الحياة بعد الموت

أبو الأعلى المودودي

أبو الأعلى المودودي

هل للإنسان بعد الموت حياة أخرى؟ وإن كانت، فمن أي نوع هي؟

هذا سؤال لا يمكن أن ينتهي إلى كنهه علم الإنسان، لأنه ليست عنده عين يبصر بها، ويطلع على ما وراء حد الموت، ولا أذن يسمع بها، ولا آلة من الآلات يعرف بها ما فيه على وجه اليقين والتحقيق. كأن هذا السؤال خارج من دائرة العلوم التجريبية (SCIENCE).. والذي يقول مستنداً إليها: إن الإنسان لا حياة له بعد موته، إنما يقول لا علاقة له بتلك العلوم، فإنها إذا كانت لا تقول بالحياة بعد الموت ولا تقرّ بها، فإنها في الوقت ذاته لا تنفيها ولا تجحد بها. فالحق أن الإنسان ما دام لا يجد وسيلة للعلم يقينية قاطعة، لا يسعه الإنكار للحياة بعد الموت، ولا الإقرار بها بموجب العلوم التجريبية.

ولكن هل من الممكن أن يجارينا هذا السلوك العلمي (SCIENTIFICATTITUDE) في حياتنا العملية؟ لعله لا يمكن، بل اليقين أنه لا يمكن أبداً! نعم، من الممكن من الوجهة العقلية إذا لم يكن بيدنا وسيلة إلى معرفة شيء، أن نحترز من نفيه وإثباته، ولكن إذا كانت لهذا الشيء علاقة بحياتنا العملية، فلا مندوحة لنا في شأنه من أن نبني أعمالنا ومنهاج حياتنا، إما على إنكاره، أو الإقرار به. ذلك بأننا إذا كنا لا نعرف رجلاً، ولا نريد أن نشاركه في معاملة من المعاملات، فلا علينا إذا لم نحكم عليه بشيء، لا بالأمانة، ولا بالخيانة، وأما إذا لم نجد بداً من مشاركة الرجل في معاملة من المعاملات، فلا بد لنا من أن نشاركه، إما على تقدير أنه رجل يرعى الأمانة، أو على تقدير أنه رجل فيه الخيانة. وإن قلنا: إننا نشاركه على تحذر وتردد، فالحقيقة أن الصورة العملية لهذه المشاركة لا تكون مختلفة عنها لو شاركناه على إنكار أمانته بالمرة، كأن هذه الحالة –حالة التردد بين إنكار شيء والإقرار به- لا يمكن أن تكون إلا في الذهن فقط. أما السلوك العلمي، فلا يمكن أن يقوم على الريب والتردد، وليس له بد من الإنكار، أو الإقرار.

وإذا تفكرت قليلاً، عرفت أن مسألة "الحياة بعد الموت" ليست بمسألة فلسفية فحسب، بل إنها من المسائل الأساسية التي لها صلة وثيقة مباشرة بحياة الإنسان العملية، وتتوقف عليها استقامة سلوكه الخلقي، أو اعوجاجه في هذه الدنيا.

