سونيتات رمضان

الشاعر الأميركي المسلم دانيال مور

ترجمة وتقديم: منير العكش

في أواخر الستينيات، حين كانت »ثورة الشباب« براكين من الإبداع والرومانسيات وأحلام تغيير العالم، كنت حديث العهد بالهجرة إلى بيروت، مكسوراً مع كل المكسورين بالهزيمة واليأس والعسكر وخوف المنافي وقلق الإبادات، حالماً مع كل الحالمين بيوم أوسع أفقاً من هذا اليوم، ومصير أقل بشاعة من هذا المصير.
 

وكان دانيال مور ولورنس فرلنغيتي وألن غينزبرغ ومايكل مكلور ونانسي بيترز هناك على سيف المحيط الهادي في أقصى غرب الموت واليانكية المتوحشة جزراً من الأمل في بحر يصخب بالكراهية والجشع وتاريخ الإبادات.

لم يخطر ببالي وشلالات الضوء يومها تهدر من لغة الشباب العاصف في شوارع العالم، من غسان كنفاني في بيروت إلى دانيال مور في سان فرانسيسكو أنني - بعد أكثر من عقدين - سأودع قافلة أصدقائي الذين تطايرت أشلاؤهم مثل أسراب الحمام في سمائنا العبثية واستشهدوا مجاناً لألتقي هنا على الشاطئ الآخر بهؤلاء الحالمين الأبديين بثورة الشباب وقد تساقطت معظم أسنانهم: غينزبرغ ينشد "الهيكل العظمي" للزمان، ومور يعتمر الطربوش المغربي الأحمر تحت تمثال الحرية، وعبثاً ينفخ في جثتها الروح.

منذ أن وصلت إلى "العالم الجديد" أدركت أننا نحن وضحايا كولومبوس في هاوية واحدة، وأن هذه الأميركا متعددة ولا بد من اختيار ما يمد ويخصب زمن الحلم. وكان لابد من دانيال مور وبقية الطيور التي ما تزال تغني في هذه الغابة المحترقة.

وكانت مجلة (جسور) هي البداية وفوهة الضوء، إذ لم يكد يصدر عددها الأول حتى التقيت بدانيال مور ولورنس فرلنغيتي ونانسي بيترز وجون هول ومايكل مكلور وجفري مانو وهذا النبض الدافئ الذي يخفق به قلب كل ما هو إنساني نبيل ومبدع في أميركا.

وهاهو دانيال مور اليوم واحد من أسرة (جسور) يسهر الليالي في مراجعة كل ما ينشر فيها من شعر ونصوص إبداعية، ويعمل معي على اختيار وترجمة كل ما يقدم وجهاً مشرقاً لثقافتنا العربية الإسلامية في هذا العالم الذي لا يرى فينا إلا صورة الذئب. وهاهو مور للمرة الأولى يتعرف على وجهه في المرآة.. بعد أن تجهمت في وجهه طويلاً فظن أن غربته أبدية كما يصور ذلك في قصيدة "المرآة" المترجمة.

في الستينيات كان مور من أبرز شعراء "بيركلي" الحالمة بأميركا أكثر إنسانية وعالم أكثر عدلاً. وتعتبر دواوينه "رؤيا الفجر" و"القلب المحترق: مرثاة لموتى الحرب" و"جسد النور الأسود" و"حكمة المحارب" ثورة في حركة الشعر الأمريكي الحديث. كذلك كانت مسرحياته "اللوتس العائم" و"الحيتان المدماة" و"قيامة بليس" التي عرضت لسنوات في مسرحه الذي أنشأه هناك في قلب كاليفورنيا مدرسة إبداعية وإنسانية. لكن الستينيات لم تمض على دانيال مور حتى زار المغرب وتعرف على الشيخ محمد بن الحبيب الفاسي ليعود إلى بيركلي مسلماً يتوهج شعره بأسمى روحانية عرفها الشعر الإنجليزي المعاصر.

معظم مجموعاته الشعرية في هذه المرحلة ("الصحراء باب النجاة" و"حوليات الآخرة" و"صاح كما لم أصح من قبل" و"ورد" و"مولد") نشرت في طبعات يدوية محدودة جداً من عمل الشاعر ذلك لأن ناشريه لم يرق لهم "دانيال مور" الجديد.

