلى الرغم من الانكسارات التي شهدتها هذه الفترة، فقد ظلّت إنجازاتها قائمة. كانت هزيمة سنة 1967 أكبر هذه الانكسارات، وهي الهزيمة التي أحدثتها الحرب الخاطفة التي شنّتها إسرائيل على الدول العربية بغرض القضاء على المد القومي الذي أحدثته ثورة 1952. إلا أنّ هذا الانكسار، وعلى العكس ممّا كان مقدّراً له، شحذ الهمم وأكّد الوحدة العربية ورفع روح التحدّي، فجاءت لاءات قمة الخرطوم الشهيرة وصحوة العمل الجاد التي تلت هذه الهزيمة، فأعيد بناء الجيش استعداداً لاستعادة الأرض التي فُقدت ولإصلاح ما اختلّ في حياة الأمّة. وشهدت الأمّة العربية في فترة ما بعد هزيمة سنة 1967 كمّاً هائلاً من العمل الجاد وأمثلة صارخة للتضحية والوفاء قلّ أن يجد المرء لها مثيلاً في تاريخ العرب الحديث. كما شهدت أيضاً تعاوناً عربياً شاركت فيه كلّ الدول العربية بالمال والسلاح والجنود واستخدمت فيه سلاح النفط الذي أوقفت تصديره إلى من شاركوا في العدوان.

وتُوّجت أعمال هذه الفترة بحرب التحرير التي شنّتها القوات المسلّحة المصرية والسورية عام 1973 وألحقت بالعدوّ خسائر كبيرة حدثت في أثرها تسوية بين مصر وإسرائيل تمّ بمقتضاها استرداد الأرض التي كانت إسرائيل قد احتلتها في سنة 1967، كما تمّ إنهاء حالة العداء مع إسرائيل وتمّ الاعتراف بها وتبادل السفراء معها.

وكان لهذه التسوية التي انفردت بها مصر دون سائر الدول العربية أثراً كبيراً على مسارها وتوجّهاتها وعلى حياة أبنائها. فقد ترك خروج مصر من حلبة الصراع مع إسرائيل فراغاً هائلاً في المنطقة سرعان ما ملأته إسرائيل التي وجدت الباب مفتوحاً أمامها لتحقيق أهدافها المقرّرة لها منذ إنشائها كقاعدة عسكرية مدجّجة بالسلاح، تهيمن على المنطقة وتسيطر عليها وتقرّر سياساتها وأدوارها التي ترسمها لها. على أنّ هذا الدور لم يكن من الممكن لإسرائيل أن تقوم به دون أن تكون كل دول المنطقة المحيطة بها في حالة وهن وضعف تام، ليس فقط من من الوجهة العسكرية بل ومن الوجهة الاقتصادية والعلمية والتقنية حتى لا تكون لها المقوّمات التي يمكن أن ترفع من شأنها.

ويبدو لي أنّ العملية التي تمّت لتدمير العراق عن طريق الحرب التي شنّتها الولايات المتحدة عليه في عام 2003 هي جزء من هذه الخطّة. كان العراق وقبل تدميره وبالرغم من الحصار الذي كان يعيشه ذا إمكانيات هائلة؛ به نظام تعليمي عالي الجودة، كما كانت به جامعات ومراكز للبحث العلمي حسنة التجهيز ومدارة بأساتذة وأخصائيين على درجة كبيرة من الكفاءة والمعرفة والمبادرة. كان العراق لذلك يمثّل بالنسبة لإسرائيل قوة كامنة بها كل إمكانيات بناء الدولة الصناعية والمتقدمة، وبغض النظر عن طبيعة الحكم فيه، وهو الأمر الذي كان لا بدّ من الإنهاء عليه. وقد كشفت الوثائق التي تمّ الكشف عنها مؤخّراً الدور الذي لعبته إسرائيل في تحفيز الولايات المتحدة للقيام بغزو العراق بل وبرسم الطريق لتدميره، فالثابت أنّه بعد أن تمّ غزو العراق وإسقاط النظام، لم يقبل بول برامر حاكم العراق الجديد أن يتعامل مع الجيش العراقي أو النخب الحاكمة التي أبدت استعدادها للتعاون معه لبناء العراق، بل تمّ التصميم على تصفية الجيش والنخب السياسية كما تمّت مطاردة العلماء وإغلاق مراكز أبحاثهم. وإمعاناً في إذلال العراق، فقد قامت القوات الغازية بتشجيع نهب الآثار والمكتبات العامة وكافّة الشواهد الحافظة لتراث الأمّة.

