ساعة مع السيد جمال الدين الأفغاني

ساعة مع السيد جمال الدين الأفغاني

ترجمة: أبو الحسن الندوي

شعر:د. محمد إقبال

خرج الدكتور محمد إقبال مع شيخه ومربيه الروحي والفكري –الشيخ جلال الدين الرومي- في سياحة روحية فكرية، ومرّ في جولته –الخيالية- بمنازل كثيرة، التقى فيها بشخصيات ماضية، من أصحاب الديانات والفلسفات، وقادة الفكر والرجالات، وتحدث معهم في مسائل كثيرة(1).

ومرّ في رحلته بمنزل بكر، لم يطأه آدمي بقدمه، وظهرت فيه الطبيعة بجمالها، وتمثلت فيه الدنيا بسهولها وجبالها، وميادينها وأزهارها، وعاش منذ آلاف من السنين في عزلة عن المدنية والصناعة الإنسانية، وأعجب الشاعر جمال الطبيعة، ورقة الهواء، وخرير الماء في هدوء الصحراء.

وأقبل إلى شيخه الرومي، فقال وقد قرع أذنه صوت عذب رقيق:

"مالي أسمع الأذان، ولا أرى أثر إنسان؟ فهل أنا واهم، أم حالم؟"

قال الرومي:

إنه منزل الصلحاء والأولياء، وبيننا وبينه نسب قريب، فقد قضى فيه أبونا آدم يوماً أو يومين، لما هبط من الجنة، قد شهد هذا المكان زفراته وأنّاته في السحر، وبلت دموعه التراب، يزوره أصحاب المقامات الرفيعة كفضيل وأبي سعيد، والعارفون الكبار كجنيد وأبي يزيد، فلنقم ولنسرع، لندرك الصلاة في هذه البقعة المباركة، وننال لذة الروح، ونعمة الخشوع التي حُرمناها في العالم المادي.

ونهضا من مكانهما مسرعين فوجدا رجلين بصليان، أحدهما أفغاني والآخر من الأتراك، ونظر فيهما، فإذا إمام الصلاة جمال الدين الأفغاني يصلي خلفه الأمير سعيد حليم باشا، فقال الرومي:

- إن الشرق لم ينجب في العصر الأخير أفضل منهما، وقد حلاّ كثيراً من عُقدي وألغازي.

أما الإمام السيد جمال الدين، فقد نفخ في الشرق الناعس روح النشاط، ودبت بدعوته الثائرة الحياة في الأموات والجمادات، وأما الزعيم سعيد حليم فقد جمع بين القلب الجريح الدامي، والفكر المحلق السامي، والروح القلقة والعقل الكبير المستنير، إن ركعتين مع مثل هذين الرجلين من أفضل العبادات، وأعظم القربات.

وقرأ السيد جمال الدين سورة (والنجم) فأنشأ هدوء المكان والزمان، وشخصية الإمام، وجمال القرآن، جواً خاشعاً رهيباً، رقّ فيه القلب وفاضت فيه العين، وكانت قراءة لو سمعها إبراهيم الخليل لأعجب بها، ولو سمعها جبرائيل لأثنى عليها، وكانت قراءة تقلق النفوس وتذيب القلوب، وتعلو بها صيحة التكبير والتهليل في القبور، وكانت قراءة ترفع الحجاب، وتنضح بها معاني أمّ الكتاب.

وندع محمد إقبال يحكي قصته، قال:

"وقمت بعد الصلاة، وقبلت يده في أدب ومحبة، وقد قدمني أستاذنا الرومي إلى السيد وقال:

- إنه جوّال جوّاب في الآفاق، لا يستقر في مكان، ويحمل في قلبه عالماً من الآمال والآلام، لم يعرف غير نفسه ولم يخضع لأحد، فيعيش حراً طليقاً.

وأقبل عليّ السيد جمال الدين، فقال:

- حدثني يا عزيزي! عن العالم الذي عشت فيه زمناً، وعن المسلمين الذين أصلهم تراب، وينظرون بنور الله.

قلتُ: يا سيدي! لقد رأيت في ضمير الأمة التي خُلقت لتسخير العالم معركة حامية، وصراعاً دامياً بين الدين والوطن، لقد ضعف الإيمان في قلب هذه الأمة، ففقدت روحها، وقطعت الأمل من سيطرة الدين وسيادته، فلجأت إلى الوطنية والقومية.

