سينية البحتري

سينية البحتري

اختيار د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

النفس الإنسانية هي واحدة لا تتغير على مر الدهور وكر العصور ، تأسى وتحزن ، تنتشي وتتألم . تحوز ما تتشوف إليه فتسعد ، ويخطئها ذلك أحياناً فتشكو .

وترى الحكيم العاقل يكتسب العظات من هذا وذاك ، فيرسلها حِكَماً تنقش على جدار الزمن ، فتتلقفها النفوس ، وتغتذي منها العقول .

هذا شاعرنا العظيم أبو الوليد البحتري يقف على إيوان كسرى ، فيستلهم الحادثات كنوزاً من العبر ، ويستنبط من صروف الدهر العِظات والدروس ، فيرسلها أبياتاً تزداد بريقاً وتوهجاً

لآلئ بلاغة ، وضياء معرفة .

فهو يصون نفسه عما يشينها ، ويتماسك لتقلبات الدهر ، فلا يتضعضع لجفاء الناس ، إنما يبتعد عمن يتناساه ، ويرحل عنه .

وتراه يسلي نفسه بعبر الماضين الذين كانوا ملء العين والبصر ، فصاروا أثَراً بعد عين . .. هكذا الدنيا ، فما ينبغي لعاقل ان يركن إليها ...

كان إيوان كسرى مضرب المثل في الأنس والعمران ، تقصده الجموع ترتجي الحظوة عند صاحبه ، وتخطب ودّه ، وتلتمس رضاه . فأمسى مضرب المثل في انقطاع السرور وذهاب السلطة ، وتفاهة الحياة الدنيا ، والدمار والهلاك .. وقل ما شئت من تعبيرات تدل على أن ما له بداية صائر -لا محالة - إلى نهاية ...

أولو الأبصار والعقول – وحدهم - يعلمون علم اليقين أنهم في دار اختبار ، فهم يسابقون الزمن للفوز بدار البقاء ... ويا سعادتهم حين يصلون إليها غانمين ....

- البحتريّ :

هو أبو عبادة الوليد بن عبيد الطائي ، و اشتهر بالبحتري نسبة إلى" بحتر"وهي قبيلة يمنية الأصل ، ولد بمنبج في الشام ، و نشأ في قبائل طيء ،و تنقل بين القبائل البدوية ، وتأثر بفصاحتها ثم استقر في بغداد و مدح الخليفة المتوكل ووزيره الفتح بن خاقان . تتلمذ في الشعر على يد أبي تمام و لكنه لم يولع مثله بالمحسنات كما أنه لم يتأثر بالفلسفة و لم يتعمق في المعاني كأستاذه أبي تمام ، إنما برع في جمال التعبير و انتقاء الألفاظ و القدرة على التصوير ، حتى قال النقاد : " المتنبي و أبو تمام حكيمان ، و إنما الشاعر البحتري " توفي سنة 284ه .

مناسبة القصيدة :

كانت " المدائن" عاصمة بلاد الفرس قبل أن يفتحها المسلمون ، أما مقر الملك فيها فيُدعى " القصر الأبيض " و في وسطه "إيوان كسرى" قاعة ُ عرش كسرى . وعلى جدرانها رسمت معركة أنطاكية التي دارت بين الفرس و الروم . وقد أصبح هذا القصر من الآثار الرائعة بعد زوال دولة الفرس . و كان البحتري الشاعرالمقرب للخليفة العباسي المتوكل ، فلما قتل حزن عليه و رثاه ، فضاق به "المنتصر بالله "ابن المتوكل الذي كانت له يد في قتل أبيه ،فجفاه ، و فترت العلاقة بينهما ، فامتلأت نفس البحتري هما وغمّاً ،و ذهب إلى المدائن في رحلة يسلي بها نفسه ، فوقف أمام الإيوان الدارس يصفه وصفا حسيا رائعا ،ثم انتقل إلى تاريخهم و عظمتهم .