وإذا انتقلنا من العراق فإنّنا سنجد أنّ كافّة الدول العربية في حالة لا تحسد عليها؛ فمنها الذي دمّرته الحروب الأهلية والصراعات الداخلية كالصومال واليمن والسودان وفلسطين، ومنها من أصبح معتمداً في بقائه على تسكين قوات وأساطيل الدول العظمى على أرضه وحول بحاره، ومنها من انزلق بمعرفة أو بلا معرفة لتنفيذ المخطط الإسرائيلي لإضعافها وتبنّي سياسات لا تؤدّي إلا إلى خرابها وتدميرها، فما تمّ تحقيقه بالحرب في حالة العراق يتمّ تحقيقه بالسلم في هذه البلاد. ومن الملفت للنظر أنّ النخب العربية التي تقوم بتنفيذ هذه الخطة قد كوفئت بالعيش الهنيء الذي أتيح لها وبالأموال والمعونات التي انهمرت عليها من كل حدب. وتعتبر مصر المثال النموذجي لهذه الدول العربية التي تبنّت مثل هذه الخطط. فهاهنا بلد يبدو لمن لا يعرف أحواله من الداخل أنّه يتحرّك إلى الأمام، به كل مقوّمات الدول المقبولة لمؤسسات التمويل الدولية: تنمية كثيفة موجّهة لخدمة المستثمرين الأجانب أو قلّة النخب المصرية الحاكمة، فالمعمار الفاخر ينشط في أطراف المدن وعلى شواطئ البحار لإسكان الأثرياء والأغراب، وبناء المصانع الملوثة للبيئة وكثيفة الاستخدام للطاقة التي تزودها بها الحكومة بدعم كبير قائم في الكثير من المناطق لخدمة المستثمرين الأجانب وزملائهم من أعضاء النخبة المصرية، وأعمال المقاولات سائرة بنشاط كبير وموجّهة لخدمة النخبة وتبني الطرق وتمد خطوط الكهرباء والصرف الصحي للمناطق الجديدة التي أقيمت على أطراف المدن وسواحل البحار لسكنى النخبة المميّزة في البلاد.

وعلى الرغم من كل هذا النشاط الاقتصادي، فإنّ ثماره لا تبدو انّها وصلت إلى الغالبية من السكان حيث يعيش ثلثاهم في حالة فقر مدقع، يسكنون في جحور وعشوائيات الكثير منها بلا مياه جارية أو صرف صحي أو جهاز لجمع القمامة. والناظر إلى مصر الحديثة لا يسعه إلا أن يلاحظ حالة التردّي الكامل في كافّة مرافقها، والحالة السيئة التي وصل إليها حال سكانها الذي أصبح أكثر من نصفهم لا يقرأون ولا يكتبون، ولا يتمتّعون بحقوق المواطنة في العمل أو الصحة أو التعليم أو الأمن.