أصبح الأتراك والإيرانيون سكارى بصهباء أوروبا ونشوتها، وأصبحوا فريسة كيدها ودهائها.

أصبح الشرق خراباً بحكم الغرب وسيادته، وذهبت الشيوعية ببهجة الدين وبهاء الملة.

سمع الأفغاني كل ذلك في صبر وأناة، وفي تألم وحزن، ثم انفجر قائلاً:

- إن الباقعة الأوروبي هو الذي علّم أهل الدين، الوطنية والقومية، أما هو فلا يزال يبحث عن مركز لجمع الشعوب والأوطان، ولكنه بذر في الشرق بذور الخلاف والانشقاق، وشغل شعوبه بمصر والشام والعراق.

فتحرر أيها المسلم الشرقي! من قيود الوطنية والقومية، وكن (عالماً آفاقياً) يعتبر كل بلد وطنه، وكل أرض أرضه.

إن كنت تميز بين (الجميل) و(القبيح) فلا تربط نفسك وقلبك بالتراب، والحجارة، والقرميد.

إن الدين هو أن ينهض الإنسان من الحضيض، ويعرف قيمة نفسه، إن الذي عرف (الله) وآمن به، لم يسعه هذا العالم، ولم ينحصر في الجهات.

إن الحشيش ينبت على التراب، ويفنى في التراب، ولكن النفس الإنسانية أسمى من أن يكون مصيرها هذا التراب.

إن آدم –ولو خلق من ماء وطين- فقد يأبى أن يدور حول هذا الماء والطين، إن جسمه يميل به إلى الأرض، وروحه تطير به في الأجواء الفسيحة.

إن الروح لا تنحصر في الجهات، وإن (الحر) لا يعرف القيود والحدود، فإذا حبس في (التراب)(2) اضطرب وثار، لأن الصقور لا تستريح ولا تهدأ في الأوكار.

إن هذه الحفنة من التراب، التي نسميها (الوطن) ونطلق عليها أسماء (مصر) و(إيران) و(اليمن) بينها وبين أهلها نسب، لأن هذه الشعوب قد نهضت من أرضها ولمعت من أفقها، ولكن لا ينبغي أن تنطوي على نفسها وتنحصر في حدود أرضها، أما ترى إلى الشمس تطلع بسنائها ونورها من الشرق، ولكنها لا تلبث أن تتحرر من حدود الشرق والغرب، وتسيطر على العالم وتحتضنه، إن فطرتها بريئة من الشرق والغرب، وإن كان مولدها وظهورها في الشرق.

أما الشيوعية، يا عزيزي! فإن مصدرها ذلك الإسرائيلي، الذي خلط الحق والباطل، وآمن قلبه وكفر عقله.

إن الغربيين فقدوا القيم الروحية، والحقائق الغيبية، وذهبوا يبحثون عن الروح في (المعدة).

إن الروح ليست قوتها وحياتها من الجسم، ولكن الشيوعية لا شأن لها إلا (بالمعدة والبطن) وديانة (ماركس) مؤسسة على مساواة البطون.

إن الأخوّة الإنسانية لا تقوم على وحدة الأجسام والبطون، إنما تقوم على محبة القلوب وألفة النفوس.

إن الملوكية (الرأسمالية) سِمنٌ، يطرأ على الجسم، صدرها مظلم خاو، ليس فيها قلب خفاق، إنها كالنحلة تجلس على كل زهرة، وتتشرب منها الرضاب، وتغادرها إلى زهرة أخرى، وتبقى هذه الزهرات بلونها وشكلها ورائحتها ولكنها أوراق بالية وحشائش ذاوية، كذلك الملوكية تستحوذ على الشعوب والأفراد، وتمتص منها دماءها، وتتركها أجساداً هامدة.

إن (الملوكية - الرأسمالية) و(الشيوعية) تلتقيان على الشره والنهامة، والقلق والسآمة، والجهل بالله والخداع للإنسانية.

الحياة عند الشيوعية (خروج)(3) وعند الملوكية - الرأسمالية (خراج) والإنسان البائس بين هذين الحجرين قارورة الزجاج.

