في أرض فلسطين

في أرض فلسطين

بقلم أبو الحسن الندوي

تحركت السيارات التي كانت تقل ضيوف المؤتمر الإسلامي المنعقد في القدس عام (1350هـ -1931م) ودخلت في الفضاء الواسع، وطلعت الشمس؛ وأرسلت خيوطها الذهبية، كأنها جداول نور نبعت من عين الشمس.

ولم يزل الشروق مصدر سرور وإلهام للشعراء، يجدون فيه الحياة للقلب والنشاط للفكر؛ والتقى جمال المكان بجمال الزمان. فأثار ذلك الشاعرية في الشاعر العظيم والفيلسوف الكبير الدكتور محمد إقبال، وبدأ يتمتع بهذا المنظر الخلاب، ويسخو بنظراته –التي يحتفظ بها الشعراء – في سبيل القلب، فكل نظرة تضيع في جمال الطبيعة ترجع إلى القلب بالربح العظيم، لأنها تشحن (بطاريته) بالنور الجديد، والقوة الجديدة.

هذا وقد تهيأ الجو، وتوفرت الأسباب لإمتاع الشاعر العظيم، وإثارة قريحته. فقد غطت الجوَّ سحائب ذات ألوان، واكتست جبال فلسطين بطيلسان جميل، زاهي اللون، وهبّ النسيم عليلاً بليلاً، وهفت أوراق النخيل مصقولة مغسولة بأمطار الليل، وأصبحت الرمال في نعومتها وصفائها حريراً.

ورأى الشاعر العظيم آثار نيران انطفأت قريباً، وأثافي(1) منثورة هنا وهناك، وبقايا من خيام وأخبية، ضربت في هذه الصحراء بالأمس القريب، تخبر بالقوافل التي أقامت ثم ظعنت.

وطاب المكان والزمان للشاعر، وسمع كأن منادياً من السماء يحثه على أن يلقي عصا التسيار، ويؤثر بإقامته(2).

حرّك هذا المنظر البديع في هذا المكان الرفيع، الذي أكرمه الله بجمال الطبيعة والرسالات السماوية، عواطفَ الشاعر وهاجت قريحته، وتحرك الحب الدفين؛ ومن شأن هذه المناظر أن تثير الدفائن وتظهر الكوامن، فيتذكر الإنسان أحبّ شيء إليه فيحن إليه، ويتمثله، ويتغنى به.

وقد حلَّ (الإسلام) وحلت الأمة الإسلامية في قلبه محل الحبيب الأثير، وسيطر حبه على مشاعره؛ فما كان من الشاعر إلا أن تذكر (حبيبه) وتغنى بجماله ومحاسنه، وركز آماله وأحلامه عليه، وقال بلسان الشاعر العربي البليغ:

ولمّا نزلنا منزلاً طلُّه الندى    أنيقاً وبستاناً من النور حاليا

أجدَّ لنا طيبُ المكان وحُسْنُه   مُنىً، فتمنينا، فكنت الأمانيا

وثارت فيه العواطف والخواطر، ورأى أن ركب الحياة بطيء لا يسايره في أفكاره الجديدة، وخواطره الوليدة، ورأى أن العالم عتيق شائب، وفكره (الإسلامي) جديد فتيّ، ورأى أن العالم قد تجددت فيه أصنام وأوثان، وبنيت هياكل جديدة يعبد فيها صنم (القومية) و(الوطنية) واللون، والجنس، والنفس، والشهوات، وقد تسربت هذه الوثنية إلى العالم الإسلامي والعربي، أفليس العالم في حاجة إلى ثورة إبراهيمية جديدة، إلى كاسر الأصنام، يدخل في هذا الهيكل فيجعل هذه الأصنام جُذاذاً؟

وسرّح طرفه في العالم الإسلامي، فوجد إفلاساً محزناً في العقل والعاطفة، رأى العالم العربي قد ضعف في إيمانه وعقيدته، وفي لوعته وعاطفته، ورأى العالم العجمي قد فقد العمق والسعة في التفكير، ورأى أن النظام المادي، والحكم الجائر المستبد ينتظر ثائراً جباراً جديداً، يغضب للحق، ويثور كالليث، ويمثل الحسين بن علي في حميته وفروسيته، ورجا العالم الإسلامي أن يطلع هذا الثائر من ناحية بلد عربي، ويفاجئ العالم بصراحته وشجاعته، وتطلّع العالم إلى الحجاز –معقل الإسلام وعرين الأسود- فما كان منه إسعاف وإنجاد، ولم تتجدد معركة كربلاء، على ضفاف دجلة والفرات، مع شدة حاجة الإنسانية إلى ذلك، ورغم شدة حنين العالم الإسلامي إلى بطله الجديد.

وهنا شعر محمد إقبال أن السبب في هذا التحول العظيم، هو ضعف العالم الإسلامي في العاطفة والحب، الذي هو مصدر الثورات والبطولات، فانطلق يشيد بفضل الحب وتأثيره، ويقول:

"لابد أن يعيش العقل والعلم والقلب في حضانة الحب، وإشرافه وتوجيهه.