و القصيدة تقع في ستة وخمسين بيتا ، عشرة منها في ذكر حاله و شكوى دهره ، وستة في السبب التاريخي لهذه الوقفة ،ثم ستة في ذكر عظمة الفرس ،و ستة في ذكر أحوال خاصة. وما بقي وصف للإيوان وقد تفنن فيه الشاعر في الوصف ،و قد فاضت خواطره و تأملاته و آلامه

و فيها يذكر جفاء (المنتصر )ابن المتوكل ، و يذكر رحلته إلى بلاد الفرس و نفسه مليئة بالحزن لاغتيال المتوكل ، فيقول:

صـنـت  نفسي عما يدنس iiنفسي
وَتَـمـاسَكتُ  حينَ زَعزَعَني iiالدَه
بُـلَـغٌ مِـن صُبابَةِ العَيشِ iiعِندي
وَبَـعـيـدٌ  مـابَـيـنَ وارِدِ رِفْهٍ
وَكَـأَنَّ  الـزَمـانَ أَصـبَحَ مَحمو
وَاشـتِـرائـي العِراقَ خُطَّةُ iiغَبنٍ
لاتَـرُزنـي  مُـزاوِلًا iiلِاخـتِباري
وَقَـديـمًـا  عَـهِـدَتني ذا iiهَناتٍ
وَلَـقَـد رابَـنـي نُـبُوُّ ابنُ عَمّي
وَإِذا مـاجُـفـيـتُ كُـنتُ iiجَديرًا
حَـضَـرَت رَحـلِيَ الهُمومُ iiفَوَجَّه
أَتَـسَـلّـى عَـنِ الحُظوظِ iiوَآسى
أَذكَـرتِـنـيـهُمُ الخُطوبُ iiالتَوالي
وَهُـمُ  خـافِـضونَ في ظِلِّ iiعالٍ
مُـغـلَـقٍ  بـابُهُ عَلى جَبَلِ iiالقَب
حِـلَـلٌ لَـم تَـكن كَأَطلالِ سُعدى
وَمَـسـاعٍ لَـولا الـمُـحاباةُ iiمِنّي
نَـقَـلَ  الـدَهـرُ عَهدَهُنَّ عَنِ ال
فَـكَـأَنَّ  الـجِرْمازَ مِن عَدَمِ iiالأُن
لَـو تَـراهُ عَـلِـمـتَ أَنَّ iiاللَيالي
وَهـوَ  يُـنـبيكَ عَن عَجائِبِ iiقَومٍ
وَإِذا مـارَأَيـتَ صـورَةَ iiأَنـطـا
وَالـمَـنـايـا مَـواثِـلٌ iiوَأَنوشِر
في اخضِرارٍ مِنَ اللِباسِ عَلى أَص
وَعِـراكُ الـرِجـالِ بَـيـنَ iiيَدَيهِ
مِـن  مُـشـيحٍ يَهوى بِعامِلِ رُمحٍ
تَـصِـفُ  الـعَـينُ أَنَّهُم جِدُّ iiأَحيا
يَـغـتَـلـي  فـيهِم ارتِابي iiحَتّى
قَـد سَـقـاني وَلَم يُصَرِّد أَبو الغَو
مِـن مُـدامٍ تَـظُـنُّـها وَهيَ iiنَجمٌ
وَتَــراهـا إِذا أَجَـدَّت iiسُـرورًا
أُفـرِغَت في  الزُجاجِ مِن كُلِّ iiقَلبٍ
وَتَـوَهَّـمـتُ  أَنَّ كِسرى iiأَبَروي
حُـلُـمٌ  مُـطبِقٌ عَلى الشَكِّ iiعَيني
وَكَـأَنَّـ الإيوانَ  مِن عَجَبِ iiالصَن
يُـتَـظَـنّـى  مِـنَ الكَآبَةِ إِذ iiيَب
مُـزعَـجًا  بِالفِراقِ عَن أُنسِ iiإِلفٍ
عَـكَـسَت  حَظُّهُ اللَيالي وَباتَ iiال
فَـهـوَ يُـبـدي تَـجَـلُّدًا iiوَعَلَيهِ
لَـمـ يَـعِبهُ أَن بُزَّ مِن بُسُطِ iiالدي
مُـشـمَـخِّـرٌ  تَـعلو لَهُ iiشُرُفاتٌ
لابِـسـاتٌ  مِـنَ البَياضِ فَما iiتُب
لَـيـسَ  يُـدرى أَصُنعُ إِنسٍ لِجِنٍّ
غَـيـرَ  أَنّـي أراه يَـشهَدُ أَن iiلَم
فَـكَـأَنّـي  أَرى الـمَراتِبَ iiوَالقَو
وَكَـأَنَّ الـوُفـودَ ضاحينَ iiحَسرى
وَكَـأَنَّ  الـقِـيانَ وَسطَ iiالمَقاصي
وَكَــأَنَّ الـلِـقـاءَ أَوَّلَ مِـن iiأَم
وَكَـأَنَّ الَّـذي يُـريـدُ iiاتِّـبـاعًا
عُـمِّـرَت لِلسُرورِ دَهرًا iiفَصارَت
فَـلَـهـا  أَن أُعـيـنَـها iiبِدُموعٍ
ذاكَ عِـنـدي وَلَيسَت الدارُ iiداري
غَـيـرَ  نُـعمى لِأَهلِها عِندَ iiأَهلي
أَيَّـدوا مُـلـكَـنـا وَشَـدّوا iiقُواهُ
وَأَعـانـوا عَـلـى كَـتائِبِ iiأَريا
وَأَرانـي مِـن بَـعدُ أَكلَفُ iiبِالأَش























































