الموت والخبز اليومي

الموت والخبز اليومي

منشور في:  مجلة "وورسكيبس" 

قامت ممرضة شابة بمستشفى دار الشفاء بمدينة حلب بتقليب صفحات دفترها الضخم، لتعطيني أسماء من قتلوا وجرحوا في الهجمات الأخيرة بشكل يومي. توقفت وتنهدت عندما وصلت إلى صفحة كتب عليها "16 أغسطس/آب". استغرقت بضع دقائق في عدّ الأسماء ثم قالت بهدوء، وجسدها يرتعد بسبب ذكريات ذلك اليوم " لقد تلقينا ستين جثة جراء هجوم واحد، لم نتمكن من تحديد هوية أحد عشر قتيلاً منهم، هذا بالإضافة إلى ستة وسبعين جريحاً كانوا يقفون أمام المخبز، في انتظار الخبز". لقد وصفت عملية قتل جماعي أمام مخبز يسمى فرن الذرة، في حي قاضي عسكر، بمدينة حلب.

أنا أعمل في سوريا بشكل سري منذ أربعة أسابيع، أتحقق من انتهاكات قوانين حقوق الإنسان من قبل طرفي النزاع، وهي رحلتي الثالثة داخل الأراضي السورية خلال ثمانية عشر شهراً، بهدف توثيق الانتهاكات المروعة التي ترتكبها القوات الحكومية السورية. ومع ذلك أجد الأمرعصياً على التصديق: قصف المخابز؟! قتل الواقفين أمام المخابز؟! ماهو هدف الحكومة من مهاجمة الأهالي وهم يقفون في الطوابير، في انتظار الخبز من أجل عائلاتهم!

المخابز هي الأماكن الوحيدة التي قد ترى فيها حشداً من الناس في مدينة حلب التي مزقتها الحرب، أو في القرى المحيطة. حيث يبقى الأهالي معظم الوقت مختبئين خوفاً من هجمات المدفعية أو الهجمات الجوية التي أصبحت عادة يومية على مدار الشهر الماضي، لكن النقص الحاد في الخبز في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، أجبر الأهالي على الخروج من بيوتهم في الفجر، أو ليلاً حين تصل حصص الطحين إلى المخابز، فتبدأ عملها.

يعتبر الهجوم على طابور من منتظري الخبز صادماً، لذلك وجب علينا إجراء تحقيق لتحديد ما حدث، يبدأ عند فرن الذرة.

عند وصولنا، كان المخبز مفتوحاً رغم الهجمات السابقة، ويتجمع أمامه مئات الرجال والأطفال، بينما النساء تقفن صفاً داخله. ولقد وجدنا عدداً من الشهود الذين تواجدوا وقت الهجوم يوم السادس عشر من أغسطس/آب. أخبرونا أنه في حوالي الساعة السادسة إلا ربع، سقطت قذيفة أو اثنين من قذائف المدفعية على الميدان، قرب أحد قواعد الجيش السوري الحر في المنطقة، على بعد مائة وخمسين متراً من المخبز. لم تحدث القذيقة أي خسائر في المنشآت أو في الأرواح بين أفراد الجيش السوري الحر، وبعد حوالي ربع ساعة سقطت ثلاثة قذائف تباعاً قرب المخبز في غضون دقائق، وأصابت القذيقة الثالثة شارعاً على بعد أمتار من المخبز، وتناثرت الشظايا على الواقفين .

يعتبر ما حدث هو الأكثر دموية من بين ما تم توثيقه في مدينة حلب، ولكن مازال الوقت مبكراً للوصول إلى استنتاج نهائي. وفي الأيام التالية قمنا بتوثيق خمس هجمات أخرى على مدينة حلب والقرى المجاورة لها. وجمعنا معلومات موثقة عن أربع هجمات أخرى. في كل الحالات عدا واحدة فقط، هاجمت القوات الحكومية المخابز عندما كان الأهالي ينتظرون أمامها. كما قمنا بفحص الفجوات التي سببها القصف وبقايا الذخيرة، فاكتشفنا أنه تم إطلاق ذخيرة حربية مثل قذائف المدافع والصواريخ والقنابل قرب صفوف الواقفين في انتظار الخبز، وأنها قتلت وأصابت عدداً كبيراً من الأهالي. وفي حالات قليلة، سمع المنتظرون أمام المخابز صوت طائرات مقاتلة تقترب، فتمكنوا من الهرب قبل الهجوم، وشاهدوا الطائرات وهي تسقط حمولتها من الذخيرة.

المخابز العشرة التي تمت مهاجمتها كانت في مناطق أو مدن لا تشهد عمليات عسكرية قبل الهجوم أو بعده. فرن الذرة هو الوحيد الذي يقع قرب موقع للجيش السوري الحر. وفيما يتعلق بالمخابز الأخرى، فلقد وثقنا عدم وجود أهداف عسكرية، عدا بعض أفراد من الجيش الحر يقومون بالمساعدة في توزيع الخبز .

وهناك العديد من مقاطع الفيديو التي التقطها شهود عيان بعد الهجمات، توثق شهادتهم بوضوح صادم. أحمد ( ليس اسمه الحقيقي ) عمره سبعة عشر عاما، نجا بأعجوبة من هجوم على مخبز أقيول في حي باب الحديد في الحادي والعشرين من أغسطس/آب، بمدينة حلب. يقول في شهادته أنه رأى مروحية تحوم حول المنطقة في ذلك اليوم، فقام بتصويرها. ثم رأى المروحية تسقط قنبلة فجرى يبحث عن ملجأ، ثم أكمل التصوير بعد أن غادرت المروحية. كان في حالة من الهلع منعته من وصف ما حدث، واكتفى بأن ناولني الكاميرا.

صورت الكاميرا أكثر المشاهد التي رأيتها بشاعة. الكاميرا تتحرك ببطء لتصور صفاً طويلاً من الناس إلى جوار المخبز، جميعهم مقتولين أو مصابين إصابات خطيرة. وهناك العديد من الجثث مبتورة الرأس أو الأطراف ممددة على الأرض قرب المخبز .

الموضوع لا يحتمل الخطأ، فالقصف كان عشوائياً وبلا تمييز، كما أن نوعية الهجمات وعددها تدل بوضوح على تعمد القوات الحكومية استهداف المدنيين. إنها المرة الأولى التي نقول فيها بثقة أن لدينا دليل على وجود هجمات بالمدفعية والطيران تستهدف المدنيين، وهو ما يشير إلى دخول الصراع مرحلة جديدة، حيث لجأت القوات الحكومية إلى أكثر التكتيكات بشاعة؛ وهو قتل وترهيب المدنيين، بعد فشلها في وقف تقدم قوات الجيش الحر عبر البلاد .

إن ما يحدث دليل على يأس القوات الحكومية، حيث لا تبذل أي جهد من أجل التمييز بين المقاتلين والمدنيين، فتبدأ في قتل النساء والأطفال الذين لا يشتركون في أية أعمال عدائية ضدها. ويمكن اعتبار ما يحدث صرخة لإيقاظ بعض أعضاء المجتمع الدولي الذين يتعاملون حتى الآن مع النظام السوري كشريك شرعي. وفي هذه الأثناء، يتسبب التساهل مع النظام السوري في إضافة المئات من الأسماء الجديدة إلى قائمة الضحايا في أماكن مثل مستشفى دار الشفاء.

آنا نيستات: المدير المساعد لقسم الطوارئ في هيومن رايتس ووتش.