إيران تحت الحماية الروسية

الرئيسُ الإيرانيّ العائدُ من نيويورك يترأسُ الحضورَ لمشاهدة العرض العسكري، وكأنَّ طهرانَ تريدُ استغلال تصريحات ( ترامب) للكشف عن صاروخ خرمشهر البعيد المدى، وعروض بهلوانية جوية وبحرية تحت عنوان سياسة الردّ، والردع .

 تصاعدتْ وتيرة التصريحات الكلامية بينَ الإدارة الأمريكية وبين إيران، (ترامب) يخصص / 4 / دقائق لمهاجمة وانتقاد السلوك الإيراني، وسادت لغة التهديد والوعيد بينهما، من خلال الخطابات والتصريحات المتبادلة؛ الإعلامُ الإيرانيّ يزدحم بالتحليلات والتخمينات التي ناقشتْ مدى جدية، أو مصداقية إدارة ترامب في الانسحاب من الاتفاق النووي من جانبٍ واحدٍ، وما هو موقفُ الأطراف الضامنة دول مجلس الأمن الأخرى وألمانيا من الموقف الأميركي في حال الانسحاب من هذا الاتفاق ؟ ..

 والسؤال الذي يطرح نفسه أيضاً في هذا السياق هو : ما هي خيارات طهران الحقيقية والعاجلة لمواجهة التهديدات الأميركية ؟ .

 ما يقلقُ واشنطن ليس فقط الاتفاق النووي بل التجارب الصاروخية الإيرانية التي تنشط طهران بإجرائها دون رادع ، حيثُ أجرت خمسة تجارب صاروخية لغاية الآن منذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض، بالمقابل تزايدت انتقادات واشنطن لسياسات طهران إزاء دعمها للإرهاب، وتجاهلها لحقوق الإنسان وانتهاكاتها لقرارات مجلس الأمن الدولي، إلى جانب دور إيران في زعزعة الأمن والاستقرار من خلال مداخل الأزمات الإقليمية ؛ لا سيّما في سوريا واليمن، وسعيها لابتلاع العراق؛ من هنا ذكّرت واشنطن بأنّ العقوبات الأمريكية المتسلسلة والجديدة ضدها ليس لها صلة بالاتفاق النووي مع إيران، بل جاءت لمواجهة سياسات طهران لنشر الفوضى وعدم الاستقرار.

 فالعقوبات الأمريكية الحالية والمستقبلية إذاً ليستْ بسبب الاتفاق النووي وإنّما بسبب الملفات الأربع سالفة الذكر، خطاب (ترامب) أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة تشير إلى أن هناك انعطافه أميركية واضحة، وعزم أكيد نحو تنفيذ إستراتيجية سيتم الكشف عنها خلال أقل من أسبوع بعد تراكم التصريحات النارية من خلال دبلوماسية " تويتر " التي يتوسل بها ترامب للتبشير بسياسات أميركا، لكن الملفت أنه وبعد كل تصريح حيث هدّد أكثر من مرّة بإلغاء ما وصفه بـ"أسوأ اتفاق دولي على الإطلاق" " إيران تدعم الإرهاب " و" إيران تهدد الاستقرار العالمي " ، : "إيران تلعب بالنار، والإيرانيون لا يُقدّرون كم كان أوباما طيباً معهم، أما أنا فلست مثله"، لكنه مع كل هذه التهديدات النارية ، والتوصيفات عالية السقف كان يتراجع في كل مرّة عن تهديداته وتوصيفاته..

 إنّها إذاً لعبة مكاسرة الإرادات السياسية التي توائم بين دبلوماسية الاحتواء وسياسة فرض العقوبات ، مما يشير إلى إستراتيجية آخرى غير تمزيق الاتفاق النووي ، الذي يتسم بكونه اتفاقاً دولياً، وليس ثنائياً ؛ مما يعني أن واشنطن قد حسمتْ أمرها الإبقاء على الاتفاق النووي، بموازاة ممارسة جردة حساب واسعة مع إيران على قضايا عديدة .