وَتَـرَفَّـعـتُ  عَن جَدا كُلِّ iiجِبسِ
رُ الـتِـمـاسًا مِنهُ لِتَعسي iiوَنَكسي
طَـفَّـفَـتـها الأَيّامُ تَطفيفَ iiبَخسِ
عَـلَـلٍ شُـربُـهُ وَوارِدِ iiخِـمسِ
لًا هَـواهُ مَـعَ الأَخَـسِّ iiالأَخَـسِّ
بَـعـدَ بَـيـعي الشَآمَ بَيعَةَ iiوَكسِ
بَـعـدَ هَـذي البَلوى فَتُنكِرَ iiمَسّي
آبِـيـاتٍ  عَـلـى الدَنِيّاتِ iiشُمسِ
بَـعـدَ  لـيـنٍ مِن جانِبَيهِ iiوَأُنسِ
أَنـ أَرى غَيرَ مُصبِحٍ  حَيثُ iiأُمسي
تُ إِلـى أَبـيَـضِ المَدائِنِ iiعَنسي
لِـمَـحَـلٍّ مِـن آلِ ساسانَ iiدَرسِ
وَلَـقَـد تُـذكِـرُ الخُطوبُ وَتُنسي
مُـشـرِفٍ  يَحسِرُ العُيونَ iiوَيُخسي
قِ  إِلـى دارَتَـي خِـلاطَ iiوَمُكسِ
فـي قِـفـارٍ مِـنَ البَسابِسِ iiمُلسِ
لَـم تُـطِـقها مَسعاةُ عَنسٍ iiوَعَبسِ
جِـدَّةِ حَـتّـى رَجَعنَ أَنضاءَ iiلُبسِ
سِ وَإِخـلالِـهِ بَـنِـيَّـةُ iiرَمـسِ
جَـعَـلَـت فـيهِ مَأتَمًا بَعدَ iiعُرسِ
لايُـشـابُ الـبَـيـانُ فيهِم بِلَبسِ
كِـيَّـةَ  اِرتَـعتَ بَينَ رومٍ iiوَفُرسِ
وانَ يُزجى الصُفوفَ تَحتَ الدِرَفسِ
فَـرَ  يَـخـتالُ في صَبيغَةِ iiوَرسِ
فـي خُفوتٍ مِنهُم وَإِغماضِ iiجَرسِ
وَمُـلـيـحٍ مِـنَ الـسِنانِ iiبِتُرسِ
ءَ لَـهُـم بَـيـنَـهُم إِشارَةُ iiخُرسِ
تَـتَـقَـرّاهُـمُ  يَـدايَ iiبِـلَـمسِ
ثِ عَـلـى العَسكَرَينِ شَربَةَ iiخُلسِ
ضَـوَّأَ  الـلَـيلَ أَو مُجاجَةُ iiشَمسِ
وَارتِـيـاحًـا لِـلشارِبِ iiالمُتَحَسّي
فَـهـيَ  مَـحـبوبَةٌ إِلى كُلِّ iiنَفسِ
زَ  مُـعـاطِـيَّ وَالـبَـلَهبَذَ أُنسي
أَم أَمـانٍ غَـيَّـرنَ ظَنّي iiوَحَدسي
عَـةِ جَوبٌ في جَنبِ  أَرعَنَ iiجِلسِ
دو لِـعَـيـنَـي مُصَبِّحٍ أَو iiمُمَسّي
عَـزَّ أَو مُـرهَـقًا بِتَطليقِ iiعِرسِ
مُـشـتَري فيهِ  وَهوَ كَوكَبُ نَحسِ
كَـلـكَلٌ  مِن كَلاكِلِ الدَهرِ iiمُرسي
بـاجِـ وَاستَلَّ  مِن سُتورِ iiالدِّمَقسِ
رُفِعَت في رُؤوسِ  رَضوى iiوَقُدسِ
صِـرُ  مِـنـهـا إِلّا غَلائِلَ iiبُرسِ
سَـكَـنـوهُ  أَم صُـنعُ جِنٍّ iiلِإِنسِ
يَـكُ بـانـيـهِ في المُلوكِ iiبِنُكسِ
مَ إِذا مـا بَـلَـغـتُ آخِـرَ حِسّي
مِـنـ وُقوفٍ خَلفَ الزِحامِ iiوَخنسِ
رِ  يُـرَجِّـعـنَ بَـينَ حُوٍ iiوَلُعسِ
سٍ  وَوَشـكَ الـفِـراقِ أَوَّلَ iiأَمسِ
طـامِـعٌ  في لُحوقِهِم صُبحَ iiخَمسِ
لِـلـتَـعَـزّي  رِبـاعُهُم وَالتَأَسّي
مـوقَـفـاتٍ  عَلى الصَبابَةِ iiحُبسِ
بـاِقتِرابٍ مِنها  وَلا الجِنسُ iiجِنسي
غَـرَسـوا مِن زَكائِها خَيرَ iiغَرسِ
بِـكُـمـاةٍ  تَـحتَ السَنَّورِ iiحُمسِ
طَ  بِـطَـعنٍ عَلى النُحورِ iiوَدَعسِ
رافِـ طُـرًّا  مِـن كُلِّ سِنخِ iiوَأُسِّ

