أصوات بين القصب

للكاتب التركي: محمد نار

ترجمة: شمس الدين درمش

تحركت بنا السيارة، تجاوزنا المنعطفات التي تصيب الرؤوس بالدوار، حتى وصلنا أسفل الجبل. ثم دخلنا منطقة المستنقعات المليئة بالقصب على مد البصر.

كانت الريح تميل بأعواد القصب الكثيفة العالية وكأنها تحيينا برؤوسها. أعواد القصب في حركة ركوع وقيام، السناجيب تتسلق الأشجار، اللقالق الغريبة تستريح على رجل واحدة، وكأنها نائمة وهي واقفة، أسراب الطيور وكتل البعوض المحلقة كانت تذكر بقطع الغيوم الداكنة في وجه السماء!!.

كنا نسير في هذا الجو، والبعوض الذي يرافق السيارة بكثافة ينتهز الفرصة ليدخل السيارة ويهاجمنا!!

لم أتقبل هذه الحشرة يوماً ما، ساقها عوجاء، صوتها مزعج، شرهة دائماً، كأنه لا يكفيها أن تمتص دماء البشر فقد كانت تتسبب في مرض الملاريا أيضاً، تعيش على الدماء، ولا يهمها فصيلة الدم أكانت من زمرة أ أو ب أو كانت سالبة أو موجبة، يكفي أن يكون ما تشربه دماً!!

هكذا كانت صورة هذا المكان عندما مررت به أول مرة، المكان الذي ارتبط اسمه بقصة فتاة تدعى "زينب".

فتاة جميلة، ابنة علي الراعي، تركض في مراعي جبال "مارجا" غربي جبال طوروس، وتتوثب خلف شياهها المتوثبة، وتمضي في حياتها بهدوء.

لم يكن قلبها قد تعلق بفتى من قبل، ولكن ذلك كان محتملاً قريباً، فقد كان أبوها ينوي تزويجها من ابن عمها.

كانت "زينب" التي أمضت أيامها في رعي الشياه عبر المراعي الخضر، تستمع إلى أغاريد الطيور، وتستمتع بروائح الأزهار العطرة، أخذت جمالها من جمال تلك الطبيعة!.

قامتها كغصن البان، وشعرها كضباب الجبال، صوتها كشدو البلابل، خدودها كشقائق النعمان، وقلبها كصفاء الطبيعة، أما عيناها فكانتا بلون خضرة الغابات!!

كل شاب كان يحلم بمثلها! ولكنها لم تكن تميل لأحد قط، حتى قدم إلى المراعي شاب بصحبة أبيه التاجر الذي يشتري الأغنام من الرعاة. فتعلق قلبها به، وأعجب الشاب بها أيضاً!!.

أخذ جمال يتردد إلى المرعى لرؤية زينب بصحبة أبيه التاجر كلما وجد فرصة، ثم تقدم لطلب يد زينب، وخطبها من أبيها.

رفض علي الراعي طلب ابن التاجر، معللاً رفضه بأن ابنته التي ولدت في الجبال، وترعرعت في المراعي لا تستطيع أن تتوافق مع حياة المدينة!!.

كان تفكير الأب الراعي يبدو منطقياً، ولكن الحب الذي امتلأ به قلب زينب وجمال كان له شأن آخر، فلم يستطع الأب الراعي تقدير مدى تأثيره في حياتهم.

لم تعد زينب تحس بجمال المراعي، ولا بوثبات الشياه، ولا بتغريد العصافير، ولا بأريج الأزاهير، فقد كانت عاجزة عن مواجهة قدرها الذي أعلنه أبوها!!.

ذات يوم غابت زينب عن الأنظار، وغاب ولد التاجر، ولم يستطع أحد أن يعرف وجهتهما.

غضب أبو زينب، واستثار أولاده الكبار للثأر، وأخبروا الشرطة بما حصل، فبدأ البحث عنهما.

كان الشاب جمال يعرف ناساً كثيرين لأنه من عائلة ثرية، ولأبيه التاجر معارف كثيرة في القرى، فاختبأ مع زينب عند أحد أصدقاء العائلة!!.

فتش الشرطة المنطقة، وبحثوا في البيوت التي يشك أن يأويا إليها، فلم يعثروا لهما على أثر.

وفي ليلة فاجأت الشرطة القرية التي فيها زينب وجمال، وبدؤوا التفتيش، تصرف صاحب البيت فوراً واستطاع أن يخرج (زينب وجمالاً) من القرية ودفعهما نحو غابات القصب الكثيفة في منطقة المستنقعات!

كانا سيعودان حال مغادرة الشرطة القرية، إطلاق صافرة معينة كانت الإشارة برحيل الشرطة، وعودة جمال وزينب!!.

غادرت الشرطة القرية، أطلقت الصافرة.. ثم أطلقت مرة أخرى!! لكن جمالاً وزينب لم يعودا، ولم يعطيا أية إشارة!!

بدأ البحث تحت جنح الظلام، أضيئت المصابيح والفوانيس ورفعت المشاعل، وتم الخوض في غابات القصب، ولما يئسوا من العثور عليهما انتظروا الصباح!.

وفي الصباح دققوا في البحث فلم يجدوا لهما أثراً، وكأن الأرض قد انشقت وابتلعتهما.