فإذا كنت تعتقد مثلاً أن الدنيا هي الحيوان، ولا حياة لك بعد الموت، كان سلوكك الخلقي مغايراً لسلوكك لو كنت تحسب أنك بعد مفارقتك لهذه الدنيا، ستفضي إلى حياة تحاسب فيها على كل صغير وكبير من أعمالك التي قدمتها في حياتك الحاضرة، وأن حسن عاقبتك فيها أو سوءها، إنما يتوقف على حسن أعمالك أو سوئها في هذه الدنيا. ومثل ذلك، كمثل رجلين مسافرين إلى جهة كراتشي. أما أحدهما فيحسب أن سفره بعد وصوله إلى كراتشي، لا ينتهي فحسب، بل سيأمن فيها أيضاً من مؤاخذة الشرطة والمحكمة، وكل قوة يمكن أن تحاسبه على أعماله وما ارتكب من الجرائم قبل وصوله إلى كراتشي. أما الآخر فيحسب أن السفر إلى كراتشي إنما هو مرحلة من مراحل سفره العديدة، وهو بعد وصوله إلى كراتشي سينتهي إلى أرض لا يحكمها إلا السلطان نفسه الذي يحكم باكستان، وأن هذا السلطان في مكتبه قد سجّل فيه كل صغيرة أو كبيرة من أعماله التي جاء بها أيام وجوده في باكستان، وهو سيحاسبه عليها، ولا يقضي في أمره وفي الدرجة التي يستحقها في تلك الأرض إلا حسب ما سيجد عليه أعماله من الحسن أو القبح. لك أن تقدر الآن بكل سهولة، أي فرق كبير، وبون شاسع بين أعمال الرجلين وأخلاقهما، لا يستعد الأول إلا للسفر إلى كراتشي. وأما الآخر، فلا يستعد للسفر إلى كراتشي فحسب، بل يستعد كذلك للمراحل الشاقة الطويلة التي سيقطعها بعد المرور على كراتشي، ويفكر في مآله الذي سيصير إليه آخر الأمر. يحسب الأول أن النفع كله والخسران كله إنما هو قبل وصوله إلى كراتشي، وإذا وصل إليها، فلا نفع ولا خسران. وأما الآخر فيحسب أن ليس النفع والخسران الحقيقي في مرحلته الأولى، بل هو في مرحلته التي سينتهي إليها آخر الأمر. إن الأول لا يكترث ولا يقيم وزناً إلا لنتائج أعماله التي عسى أن يراها قبل وصوله إلى كراتشي. وأما الآخر فيجعل نصب عينيه دائماً النتائج التي سيراها في الأرض التي سيبلغها عند انتهاء سفره. والظاهر أن هذا الفرق بين أخلاق الرجلين وأعمالهما، إن هو إلا نتيجة مباشرة لما يعتقدان من النوع المختلف لسفرهما. فكذلك كل عقيدة يكون عليها الإنسان عن مصيره بعد الموت، لها تأثير بالغ، فيصل في كل ما يأتي به في حياته من الأعمال والأخلاق، وهو لا يتقدم في ميدان العمل خطوة إلا ويكون تعين جهتها متوقفاً على: هل يأتي بكل ما يأتي به من الأعمال في حياته الدنيا على أنها هي حياته الأولى والآخرة، وليس له ولا عليه شيء بعد الموت، أم على أنه سيفضي بعد موته إلى حياة سرمدية أخرى، ويرى فيها نتائجها ويقطف ثمارها حتماً؟ فهو إن كان يتقدم إلى جهة في الصورة الأولى، يتقدم إلى جهة تخالفها تماماً في الصورة الأخرى.

وإذا عرفنا هذا فلنا أن نقول: إن مسألة "الحياة بعد الموت" ليست بمسألة عقلية فارغة، أو فلسفية جوفاء، بل هي مسألة حياتنا العملية. وإذا كان الأمر كذلك، فلا يمكننا أبداً أن نبقى في حياتنا مرتابين مترددين في هذه المسألة الأساسية، لأن كل سلوك نختاره في حياتنا مع التردد والارتياب، لا يكون من حيث مظهره ونتائجه إلا مثل سلوك الإنكار المحض، فنحن مرغمون بطبيعة وجودنا وحياتنا في الدنيا، على أن نقطع في هذه المسألة برأي حاسم، إما بالإثبات، أو النفي.

فإن كانت العلوم التجريبية لا تساعدنا بشيء، فلا بد لنا أن نستعين في هذا الشأن بما لنا من العقل وقوة الفهم والتبصر.

وتعال لنستعرض الآن ما عندنا من المواد للاستدلال العقلي:

أمامنا الإنسان في جانب، ونظام الكون الذي يعيش فيه في الجانب الآخر. فعلينا أن نضع الإنسان في هذا النظام وننظر: هل تتحقق في هذا النظام مقتضيات كل ما في الإنسان، أم يبقى فيه شيء لا تتحقق مقتضياته فيه وهو في حاجة إلى نظام من نوع آخر؟

انظر.. إن الإنسان –أولاً- جسد يتركب ببعض المعادن والغازات، والأملاح والماء. وبإزائه في الكون أنواع أخرى من المعادن، والأملاح والأتربة، والجبال، والأنهار، وما إليها من الأشياء من هذا الجنس. والقوانين التي تحتاج إليها هذه الأشياء في القيام بأعمالها، كلها جارية في الكون وهي كما تعين الجبال والأنهار والرياح على القيام بنصيبها من الأعمال خارج الإنسان، كذلك تعين الجسد الإنساني أيضاً على القيام بعمله.

والإنسان –بعد ذلك- جسد ينمو ويكبر متغذياً مما حوله من الأشياء كالهواء والماء. وبإزائه هناك من جنسه الأشجار والأعشاب والنباتات الأخرى فقي الكون تنمو وتكبر متغذية مما حولها، فكما أن سنن الطبيعة ونواميس الكون تنمو تحتها الأشجار والأعشاب والنباتات، ينمو تحتها الجسد الإنساني كذلك.

