أذكياء

أذكياء

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

تاريخنا مليء بمواقف ذكية نقف أمامها موقف المتعجب الفخور ونقرؤها قراءة واعية ، فالعلم بالتعلم ، والحلم بالتحلّم ,,, ولعلنا تقتبس من هذه القصص والمواقف العبر والعظات : اقتنصها الإمام

يروى أن رجلاً دفن مالاً في مكان ثم قصد بيت الله الحرام حاجاً ، فلما عاد بعد شهور طويلة إلى داره في بغداد وإلى عمله احتاج المال ولكنه نسي المكان الذي أودعه فيه ، فأصابه الهمّ والغم ، فالمال كثير ، وهو بحاجة إليه ، فماذا يفعل ؟ .

نصحوه أن يأتي الإمام أبا حنيفة النعمان ، ولْيقص عليه قصته ولن يعدم الإمام حيلة في استرجاع المال الضائع .

قال الإمام : ليس هذا من الفقه حتى أفتيك

قال الرجل : يا إمام إنه مالي وأنا أحتاجه وآسى كلما حاولت تذكر المكان الذي دفنته فيه فترتد ذاكرتي خائبة تطعنني في صدري وتخترق قلبي .

ابتسم الإمام ثم قال : اعتكف هذه الليلة ، وصلّ مئة ركعة تجدْ ضالتك إن شاء الله .

بعد صلاة العشاء توجه الرجل بقلبه إلى ربه يدعو ويصلي ويجتهد في الصلاة والدعاء ، فما إن صلى ركعات أربع حتى تذكر المكان ، فانطلق إليه وأخرج المال ، وأسرع إلى الإمام إبي حنيفة يشكره يخبره أن ماله بين يديه ، ويسأله سبب تذكره مكان المال بعد أن فشل في ذلك .

ابتسم الإمام قائلاً : أعلم ان الشيطان يسوءه أن تصلي وتعبد الله مخلصاً فذكّرك بالمكان الذي دفنت فيه مالك ، كي تتأخر عن عبادتك وصلاتك . ألا تريد أن تشكر الله تعالى وتعصي الشيطان وتذله ؟ .

قال الرجل بلى والله .

قال الإمام : أسرع إذاً إلى ماكنت عليه من صلاة ودعاء . تـُرضِ ربك وتذلّ عدوّك .

الإمام وأمير المؤمنين

لم يجد أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي الثاني خيراً من الإمام أبي حنيفة ليكون قاضي الخلافة ، فعينه في هذا المنصب المهم . وكان الإمام يكره أن يكون قاضياً ويرى هذا المنصب عبئاً ثقيلاً لا يحتمله ، فاعتذر للخليفة ويأله أن يعفيه ، فأبى الخليفة ذلك قائلاً بحدة : بل أنتأهل ذلك يا أبا حنيفة ، ولا أقيلك .

قال أبو حنيفة : يا أمير المؤمنين لا أصلح له ، ولا يصلح لي .

قال أبو جعفر كذبت ؛ بل تصلح له ويصلح لك .

ردّ الإمام أبو حنيفة : يا أمير المؤمنين لا أصلح له .

قال أبو جعفر كذبت والله بل أنت أهل له .

وهنا التفت الإمام أبو حنيفة يقول : إن كنت كاذباً كما تقول ، فالكاذب لا يصلح أن يكون قاضياً ، وإن كنت صادقاً فقد أعلنت أني لا أصلح له .

أرجو أن تسمح لي بالانصراف يا أمير المؤمنين .

فأسقط بيد أبي جعفر المنصور .

قضية ولا أبو الحسن لها

كلمة مشهورة قالها أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وأرضاه في أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وأرضاه حين كان قاضياً في المدينة المنورة على عهد الفاروق .