ولكن ما هي سيناريوهات المواجهة مع إيران ؟ :

 لا بُدّ من التذكير أولاً أنّ إيران منخرطة وبقوة من خلال مداخل الأزمات الإقليمية بدءاً بالعراق مروراً بسوريا، ولبنان، واليمن ..... ، ولديها تقاطعات في السياسات، وهي ركن في المحور الروسي-الإيراني الذي تمّ تدشينه بمباركة أمريكية واضحة سواء في جنوب سوريا أو مناطق خفض التوتر، وكان أخرها في إدلب، كما أنها ضامنة رئيسية للاتفاقات في سوريا إلى جانب روسيا وتركيا،.من خلال سلسلة لقاءات الأستانة . هذا عدا عن نفوذها المباشر والقوي في لبنان، واتهامها بدعم حزب الله، واعتباره منظمة إرهابية، إلى جانب جهود إيران الحثيثة لإدخال أسلحة نوعية فتاكة إلى اليمن تحت سمع ، وبصر الأسطول الخامس الأميركي دون أن يُحرك ساكنًا ، مما يثر الاستغراب والدهشة .

 وبناء عليه يُمكنُ فهم هذا النوع من التداخل والتعقيد والشبهات في العلاقات الأمريكية الإيرانية، بل يجب فهم بعض ما ذكر في إطار سياسي تكتيكي يُحقّق أهدافاً براغماتية جانبية لأمريكا ولإيران معاً تتطلّب إبقاء حالة التوتر والصراع بين الدولتين، وذلك للتغطية على السياسات الإيرانية الحقيقية الخادمة للأجندة الأمريكية، وللاستمرار في قيام إيران بلعب دور الفزّاعة ضد الدول العربية لاستمرار أمريكا في ابتزازها لدول المنطقة، لكن يبدو أن هناك انعطافه أميركية جديدة .

 لكنّ الأهم من تحقيق تلك الأهداف السياسية والإستراتيجية خشية واشنطن من هجوم اقتصادي غربي على السوق والمشاريع في إيران، ووجود أطماع أمريكية اقتصادية في إيران، فالعقوبات والتهديدات الأمريكية لإيران ما هي في الواقع سوى عقوبات، على أوروبا وروسيا والصين، بينما يُروّج الساسة الإيرانيون من خلال تصريحات فارغة يزعمون فيها أنّهم يُواجهون دول الاستكبار؛ وفي مقدمتها الشيطان الأكبر، بينما هم في الواقع مُجرد أدوات لها.

الاستخفاف الإيراني المصطنع :

 تسابقَ المسؤولون الإيرانيين وصف تصريحات (ترامب) بأنها فارغة وغير مفيدة ومجرد تهديدات من شخص يفتقد التجربة السياسية، وشدّدوا على أنّ إيران مصممة على مواصلة تطوير برنامجها الصاروخي، والاختبارات الصاروخية جزءٌ من ذلك؛ لأنها إحدى الضمانات الرئيسية للدفاع عن الأمن الإيراني، معتبرين أنها لا تنتهكُ (الاتفاق النووي) الموقّع معَ الدول الستّ الكبرى في 2015م، ولا القرار الأممي / 2231 / الذي صادقَ على الاتفاق، وطالبوا الجيش والحرس الثوري الإيراني بتكثيف إجراء التجارب الصاروخية .

 في هذا السياق هدّد المرشد خامنئي، والرئيس الإيراني حسن روحاني قبل أيام قليلة بأنّ إيران لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء التهديدات الأميركية، وأنها لن تقدم الهدية لترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي، لكنها تحتفظ بخيارات الرد، في حال استمرّت أمريكا بتوسيع العقوبات، بالمقابل أكّد وزير الخارجية (محمد جواد ظريف ) أنّ (ترامب) أثبتَ للعالم أنّه ليس شريكاً جيداً بتهديده بإلغاء الاتفاق النووي، متهماً إياه بأنه جاهل بالتاريخ، وأن ما قاله في الأمم المتحدة لا يستحق الرد ".