والإنسان بعد هذا وذاك جسد حي يتحرك بإرادته، وينال غذاءه بالسعي والجهد، ويدافع عن نفسه، ويهتم بالإبقاء على نسله. وبإزائه في الكون كثير من أنواع هذا الجنس أيضاً، كالحيوانات في البر والبحر والفضاء، فكما أن قوانين الطبيعة تعين هذه الحيوانات على الحياة والبقاء تعين عليهما الجسد الإنساني أيضاً بدون نقص ولا تقصير.

ولكن.. فوق كل ذلك، إن للإنسان وجوداً من نوع آخر نسميه الوجود الخلقي. إن الإنسان فيه الشعور بالخير والشر، وهو يميّز بينهما، ويقدر فعلهما، ومما تطالب به فطرته أن تظهر النتائج الحسنة إن فعل الخير، والنتائج القبيحة إن جاء بالشر، وهو يفرق بين العدل والظلم، والصدق والكذب، والحق والباطل، والرحمة والقسوة، والإحسان والإساءة، والسخاء والبخل، والوفاء والغدر، وما إليها من الصفات الخلقية الأخرى، وهي توجد في حياته بالفعل، وليست بأمور من بنات الفكر والخيال المحض. فالذي تستدعيه بشدة الفطرة التي فطر عليها الإنسان، أن تظهر لأعماله نتائجها الخلقية، كما تظهر نتائجها الطبيعية.

ولكن هل لك أن تقول بعد إطالة نظرك وإجالته في نظام الكون: إنه من الممكن أن تظهر في هذا النظام لأفعال الإنسان نتائجها الخلقية على الوجه الكامل؟ لعمر الحق، إن ذلك مستحيل البتّة، لأن هذا الكون ليس فيه –إلى حد علمنا- خلق له وجود خلقي غير الإنسان، ولا يسير نظامه من أوله إلى آخره إلا على القوانين الطبيعية المحضة، حيث ليس للقوانين الخلقية دخل ما في ناحية من نواحيه. إن قطعة صغيرة من الذهب لها قيمة ووزن في هذا الكون، ولكن لا قيمة فيه ولا وزن للصدق والأمانة، وإذا ما غرست فيه بذرة القمح، فإنك لا تحصد منها إلا القمح، ولكن إذا غرست فيه الصدق والأمانة، فقلما تحصد منها المدح والثناء، وكثيراً ما تحصد منها الذم واللوم والاستهزاء والعقاب. إن العناصر المادية لها قوانين مضبوطة، وقواعد معينة في هذا الكون، ولكن لا قانون فيه للعناصر الخلقية، لما عليه من السيطرة والتأثير للقوانين الطبيعية. وهي إن ظهرت بعض الأحيان، فإنما تظهر على قدر ما تسمح لها بالظهور القوانين الطبيعية نفسها. وطالما تستدعي الأخلاق أن تظهر لعمل من أعمال الإنسان نتيجة خاصة. ولكنها لا تظهر إلا منقلبة بالمرة، وذلك لما فيها من التدخل للقوانين الطبيعية، نعم، لاشك أن الإنسان قد بذل بعض سعيه بواسطة نظامه الاجتماعي والسياسي، لأن تظهر النتائج الخلقية لأعماله وفقاً لقاعدة معينة، ولكن الحقيقة أن ليس سعي الإنسان هذا إلا على نطاق ضيّق محدود جداً، وهو في غاية من النقص والعيب. ففي جانب تجعله ناقصاً قوانين الطبيعة، وفي الجانب الآخر يزيده نقصاً إلى نقصه، وعيباً إلى عيبه ما في نفس الإنسان من مواطن الضعف.