مرت على ذلك أيام، شاهد الناس يوماً منظراً غريباً، عمود هائل من البعوض ممتد من الأرض إلى السماء يلف حول نفسه، ويدور كالزوبعة مطلقاً أزيزاً شديداً.

شد هذا المنظر انتباه القرويين في مكان ما داخل المستنقع وسط غابات القصب، فقادهم الفضول والأمل الغائب إلى حيث زوبعة البعوض!

كان مركز الزوبعة نقطة وجود جمال وزينب، منظر لا يمكن للخيال أن ينساه! زينب وجمال متعانقان، تداخلت عظامهما بعضها في بعض، امتص البعوض دماءهما، ثم التهمت سائر الحشرات كل شيء من الجسدين: الثياب.. الجلد.. اللحم.. وبقيت العظام.. العظام فقط!!

تركت هذه النهاية المفجعة آثارها الأليمة على والد زينب الراعي علي وعلى والد جمال تاجر الأغنام، وانحفرت في ذاكرة القرويين هناك.

رجع كل واحد إلى بيته، وقلبه يتقطع من الحسرة والألم لما رأياه من مصير ولديهما، وجناة البعوض عليهما.

وكانت تلك النهاية المفجعة نهاية سعيدة لذلك المستنقع الذي يرتع فيه البعوض عبر غابات القصب. عندما حضر المحافظ رجائي واستمع إلى هذه القصة، قرر وضع نهاية لهذا المستنقع، وبدأ التنفيذ فوراً.

فتحت قنوات الصرف، جففت الأرض، جلبت أشجار من خارج المنطقة وغرست بشكل منظم، قسمت الأرض على القرويين، وأزيلت غابات القصب، انتهى البعوض تلقائياً، ولم يبق أي مظهر لما كان يسببه من مرض الملاريا.

تلك الأراضي تزرع الآن بالقمح، وسائر أنواع الخضروات والحبوب الأخرى. ولكن الناس لم ينسوا غابات القصب في ذلك المستنقع والحادثة الأليمة التي انتهت بها.

يقولون: زينب وجمال يلتقيان في ذلك الموضع كل ليلة جمعة ويتحادثان!! بعض الناس ادعوا أنهم سمعوا صوتهما في ليلة هادئة الريح، كانا يتهامسان كحفيف أوراق الشجر!!.

من بين الذين كانوا لا يصدقون هذا مدير الناحية الذي يلقب بالضابط الأعرج، كان يقول: هل يمكن لشخص ميت أن يتحدث ويسمعه الناس؟! وحصل أن تصادم أيضاً مع بعض الذين يصدقون هذا!.

قال الضابط الأعرج: سنوات طويلة، ومرات كثيرة مكثت هنا، ونمت وقمت، فلم أسمع شيئاً، فكيف تسمعون؟!.

عندما قال الضابط الأعرج هذا بحماس وغضب، اعترضه إمام المسجد وقال له: أنت! يا أعرج!. ما الذي تسمعه حتى تسمع هذا؟! سنوات طويلة ملأ أزيز البعوض فيها الآذان فلم تسمع!! وإذا سمعت لم تقل يوماً يجب أن نجفف هذا المستنقع كي نقضي على البعوض، وننقد الناس من شره!! والآن؛ كل يوم يرفع الأذان خمس مرات من المسجد وأنت لا تسمعه!!! وهناك أشياء كثيرة أنت لا تسمعها!!

إذا أردت أن تسمع، سمعت صوت زينب!! كل مخلوقات الله سبحانه تسبح الله بلسانها.. الطيور والأحجار والمياه في تسبيح دائم لله، ما هو الغريب إذا كانوا سمعوا صوت زينب؟! أصوات الشهداء الذين يختمون حياتهم بكلمة الشهادة وهم يموتون في سبيل الله دفاعاً عن دينهم وأوطانهم مخبوءة في غلافنا الجوي!!، يحاول العلم الحديث التوصل إلى فرز هذه الأصوات وغيرها ويسجلها!! أنت كيف تريد معرفة هذه الأشياء؟!.

أصخ إلى قلبك جيداً، وأرهف سمعك، عند ذلك تسمع.. تسمع أذان بلال الحبشي.. الله أكبر.. الله أكبر! ونداء بايزيد الصاعقة لجنوده يأمرهم بالتقدم لحصار "فيينا"! وصرخة محمد الفاتح أمام أسوار القسطنطينية لاقتحامها! وتلبية المعتصم لنداء امرأة مسلمة.. وامعتصماه!! ستسمع كل هذه الأصوات وغيرها بشرط أن تكون لديك إرادة السماع!!

ثم عدنا من الطريق نفسها، وطوال الطريق كنت أفكر بما حصل لزينب وجمال، واحتمال أن يكون ما قاله الناس ويقولونه نوعاً من الوهم!، وعدم تقدير كل من والد زينب الراعي علي، ووالد جمال تاجر الأغنام، وما كان يمكن أن يؤول إليه حال ولديهما المسكينين! وإهمال الدولة مثل تلك المستنقعات التي تنشأ عنها الأمراض والمآسي! كان كل ذلك يمر بخاطري مثل شريط مصور، كمرور السيارة على ما حولنا من أشياء!! وانقطع الشريط مع انتباهي لوصولنا إلى القرية.