برغم عزوف الناشرين الأميركيين عن طبع مجموعاته فان حضور دانيال مور القوي والمتميز ما يزال ظاهرة مثيرة في الشعر الأميركي المعاصر. هناك من يعتبره "عمر خيام" العصر بينما يعتبره آخرون "إقبال" أميركا.

الشاعر ألن غودلس يقول: "إن مور هو شاعر أميركا اليوم كما أنه شاعر الإسلام (باللغة الإنجليزية) دون منازع.. إنه مثير بتجذره الأميركي ومثير بروحانيته الإسلامية.. إن قراءته رحلة. والسفر معه يثير الأسئلة: أين نحن؟ في أي عالم؟ أية أميركا؟ من هو المسلم؟ من أنا؟ إن سونيتات رمضان مثل دليل المسافر إلى عوالم الثقافات المتعددة والحضارات المتنوعة".

وكتب كولمان بارك: "إن شعر مور يضم موهبة يتمان ووليامز وغينزبرغ إضافة إلى روحانية الإسلام العميقة".

وكتب فيرلنغيتي: "إن تجليات سونيتات رمضان البديعة قد تبدو معارضة لرباعيات الخيام، لكن هدف الشاعرين واحد. إنه الحرية، وموهبتهما مثل فرسي رهان".

وكان دانيال مور قد بدأ بكتابة "سونيتات رمضان" في أول ليالي رمضان 1406 (1986) ليكتشف صباح العيد أنه أنجز مجموعة كاملة من 62 قصيدة كانت كما يقول: "فضاء روحياً لتجربته الرمضانية وتصويراً شعرياً لعالم الصيام والعالم من حول الصيام". أما العنوان فقد استهواه لأنه رآه تعبيراً عن كل حياته التي تلاقحت فيها ثقافة الغرب وروحانية الإسلام. كان يظن أن العربية لا تعرف معنى "السونيتا" (الأغنية القصيرة)، غير أنني ذكرت له لاحقاً أن مؤرخ الموسيقا العربية هنري جورج فارمر يقول: إن المقابل العربي للسونيتا هو كلمة "الجلجل" وإنني على كل حال لن استخدمها في الترجمة لأنها الآن أغرب من كلمة السونيتا.

يبقى أن ترجمة دانيال مور إلى العربية مغامرة خطرة، لا لأنه يتفنن في تنغيم الفروقات اللفظية، ولا لتداخل جمله التي يستعذبها قارئ الإنجليزية فيما تبدو غريبة على الاستجابة العربية وإنما لتعدد طبقات رموزه ولتنوع ينابيع هذه الرموز واختلاف ثقافاتها. في شعره مصهر عجيب لشعر الثقافات العالمية وفي مقدمتها شعر السورياليين وشعرنا العربي والفارسي. إنني أتفاجأ أحياناً ونحن نراجع بعض القصائد المترجمة كيف أنه يحيل إلى قصائد عربية أو فارسية من عصور مختلفة. وتأتي في المرتبة الثانية ثقافته العلمية والإنسانية، ولا سيما منها فيزياء الكون وأدبيات الفيزيائيين الكونيين والعاملين في علم العصور الجيولوجية والانثروبولوجيا وعلم الآثار.

إن تداخل كل هذه المعارف في قصائده يجعل ترجمته الحرفية مرهقة ومؤذية للأذن العربية التي ما زالت تنفر من كل دخيل على ملكوت اللغة الشعرية المتوارثة.

وأخيراً هناك ما يسميه الشاعر الناقد جيم كوري بمخيلة دانيال مور البلاغية النادرة التي تتدفق وتخصب شعره دائماً بالجديد المدهش من العلاقات اللغوية.

لكل هذا فقد اخترت مقاطع يسيرة الترجمة نسبياً لعلي أقدم لقارئ العربية هذا الشاعر الأميركي الذي توهج بروحانية الإسلام فأغنى بها تجربة الشعر في أميركا واستحق بجدارة لقب "محمد إقبال العالم الجديد".

* صدرت المجموعة عن "كتاب" بواشنطن بالتعاون مع "سيتي لايتس للنشر" في سان فرانسيسكو.