            

 بعض معاني المفردات :

-الإيوان : بهو له سقف و ثلاثة جدران ، يقع بين الغرف و يجلس فيه كبار القوم .

 - رحلي : ارتحالي و ما يوضع على البعير للرحيل حضرته جعلته حاضرا .

 - العنس : الناقة القوية الصلبة .

 - أبيض المدائن: القصر الأبيض لكسرى أنوشروان .

 - آل ساسان : ملوك الفرس من نسل أردشير حفيد ساسان مؤسس السلالة الساسانية

 - خافضون : يعيشون برفاهية و اطمئنان

 - مشرف :عال .

 - يحسر : يردها من الإعياء ، يضعف .

 - يخسي : يكل و يخسر أو يعيى.

 - اللبس :الاختلاط و الشبهة و عدم الوضوح .

 - أنطاكية :بلدة بالشام دارت فيها معركة بين الفرس و الروم قبل الإسلام نقشت رسومها على جدران الإيوان ، و صورة أنطاكية :اللوحة الجدارية التي تمثل المعركة

 - ارتعْت :فزعْت

 - المنايا :جمع منية ،و هي الموت .

 - موائل : متحفزات للعمل

 - أنوشروان : ملك الفرس .

 - يزجى : يسوق و يدفع .

 - الدرفس : راية كبيرة ، و هي رمز لتحرير بلاد الفرس على يدي بطلهم (أفريون ) و كانت محلاة بالجواهر الكريمة .

 - على أصفر : على جواد أصفر بمعنى أسود .

 - يختال : يتكبر

 - صبيغة : ثياب مصبوغة .

 - الورس : نبات يستعمل لتلوين الملابس ..

 - الخفوت : الصوت الخافت المنخفض (السكون ).

 - إغماض جرس : انخفاض الصوت .

 - المشيح : فارس يقظ يتقدم و قد احتاط بما وراء ظهره .

 - يهوي : ينقض و يضرب .

 - عامل رمح : أعلاه .

 - مليح :فارس حذر يتقي الطعنات .

 - السنان : حديدة الرمح ، جمعها أسنة .

 - ترس: قطعة من الفولاذ تحمل للوقاية من السيف .

 - تصف العين : تتخيل .

 - يغتلي ارتيابي : يزداد شكي .

 - تتقراهم : تتحسسهم ، أي يلمسهم ليرى أصور مرسومة هم أم أشخاص أحياء يتحاربون ؟

 - الجوب :الترس ، الفتحة الواسعة في الجبل .

 - أرعن : الجبل ذو النتوءات الشاخصة . والأرعن : البناء الغليظ العالي

 - جلس الغليظ المرتفع من كل شيء

 - يتظنّى: يعمل فيه الظن أو الشك .

 - بز : نزع ، أخذ . استل : نزع ،أخذ .

 - الديباج : الحرير الغليظ ، الاإستبرق.

 - الدمقس :الحرير الأبيض الناعم .

 - مشمخر : ضخم و عالي .

 - رضوى : اسم جبل يقع بين المدينة و ينبع .

 - ضاحين : بارزين للشمس في وقت الضحى .

 - حسرى :متلهفين .

 - الحوّ : احمرار يضرب إلى سواد في الشفة.

 - اللعس : سواد يعلوشفة المرأة البيضاء.

 - الخنس : المتأخرون ،والكواكب الخنس هي التي تظهر للناظر و تختفي

 - أراد بالتعزي و التأسي : السلوان وتخفيف الحزن .