يروي القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره للآية الكريمة  في سورة الأحقاف " وحمله وفصاله ثلاثون شهراً " فقال:

جاء رجل يطعن في طهارة زوجته ، فقد ولدت غلاماً ولمّا يمض على زواجه منها ستة أشهر ، ويشكوها لأمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه ، فرأى الخليفة عثمان أن يحدّها ن  فهي محصن زنت ، فأبى علي رضي الله عنه أن تكون زانية وقال : بل : إن الغلام لزوجها فهو أبوه . لقد قال تعالى " والوالدات يرضعن أولادهنّ حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة " وقال في سورة الأحقاف " وحمله وفصاله ثلاثون شهراً " فيكون الحمل إذاً ستة أشهر . فكان قوله - رضي الله عنه – الفصل في توضيح الأمر ووضع الحق في نصابه ، وبراءة الزوجة من الزنا .

مخلوق من نار ويعذب بالنار

شيخ يسأل الإمام الشافعي رضي الله عنه :

 كيف يعذب الله تعالى الجن بالنار وهم مخلوقون من نار؟

أمسك الشافعي بطين يا بس وجمعه بقبضته ، ثم رمى به الرجل .

غضب الرجل وقال : أسألك وتهينني ! إمامٌ ملأ صيته أطباق الأرض بأخلاقه وعلمه يتصرف هذا التصرف المشين ؟!

قال الشافعي : لِمَ غضبت يا رجل ، أتراني أسأت إليك ؟

قال الرجل : نعم وأهنتني بين الناس ، وآلمتني

قال الشافعي : وآلمتك ؟

قال الرجل : آلمتني نفساً ، وأوجعتني جسماً .

قال الشافعي : لقد رميتك بالطين ، وقد خُلقت من طين ، فهل بؤلم الطينُ الطينَ ؟

سكت الرجل حين عرف المغزى ، فالإمام أراد أن يجيب على سؤاله عملياً .. فالله تعالى يعذب الجن وهم مخلوقون من نار بالنار ... نسأل الله العفو والعافية ........هكذا يُروى .

صراحة لا بد منها

رجل في مجلس الفقيه ابن عقيل يقول له مستفتياً : إني أنغمس في الماء مرات كثيرة، ومع ذلك أشك: أ تطهرت أم لا، فماذا أفعل يا سيدي ؟

قال ابن عقيل: اذهب، فلا صلاة عليك .

يسأله الرجل متعجباً : : وكيف ذلك؟  كيف تسقط عني الصلاة ؟!

 ابتسم ابن عقيل ثم قال:يقول النبي صلى الله عليه وسلم قال: " رفع القلم عن ثلاثة: المجنون حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ، والصبي حتى يبلغ ". ومن ينغمس في الماء مرارا - مثلك- ولا يدري أغتسلَ أم لا مجنون ...

وهذا يذكرني برجل آخر يصلي ، ويوسوس له الشيطان أنه نسي في صلاته أموراً فلا يدري أفعلها أم لم يفعلها يسأل فقيهاُ حلاً لمأساته فيقول الشيخ مبتسماً أنسيت أنك الآن وأمامي طلّقت زوجتك ثلاثاُ ؟

ردّ الرجل بانفعال : لا والله ما طلّقتها ،  ولم ألفظ كلمة الطلاق في حياتي ، فلماذا تتقوّل عليّ يا رجل ؟!

قال الفقيه : قل لشيطانك يا هذا بالحدة نفسها والانفعال نفسه أنك صليت صلاة صحيحة وأنه شيطان خناس .

ابتسم الرجل ثم انفرجت أساريره ، فقد فهم مراد الفقيه .

بل الإنسان على نفسه بصيرة

سئل ابن عباس رضي الله عنهما : ما تقول في الغناء ، أحلال هو أم حرام ؟

قال ابن عباس : لا أقول حراماً إلا ماذكر في كتاب الله وسنة نبيه أنه حرام .

قال الرجل : أحلال هو ؟

قال ابن عباس : لا أقول حلالاً إلا ما ذكر في كتاب الله وسنة نبيه أنه حلال .

ونظر ابن عباس إلى الرجل، فرأى على وجهه علامات الحيرة.فقال له:

 أرأيت الحق والباطل إذا جاءا يوم القيامة، فأين يكون الغناء؟

قال الرجل: يكون مع الباطل. 

 قال ابن عباس: اذهب فقد أفتيت نفسك .