وها أنا ذا أريد أن أشرح لك ما قد بينته للآن ببعض الأمثلة:

إن رجلاً يبغض رجلاً آخر ويعاديه، فإذا أحرق بيته، فإن النتيجة الطبيعية لعمله أن يحترق ذلك البيت وأما نتيجته الخلقية، فإنما يتوقف ظهورها على أن يُعثرَ على الرجل الذي أحرق البيت، ثم على أن تقبض عليه الشرطة، ثم على أن تثبت عليه الجريمة، ثم على أن تقدر المحكمة تقديراً محكماً قاطعاً ما لحق بأهل ذلك البيت وسلالاتهم المتعاقبة من الضرر والخسارة لأجل جريمته، ثم على أن تحكم المحكمة بما يساوي جريمته من العقاب. فتلك هي الشروط التي لابد من استيفائها وتحقيقها لظهور النتيجة الخلقية لهذا الفعل الواحد من أفعال الإنسان، حيث إذا تخلّف منها شرط ما ولم يتحقق على الوجه الصحيح الكامل، فإما أن لا تظهر النتيجة الخلقية أصلاً، أو يظهر منها جزء ضئيل جداً، على أنه ليس من المستبعد في هذا النظام أن الجاني بعد إبادة خصمه وإفنائه يسلم من المؤاخذة، ويبقى طول حياته فرحاً مرحاً لا يخاف أحداً ولا يخشى عقاباً.

ولك أن تأخذ الآن مثالاً آخر على نطاق أوسع:

إن عصابة من الناس يخلقون لأنفسهم التأثير والنفوذ في شعبهم، ويستحوذون عليه حسب ما تأمرهم به شهواتهم وأمانيهم، ثم يستغلّون هذا الوضع، وينفثون في شعبهم روح القومية والوطنية، ويحرضونه على فتح العالم واستعباد أممه وشعوبه، ثم ينشبون الحرب على ما يجاورهم من الشعوب، ويهلكون فيها الحرث والنسل، ويطيلون يدهم بالنهب والسلب: يقتلون مئات الألوف من خلق الله، ويشردون آلاف الألوف منهم من ديارهم، ويستعبدونهم، ويرغمونهم على العيش الذليل المهان. وأعمالهم هذه قد تطول آثارها السيئة في الأجيال المتعاقبة إلى آلاف مؤلفة من السنين. فهل تظن أنه من الممكن أن ينال هؤلاء الأفراد القليلون جزاءهم في هذه الحياة الدنيا كاملاً مساوياً لفداحة جرائمهم، وجسامة المضار التي ألحقوها بخلق الله، لا لشيء إلا لبلوغ مطامعهم الاستعمارية البشعة؟ كلا، فإن ذلك من المستحيل بحكم القوانين الطبيعية التي يجري عليها نظام الكون، ولو قتلوا تقتيلاً، وأحرقوا أحياء، وعُوقبوا بأقسى ما يستطيع الإنسان ويخطر بباله.

وخذ كذلك أولئك الصالحين الأبرار الذين خدموا النوع البشري، وعلموه الخير، وأناروا له طريق الرشد والصدق والسلام، وما زالت الأجيال المتعاقبة منذ آلاف من السنين –ولا يعلم إلا الله إلى كم آلاف من السنين لا تزال- تقتبس من نورهم، وتقتدي بآثارهم، وتستهدي بأعمالهم. فهل من الممكن بوجهٍ من الوجوه أن ينالوا جزاءهم على أعمالهم وخدماتهم كاملاً في حياتهم الدنيا؟ وهل تظن أنه من الممكن في ضمن حدود القوانين الطبيعية التي يجري عليها نظام الكون الحاضر، أن ينال الرجل جزاءً كاملاً موفوراً غير منقوص على عمل من أعماله ترك تأثيره في عدد لا يحصى من خلق الله وطال رد فعله إلى آلاف من السنين بعد موته؟

فكما قد تبين لك آنفاً، أن قوانين الطبيعة التي يسير عليها نظام الكون الحاضر، لا تتسع لأن تترتب فيهل النتائج الخلقية لأعمال الإنسان على الوجه الكامل. ثم إن كل عمل يأتي به الإنسان في حياته القصيرة هذه، تكون دائرة رد فعله واسعة جداً، وقد تطول سلسلته إلى مدة مديدة حتى ليحتاج الإنسان لاقتناء ثمراته، والحصول على نتائجه الكاملة أن يعمر آلافاً، بل مئات آلاف من السنين، وذلك ما لا يمكن أن يتحقق تحت القوانين الطبيعية. وتعرف من ذلك أن هذه الدنيا وقوانينها الطبيعية وإن كانت كافية واسعة لما في ذات الإنسان من العنصر الجمادي، والعنصر النباتي، والعنصر الحيواني، ولكنها لا تكاد تكفي لعنصره الخلقي، وهو في حاجة إلى نظام للكون آخر لا يكون القانون الحاكم (GOVERNING LAW) فيه إلا القانون الخلقي، ولا تعمل فيه القوانين الطبيعية إلا مساعدة له، ولا تكون الحياة فيه محدودة ليترتب كل ما كان لم يترتب، أو إنما كان يترتب منقلباً في الحياة الدنيا الطبيعية من نتائج أعمال الإنسان، ويكون الوزن والقيمة فيه للصدق والحق، دون الذهب والفضة، ولا تحرق فيه النار إلا ما كان مستحقاً للاحتراق أخلاقاً، ولا ينال السعادة والنعيم والأمن والرفاهية فيه، إلا من كان صالحاً. ولا الضيق والعذاب والشقاء، إلا من كان فاجراً. إن هذا النظام لمن عين ما يقتضيه عقل الإنسان وتطالب به فطرته.