المظلة الدفاعية الروسية هي الحل :

 بدأتْ طهرانُ تفكّر برؤية جديدة بعد تسريبات إعلامية غربية تفيدُ بأن واشنطن عازمة على استهداف إيران عسكرياً، قد تبدأ بمواجهات محدودة كاستهداف القطعات البحرية الإيرانية في مياه الخليج العربي ومياه خليج عدن، إلى جانب احتمالية عالية لتوجيه ضربات عسكرية ضد حزب الله والمليشيات المدعومة من إيران في سوريا ، وهذا السيناريو قد يقود إلى مواجهة شاملة .

 بالمقابل بدأتِ التسريبات والتحليلات الإيرانية لتهيئة الرأي العام الداخلي الإيراني، والتي تشيرُ إلى الخيارات الإستراتيجية الإيرانية المتاحة لها للدفاع عن نفسها ، وفي مقدمته " المظلة الدفاعية الروسية " على غرار النموذج السوري، والتي تتحدث عن قرب إبرام اتفاقيات دفاعية واسعة ستنص على تطوير علاقات عسكرية إستراتيجية دفاعية مع موسكو وبشكل غير مسبوق، يأتي في مقدمتها توقيع اتفاقية دفاع مشترك ستضمن إنشاء قواعد جوية وبحرية روسية دائمة، إلى جانب منح امتيازات كبيرة لسلاح الجو الروسي من خلال القواعد الإيرانية؛ وفي مقدمتها قاعدة همدان الجوية، إلى جانب السماح للجانب الروسي بنصب صواريخ إس 400 ا" الجيل الجديد " للدفاع عن المنشآت النووية الإيرانية، والقواعد والمصانع العسكرية أمام أية هجمات أميركية مفاجئة ، مقابل إعطاء امتيازات كبيرة للجانب الروسي في قطاع النفط والغاز وفي القطاع الاقتصادي والتجاري .

يبدو أنَّ التصعيدَ بات سيد الموقف على الأجندة الأميركية في الأسابيع القليلة التالية على الأقل، وكما يبدو أن المقصود من تحذير الرئيس ترامب لطهران ليس للاستهلاك الداخلي والخارجي، وربما أصبح يشكل تعزيز الإجراءات العقابية ضد طهران أمراً حاسماً في أية لحظة، مع قرب إعلان ترامب لسياساته الجديدة تجاه إيران، وهو ما يتكتم عليه لغاية اللحظة .

 ربّما كانتْ إيرانُ تراهنُ على انشغال أميركا بموضوع كوريا الشماليّة لابتزاز واشنطن على أمل الاستمرار في سياساتها العدوانية، وثمّة مؤشرات مؤكدة على أن طهران ماضية في سياسة التحدي والاستمرار في برامجها الصاروخية ، خاصة مع استعراضها للصاروخ " خرمشهر" البعيد المدى، بالمقابل باتت واشنطن أكثر جدية في ترجمة ما تقول إلى إجراء ردعي فعال يُنهي طموحات إيران التوسعية، على اعتبار أن ممارسة سياسة الردع ربما قد يكون ممكناً في ظل هذا التوقيت الإقليمي والدولي الحساس، وهو ما لا تستبعده طهران، من هنا برزت أهمية تنويع طهران لخياراتها العسكرية والإستراتيجية خاصة مع روسيا لمواجهة أميركا .

 لاشكَّ بأنَّ الأزمة الكورية الشمالية قد أربكت الولايات المتحدة، وهو ما تراهن عليه طهران مؤقتاً؛ ولاسيّما أنّها لا زالت تتخيل نفسها بعيدة عن خيارات الآلة العسكرية الأميركية، لكن بالمقابل قد يحدث العكس تماماً، وتُشكل مواجهة ترامب لإيران أولاً رسالة واضحة للقيادة الكورية لإثبات عزم وجدية الإدارة الأميركية لترجمة ما تقوله ، وتكون إيران وثورتها كبش المحرقة .

د. نبيل العتوم

رئيس وحدة الدراسات الإيرانية

مركز أميه للبحوث والدراسات الإستراتيجية

وسوم: العدد 739