ولا يسع المتتبع لأحوال مصر من أن يلاحظ أنّ هذا التهور الشامل لا يمكن أن يكون محتّماً كما يدّعي عملاء النظام وأبواقه، تفرضه الإمكانيات الاقتصادية المحدودة للدولة وتزايد عدد السكان وغير ذلك من الأسباب، بل إنّ هذا التدهور لا يمكن إلا أن يكون نتيجة خطة غير معلنة تهدف إلى مطاردة كل الكفاءات الإدارية من مواقع التأثير والتخطيط للقضاء على مؤسّستي التعليم والبحث العلمي ومطاردة العلماء حتى يُحبَطوا أو يهاجروا من الوطن. وليس هناك من شك في أنّ النخبة الحاكمة في مصر قد نجحت تماماً في تنفيذ هذه الخطة، فلم يعد في مصر الآن ما يمكن تسميته بمؤسسة تعليمية، فقد انهار التعليم بدءاً من الابتدائي ونهايةً بالجامعي. كما يمكن القول أيضاً أنّ مؤسسات البحث العلمي في مصر والتي بلغت بسمعتها الآفاق في الأوقات السابقة قد انهارت حتى أنّ بعضها قد اختفى كلّيةً من الوجود. ونتائج هذه الخطة بالإضافة إلى المطاردة المستمرّة للأكفّاء في مجالي الإدارة والتخطيط سيؤدّي بلا أدنى شك إلى تدمير البلاد وهي في حالة السلم بل والعيش الطيّب لنخبها الحاكمة.

 (من ندوة في "مركز الحوار العربي" في واشنطن يوم 29/7/2009 ندوة خاصة عن الذكرى 57 لثورة 23 يوليو في مصر)

·        الدكتور رشدي سعيد

 ولد د. رشدي سعيد بالقاهرة في حي شبرا (12 مايو 1920م) لأسرة مصرية قبطية متوسطة تعود جذورها إلى مدينة أسيوط، انتقلت إلى القاهرة منذ سبعينات الـــقرن التاسع عـــشر، ويعد أحـــــد أبرز رجال العلم في مصر، تخرج من كلية العلوم بالقاهرة، وحصـــل على الدكـــتواره من جامعة هارفارد. تولى إدارة مؤسسة التعدين والأبحاث الجيولوجية في الفترة من 1968 –1977 م، فكـــان له دوراً كبيراً في تنمـــــية هذه المــــؤسسة، إلى جانب دوره في الاكتشافات التعدينية التي مكنت مصر من التغـــلب على ما فقــــدته بعد احتلال سيناء عام 1967.

 أتيحت له فرصة العمل السياسي في فترة الستينات والسبعينات كعضو في مجــلس الشعب وفي الاتحاد البرلماني الدولي، لتشمـله في النهـاية قرارات الاعتقال التي أصدرها الرئيس الراحل أنور السادات في العام 1981م؛ ليغترب في الولايات المتـــــحدة.

 اختار الدكتور رشدي سعيد تخصــصًا نادرًا وهــــو جيولوجية مصر وأصـــــدر كتابًا بهـذا الإسم نال به إعجاب علمـــاء العالم وأصبح مرجعًا معترفاً به على المستوى المحلي والعالمي.

يُعد أيضًا من أبرز خبراء الري وأحد العارفين بأسرار نهر النيل، وله كتب ومقالات عديدة حول التعدين والري والزراعة في مصر والمنـــطقة بوجه عام، وكان مشروعه الذي كرس له سنوات عـــمره، هـــو نهضة مــصر والارتقاء بالإنسان المصري. شغل منصب أستاذ بجامعة القاهرة في الفترة من 1950 م حتى 1968م، تـــولى إدارة مؤسســة التــــعدين والأبحــــاث الجيولوجية في الفـــترة من 1968 – 1977م.

كرمه الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر في عام 1962م، حيث سلمه وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، وحصل على جـائزة الريادة لعام 2003 م من الجمعية الأمريكية لجيولوجيي البترول، وذلك تقـــــــديرًا لأعماله العلمية في مجال جيولوجيا مصر والشرق الأوسط، التي وصفتها بأنها فتحت آفاقا جديدة لتطبيق هذا العلم في مجال البحث عن البترول في المنطقة.

تقرير إعلامي (فيديو) عن حفل تكريم "مركز الحوار العربي" في العام 2010 للدكتور سعيد بمناسبة بلوغه سن التسعين:

http://www.elmuhajer.com/roshdisaid.php

وسوم: العدد 730