شكوى ومناجاة

ترجمة: أبو الحسن الندوي

شعر:د. محمد إقبال

كان محمد إقبال كثير الاعتداد بالإيمان، شديد الاعتماد عليه، يعتقد أنه هو قوته وميزته، وذخره وثروته، وأن أعظم مقدار من العلم والعقل، وأكبر كمية من المعلومات والمحفوظات، لا تساوي هذا الإيمان البسيط.

يقول في بيت:

"إن الفقير المتمرّد على المجتمع –يشير إلى نفسه- لا يملك إلا كلمتين صغيرتين، قد تغلغلتا في أحشائه وملكتا عليه فكره وعقيدته، وهما: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.

وهنالك علماء وفقهاء، الواحد منهم يملك ثروة ضخمة من كلمات اللغة الحجازية، ولكنه قارون لا يُنتفع بكنوزه".

وكان شديد الغيرة على اعتزائه إلى هذه الرسالة وإلى هذه الشخصية العظيمة، فكان يأبى أن يتطفل على مائدة أجنبية، أو أن يروي غلّته من معين غريب يقول:

"رفقاً يا رسول الله بفقير غيور أبيّ النفس رفض أن يملأ كوبه من نهر الأجانب".

وجاشت نفسه الكبيرة الدافقة بالحنان والإيمان، في الثالث من إبريل سنة 1936م وهو عليل رهين الفراش في بهوبال (الهند).

وقد آلمه ما كان يراه من وضع العالم الإسلامي المخزي، والفراغ الفكري والروحي الهائل الواقع فيه، وضعف الشخصية الإسلامية الشائن، واندفاع الجيل الجديد المتهور إلى الفكرة الغربية ومثلها وقيمها، وتخليه عن رسالته ومركزه، ففاضت قريحته بشعر من أبلغ الشعر الوجداني، تحدث فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وشكا إليه في عالم الخيال ضعف العالم الإسلاميّ وفقره الروحي وانحرافه عن الجادة، وما كان يجده في نفسه من فتور بعد النشاط، ومن ضعف في العمل، يقول:

"أشكو إليك يا رسول الله -صلى الله عليك وسلم- هذه الأمة التي تسلط عليها خوف الموت، إنك حطمت الأصنام القديمة كاللات ومناة، وجددت العالم القديم الذي سرى فيه الهرم، ودبَّ فيه الموت، فأصبح العالم يستقبل اليومَ الجديدَ بالإيمان والحنان، والتسبيح والأذان، ويستمد من الشهادة التي لقنتَهُ إياها، الانتباهَ والحضور، والنور والسرور.

إننا – وإن وُلدنا في بلاد عريقة في الوثنية – رفضنا أن نعبد الثور والبقر، وأبينا أن نطأطئ رؤوسنا أمام الكهان والسدنة، فلم نخر بين يدي الآلهة القديمة، ولم نطف حول بلاط الملوك وقصور الأمراء، والفضل في كل ذلك يرجع إلى دينك الذي جئت به، وإلى جهادك الذي قمت به، فقد تربينا على السفرة التي بسطتها للعالم، وقد ظل حديثك مصدر الشوق والسرور للأمة طيلة هذه القرون، وقد استطاعت بذلك أن تكون أبية في الفقر، عفيفة في الحاجة، ولكن العالم الإسلامي اليوم، قد فقد الشيء الكثير من قوته وقيمته.

لقد تجولت في ربوع العالم الإسلامي، وزرت بلاد العرب وديار العجم، فرأيت من يقتدي بك، ويجدد ذكراك، مفقوداً لا يقع عليه العيان، ورأيت من يمثل أبا لهب ويحكيه، كثيراً يوجد في كل مكان.

إن الشباب الإسلامي قد استنارت عقولهم، وأظلمت قلوبهم وضمائرهم، إنهم في شبابهم ناعمون رقاق كالحرير، لا يحتملون الأمل الجديد، والنظر البعيد، إنهم نشؤوا على العبودية، ودرج على ذلك جيل بعد جيل، حتى أصبحوا لا يحلمون بالحرية ولا يطيقونها.

إن نظام التعليم الجديد ومؤسساته، انتزعت منهم النزعة الدينية، حتى أصبحوا خبر كان، إنهم هاموا بالغرب وجهلوا قيمتهم، يريدون أن يتصدق عليهم الغرب بكسرة خبز أو حفنة شعير، إنهم باعوا نفوسهم الكريمة من أجل لقمة حقيرة ، فأصبحت الصقور التي تحلق في السماء، عصافير صغيرة لا شأن لها بالأجواء الفسيحة والمرامي البعيدة.

إن أساتذة هذا الجيل، الذين بضاعتهم في العلم مزجاة، لم يخبروه بمركزه ومنصبه، إن نار الغرب قد أذابت هذا الجيل كالشمعة، وصاغته صوغاً جديداً، فأصبح في هذا الجحيم ممسوخاً منكوساً، وأصبح المسلم لا يعرف سر الموت ولذته، ولا يؤمن كما كان يؤمن في القديم بأنه (لا غالب إلا الله).