هذا هو الاستدلال العقلي، ولك أن تتقدّم الآن خطوة أخرى:

الحقيقة أن الاستدلال العقلي إنما يرشدنا إلى حد "يجب أن يكون" ثم يتخلى عنا. أما: هل لنظام مثل هذا النظام وجود في واقع الأمر، فإن كلاً من عقلنا وعلمنا، عاجز عن أن يحكم فيه بشيء، فهنالك يأخذ بيدنا القرآن ويقول: إن الذي يقتضيه عقلكم وتطالب به فطرتكم، كائن لا محالة. (وأن الساعة لآتية لا ريب فيها) وسيأتي على نظام الكون القائم على قوانين الطبيعة يوم سيفنى فيه، ويعقبه نظام للكون آخر ستكون الأرض والسماء وكل شيء فيه على هيئة غير هيئته الحاضرة.

والله تعالى سيحيي فيه كل من ولد ومات منذ أول الخلق إلى يوم القيامة من أبناء البشر، ويحشرهم جميعاً بين يديه في آن واحد. وهناك سيجد كل فرد، وكل أمة، والإنسانية بقضّها وقضيضها، ما قدمت من الأعمال في الحياة الدنيا، مسجلاً محفوظاً بدون نقص ولا خطأ ولا هفوة، وهناك سيجد الإنسان كل صغير أو كبير من أعماله بكل ما طال من سلسلة رد فعله في الدنيا، وتشهد له أو عليه جميع السلالات والأجيال التي تأثرت به إلى حد ما، كما ستشهد له أو عليه كل ذرة من ذرّات الأرض تركت عليها أفعاله وأقواله أثراً من الآثار، كما ستشهد له أو عليه يداه ورجلاه وعيناه وأذناه ولسانه وجلده، وكل جارحة من جوارح جسده: كيف وفيم استعملها في حياته الدنيا. ثم سيحكم عليه أحكم الحاكمين –جلّ ثناؤه وتباركت أسماؤه- بكل عدل، ويجازيه حسب أعماله وشهادة الشاهدين بما يستحقه من النعيم أو العذاب، وسيكون كل من هذا النعيم أو العذاب على نطاق واسع لا يمكن تقديره حسب المقادير المحدودة الضيقة التي نعرفها في نظام العالم الحاضر، وسيكون المقياس هناك للوقت والمكان مغايراً عمّا هو في النظام الحاضر، كما ستكون القوانين الطبيعية هناك غيرها في هذا النظام، وسينال الإنسان هناك جزاءً كاملاً بدون أي نقص على عمل من أعماله الحسنة التي بقيت تجري آثارها إلى آلاف السنين في نظام العالم الطبيعي، بدون أن يقطع عليه الموت أو المرض أو الهرم ما سيكون فيه من النعيم والسعادة والفرح. وكذلك إن هذا الإنسان نفسه سيلقى هناك العذاب على كل عمل من أعماله السيئة التي ظلت تجري آثارها إلى آلاف من السنين في الحياة الدنيا، من دون أن ينقذه الموت أو الغشي مما سيكون فيه من الألم والعذاب.

ولعمر الحق إني لا يسعني إلا البكاء على ضيق أذهان الذين يرون حياة مثل هذه الحياة، ونظاماً مثل هذا النظام من الأمور التي يستحيل وجودها، فإنه إذا كان من الممكن أن يوجد نظام العالم الحاضر بالقوانين الطبيعية الحاضرة، فلماذا من المستحيل أن يوجد نظام آخر بنوع آخر من القوانين، أما إنه سيكون ذلك حتماً في واقع الأمر، فذلك مالا يمكن تعيينه ببرهان ولا بثبوت علمي، وإنما هو في حاجة إلى شهادة القلب والإيمان بالغيب.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.