إن الشيوعية تقضي على العلم والدين والفن، والملوكية الرأسمالية تنزع الروح من أجسام الأحياء، وتسلب القوت من أيدي العاملين والفقراء.

لقد رأيت كلتيهما غارقتين في المادة، جسمهما قوي ناضر، وقلبهما مظلم فاجر.

ألا من يبلغ (روسيا) أن القرآن وتعاليمه في واد والمسلمين في واد.

لقد انطفأت شرارة الحياة في صدور المسلمين، وانقطعت صلتهم عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

إن المسلم اليوم لا يؤسس حياته، ولا ينظم مجتمعه على مبادئ القرآن، وقد أفلس لذلك في الدين والدنيا، لقد ثلّ عرش قيصر وكسرى، ونعى على ملوكيتهم، ونصب لنفسه عرشاً ملوكياً، وتربع عليه، واقتبس من العجم الملوكية وأساليبها، وبذلك تغير نظره إلى الحياة، وتغير منهج تفكيره.

لقد حطمت (القيصرية والكسروية) مثل المسلمين في العصر القديم، فاعتبري أيتها الأمة الروسية! من تاريخنا.

عليك بالثبات والاستقامة في معركة الحياة، فإذا كنت قد كسرت هذه الأصنام الملوكية (الرأسمالية) والوطنية، فلا تعودي إليها، ولا تطوفي حولها مرة ثانية.

إن العالم اليوم يطلب أمة تجمع بين التبشير والإنذار، وبين الرحمة والشدة، فاقتبسي من الشرق ديانته وروحانيته.

لقد أصبحت ديانات الإفرنج ودساتيرهم عتيقة بالية، فلا تعودي إليها مرة ثانية.

لقد أحسنت إذ ألغيت الآلهة القديمة، وقطعت مرحلة النفي "لا إله" فعليك أن تبدأي مرحلة الإثبات "إلا الله"؛ وهكذا تكملين مهمتك، وتتمين رحلتك العظيمة؛ إنك تبحثين عن نظام للعالم، فعليك أن تبحثي له عن أساس محكم، وليس هو إلا الدين والعقيدة.

لقد محوت يا روسيا! أساطير الأولين أسطورة أسطورة، فعليك أن تدرسي الآن القرآن سورة سورة.

وما أدراك ما القرآن؟

إنه نعي للملوكية (الرأسمالية) والسخرية، وحتف للاكتناز والأثرة، وحياة للصعلوك، وبشرى للملوك.

إنه يذم الذين يكنزون الذهب والفضة، ولا ينفقونها في سبيل الله، ويحث على إنفاق كل ما فضل عن حاجة الإنسان؛ ويقول في صراحة:

)لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون(.

إنه يحرم الربا، ويحل البيع، ويحث على القرض الحسن، وهل يتولد من الربا إلا الشرور والفتن، والقساوة والضراوة؟ إن اكتساب الرزق من الأرض جائز، فكل ما في الدنيا ملك لله تعالى، ومتاع للعبد؛ والإنسان أمين في مال الله، وصي على أرضه وخلقه:

)وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه(.

لقد انتكست راية الحق بطغيان الملوك، وخربت القرى والمدن بظلمهم وعبثهم.

إن المبدأ الذي يقرره القرآن؛ أن قوت بني آدم من مائدة واحدة، وأن الأسرة الإنسانية كلها كنفس واحدة(4).

إنه لما قامت دولة القرآن، اختفى الرهبان والكهان.

أقول لك ما أؤمن به وأدين:

- إنه ليس بكتاب فحسب، إنه أكثر من ذلك، إذا دخل في القلب تغير الإنسان، وإذا تغير الإنسان تغير العالم؛ إنه ظاهر ومستتر، كتاب حي خالد ناطق، إنه يحتوي على جدود الشعوب، والأمم، ومصير الإنسانية.

لقد ابتكرت تشريعاً جديداً، ودستوراً جديداً، فجدير بك أن تنظري إلى العالم بنور القرآن نظراً جديداً.

         

الهوامش:

(1) وفي ديوانه (جاويد نامه) قصة هذه الرحلة.

(2) يعني به (الوطن).

(3) يعني تجرد من العقائد، والعواطف، والآداب، والحضارات.

(4) (وما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة).

(5) (جاويد نامه) فلك عطارد باختصار واقتباس.