لقد مات قلبه بين جوانحه، فأصبح لا يفكر إلا في المنام والطعام، إنه حكم الغرب في نفسه ليتلقى منه رغيفاً، وقبل منه مئة إنسان من أجل بطن واحد، إن محطم الأصنام، وسليل إبراهيم قد أصبح (آزر) ينحت الأصنام، إنه يشتري من الإفرنج أصنامهم الجديدة.

إن هذا الجيل قد أصبح في حاجة إلى بعث جديد، وإلى أن نقول له مرة ثانية: قم بإذن الله، لقد سحرتنا الحضارة الغربية، وقد استطاع الغربيون أن يقتلونا من غير حرب وضرب، لقد استطاعت أمتك وأصحابك، أن يثلوا عروش كسرى وقيصر، والعالم ينتظر من جديد ثائراً جديداً، يؤمن بالله ويكفر بغيره، ويكسر طلاسم هذه الحضارة ويبطل سحرها.

نفسي فداؤك أيها الفارس الكريم!

بالله اقبض العنان، وقف بي لحظة، أبث إليك بالأشجان والأحزان، وقد تلجلج لساني وخانني البيان.

إنني في صراع بين سلطان الشوق وسلطان الأدب.

إن الشوق يقول لي: تشجع وتكلم، فأنت من الحبيب بقاب قوسين.

والأدب يقول: إياك والفضول، فافتح العينين وأطبق الشفتين.

ولكن الشوق عصيٌّ ثائر، لا يخضع للأدب.

إنني أطلب منك نظرة التفات، فأنا ذلك الغزال التائه اللاغب الذي زهد فيه الطالبون، وانصرف عنه الصيادون، فلجأت إلى حرمك، ولأمر ما تراميت في أحضانك.

إن صوتي قد اختنق في حلقومي.

وإن اللهيب عاد لا يتجاوز صدري.

وإن أنفاسي قد تجردت من لوعة القلب ولهيب الصدر.

وإني فقدت اللذة التي كنت أجدها في قرآن الفجر.

إن الزفير الذي لا يسعه الضمير، كيف يستقر في الصدر كالعاني الأسير؟

إنه يحتاج إلى أجواء لا نهاية لها.

وإلى سعة السموات التي لا حدود لها.

يا لها من علل يعانيها جسدي وروحي، ولا دواء لها، إلا إن تنظر إليَّ من طرف خفي.

إن هذه الأدوية التي يصفها الأطباء لا تناسب روحي العليلة، فإن شامتي اللطيفة لا تحتمل مرارتها ورائحتها، فأنا مريض بمرض لا يرجع فيه إلى طبيب، فأبكي بكاء الأطفال، إذا جُرِّعوا الدواء المر، وأنا أخادع نفسي، فأمزجه بالحلاوة حتى تسهل إساغته.

إنني كالبوصيري أطلب الفتح والفرج، وأن يعود إليَّ ذلك اليومُ الذي فقدته.

إن العصاة من أمتك أسعد بشفاعتك، وأكثر حظاً من عطفك من غيرهم، كالأم الحنون الرؤوم في عطفها وصفحها عن إساءة أبنائها.

إنني مع عباد الليل والظلام في صراع شديد، فمدَّ سراجي بمدد من الزيت من جديد.

إن وجودك كان للعالم ربيعاً، وللإنسانية خصباً وريعاً ، فلا تضنَّ عليَّ بشعاع من أشعة شمسك المنيرة للعالم.

إن قيمة الجسم بالروح، وإن قيمة الروح هي إشراق من المحبوب.

إنني أريد أن ينقطع رجائي عن غير الله، فاجعلني سيفاً أو اجعلني مفتاحاً.

لقد أسرع بي ذهني الوقاد في مجال الفقه وحكمة الدين، ولكن أبطأ بي عملي في مجال الكفاح.

إن مهمتي أصعب وأدق من مهمة (فرهاد) الذي كلف تفجير نهر من لبن من جبل صلد أصم، فأنا في حاجة إلى آلاتٍ أحدَّ، وقوى أشدَّ، حتى أتمّ مهمتي، وأحقق رغبتي.

إنني مؤمن لا أكفر بشخصيتي ومواهبي، فضعني على المسن، فإنني حديد من معدن كريم.

إنني وإن كنت قد ضيعت شبابي، وأتلفت حياتي، ولكني أملك شيئاً اسمه (القلب).

إنني أغار عليه وأستره من العيون، لأنه يحمل أثراً من حافر جوادك الأصيل.

إن العبد الذي قد زهد في زخارف الدنيا، إنما يتسلى برضا سيده وعطفه، ويعتبر حياة الهجر والفراق موتاً.

يا من منح الكردي لوعة العرب.

اسمح للهنديِّ أن يمثل بين يديك، ويتحدث بأشواقه وأحزانه إليك.

إنه يحمل قلباً حزيناً، وكبداً مقروحة، لا يعلم أصدقاؤه وزملاؤه ما يعانيه من حزن وألم.

إنه لا تنقطع ألحانه المشجية، كالعود الذي لا راحة له ولا انقطاع.

إنني كحطب في الصحراء مرَّ به ركبٌ فأشعل في النار، وأعجل الركب السير، فمضى وخلَّفه، وبقي الحطب يشتعل، وينتظر ركباً جديداً ليستهلكه ويأتي على بقيته، فمتى يمر به ركب جديد في هذه الصحراء الموحشة المظلمة؟.