ولابد أن تسند الدين وتغذيه عاطفة قوية، وحبٌّ منبعه القلب المؤمن الحنون.

فإذا تجرّد الدين عن العاطفة والحب، أصبح مجموعة من طقوس، وأوضاع، وأحكام لا حياة فيها ولا روح، ولا حماسة فيها ولا قوة.

هذا الحب الذي صنع المعجزات، هو الذي ظهر في صدق الخليل، وصبر الحسين، وهو الذي تجلّى في معركة بدر وحنين".

وهنا يُقبل الشاعر الكبير على "المسلم" الذي دائماً يستهين بقيمته، ويجهل مكانته وشخصيته، فيقول:

"إنك غاية وجود هذا الكون.

ولأجلك خلق الله هذا العالم، وأبرزه إلى الوجود.

وأنت البغية المنشودة، التي هام في سبيلها الهائمون، وحار في الوصول إليها الباحثون".

ثم يستعرض العالم الإسلامي –وقد عرف شرقه وغربه، وعربيّه، وعجميّه- فيُحزنه قِصر النظر، وقلة الذوق في رجال العلم والثقافة، وسقوط الهمة وقلة البضاعة(3) في رجال الدين.

ويرى أن المراكز العلمية والدينية –بمعناها الواسع- محرومة من عمق الفكر، وسلامة الذوق، والنشاط العقلي، والطموح الذي كان سمة هذه المراكز، التي تتزعم العالم الإسلامي، وتقود الأجيال البشرية. ويقول:

"إني هائم في شعري وراء الشعلة التي ملأت العالم أمس نوراً وحرارة، وقد قضيت حياتي في البحث عن تلك الأمجاد التي مضت، وأولئك الأبطال الذين رحلوا، وغابوا في غياهب الماضي.

إن شعري يوقظ العقول، ويهزّ النفوس ويربّي الآمال في الصدور، ولا عجب إذا كان شعري يملأ القلوب حماسة وإيماناً، وكان وقعه في النفس كبيراً وعميقاً، فقد سالت في شعري دموعي ودمائي، وفاضت فيه مهجتي، ودعائي أن لا يخفف الله من هذا الجوى، بل أسأل الله المزيد والجديد".

ثم يقبل في شعره على الله، ويذكر كيف أحاطت تجلياته بالوجود، وكيف صغر هذا الكون الواسع، وكأنه ذرّة حقيرة أو قطرة صغيرة، في جنب هذه السعة التي لا نهاية لها.

وكيف أشرق نوره على ذرة، فكانت شمساً بازغة.

وكيف تجلّى بالجلال، فكان في الأرض ملوك كبار ساقوا الأمم وحكموا العالم.

وكيف تجلّى بالجمال، فكان زهاد وعباد، زهدوا في متاع الدنيا ورفقوا بخلق الله.

ويقول:

"إن الحنين إليك، هو حادي الروح ورائد القلب، وهو الذي يُضفي على صلاتي، وعبادتي حياة روحانية، فإذا تجرّدت صلاتي من هذا الحنين، لم أر أنها تقرّبني إليك.

لقد وجد عندك العقل والعاطفة، ما يعوزهما وما يحتاجان إليه، فأصبح العقل –بعد توفيقك- يغيب أحياناً، ويهيم في البحث بعدما كان قد ركد، واقتصر على الدراسة والتفكير، ووثق بنفسه، وعرفت العاطفة الحضور والاضطراب".

ويناجي ربه ويقول:

"إن الشمس لم تستطع أن تنير هذا العالم المظلم، وقد آن أن تشرق الأرض بنور ربها، ويعيش العالم من جديد".

ويعترف أمام الله بأنه لم يكن سعيداً في دراساته العلمية، الطويلة الواسعة، وأنه قد اتضح له أخيراً أن المعلومات لا تعطي الثمرات، وليس كل من درس علم النخيل تمتع بالرّطب.

ويذكر الصراع بين العقل والعاطفة، والمصلحة والإيمان، ذلك الصراع الذي لم يزل، ولا يزال قائماً حامياً.

ويذكر معركة قامت، في فجر التاريخ الإسلامي، بين المادة والإيمان، حمل لواء المادة فيها أبو لهب وأضرابه، ورفع راية الإيمان فيها محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولكل حلفاء، ولكل معسكر(4).

فلينظر العالم العربي إلى أي معسكر ينضم؟

إلى معسكر المادة والمعدة، أم إلى معسكر الإيمان والإخلاص؟

وإلى أي راية ينضوي؟

إلى الراية الجاهلية التي قاتل تحتها أبو جهل وأبو لهب، أم إلى الراية المحمدية التي التفّ حولها أبو بكر وعمر؟

         

الهوامش   

(1) الأثافي: الحجارة التي توضع عليها القدور.

(2) الوصف للمكان والمنظر لإقبال، نقلناه إلى العربية في لفظنا.

(3) المراد منها البضاعة العلمية والدينية وما هم بصدده.

(4) من (بال جبريل) ديوان شعر لإقبال. قصيدة (ذوق وشوق).