 

مختارات من "سونيتات رمضان"

ترجمة منير العكش

ملائكة لا تلمحها العين

ربّ ملائكة

خافية، لا تلمحها العين

تخترق بلطف جسد الأشياء

*    *   *

رب ملائكة

تخطر كنقاط الضوء البراقة

فوق مياه الشلال... سريعاً

ورشيقاً كالماء

*    *   *

مخلوقات من ضوء

تسعى مثل الضوء..

وتزداد بريقاً في جوف الظلماء

*    *   *

رب ملائكة تسري في الليل إلى غايتها

في طيران خاطف

لا يعجزها الصخر

ولا يمنعها البحر

ولا يثنيها عمق الوادي

*    *   *

تعبر بموات الأرض فيهتزّ

وينبض منها قلب الأحياء.

ـــــــــــــــــــ

مرآة

وجهي جهمٌ

حين أمر أمام المرآة الغبراء.

ومرور الزمن هنا

لا يقشع سحبي.

ألمح عيني

وأرى "النفس"

وما كنتُ أسميه: "أنا".

من هو هذا الإنسان؟

ابني وأبي!

ولمن هذا الوجه الغضبي؟

لغريب أم لحبيب؟

هذا الضوء المكسو بلحم،

هل هو أرض أم شمس

أم أفلاك نبي؟

من يأمرها: هيا سيري!

هيا أعدي؟

*    *   *

هل من أحد؟

*    *   *

يا شكلاً في المرآة

ووجها ً كشراع منشور

ستظلُّ غريباً

في هذا العالم

حتى الأبد..

ـــــــــــــــــــ

الترتيل

عند تلاوة القرآن

جهراً، في صلاة الصبح

أدرك أن هذا الحلق

لم يخلق إلا لقراءة القرآن..

*    *   *

أسمع رجعه في القلب

مندفعاً كجوف النبع.

أسمع رجعه

في أحلك الأعماق من جسدي

*    *   *

 وتحضرني ملامح هذه الألحان

فأعرف كيف صاغ الله

حول نشيدها الإنسان

كمثل جِبِلة خلقت من الإحسان

فزادك وجهها حسنا

برجع تلاوة السور.

*    *   *

كم أحكمت يا رباه

خلق جوارح الإنسان للقرآن

فصار غشاءه الحي، وكم يحلو

لهذا الثغر، بعد الفجر

إنشاد بديع الشعر.

ـــــــــــــــــــ

ولماذا الصوم؟

لما خلق الله العقل استحضره

ثم سأله أن يسمو فسما

 وسأله أن يهوي فهوى

وسأله أن ينأى فنأى

وسأله أن يدنو فدنا

*    *   *

لما خلق الله النفس استحضرها

ثم سألها أن تسمو فعصت

وسألها أن تهوي فعصت

وسألها أن تنأى فعصت

وسألها أن تدنو فعصت

*    *   *

ألقاها في النار

وعاقبها عشرة آلاف سنة

ثم استحضرها

وسألها أن تسمو فعصت

وسألها أن تهوي فعصت

وسألها أن تنأى فعصت

وسألها أن تدنو فعصت

*    *   *

وكذلك ألقاها في النار

وعاقبها عشرة آلاف أخرى

ثم استحضرها

وسألها أن تسمو فعصت

وسألها أن تهوي فعصت

وسألها أن تنأى فعصت

وسألها أن تدنو فعصت

*    *   *

وأخيراً، فرض الله الصوم

ثم استحضرها

وسألها أن تسمو فارتجفت.. وسمت

وسألها أن تهوي فارتجفت.. وهوت

وسألها أن تنأى فارتجفت.. ونأت

وسألها أن تدنو فارتجفت.. ودنت

بالصوم انكسرت شكوتها

صارت أمَة الله.

ـــــــــــــــــــ

البحر وحيتان البحر

لو أن البحر وحيتان البحر

قطرة دمع في عين وليّ

*    *   *

لو أن حريق الدرب الوعر

رعشة عصب في باطن قدمه

*    *   *

لو أن الليل وأهوال الليل

وهجوماً نووياً معها

مغصٌ يزعج هذا الصاحي الأبدي

*    *   *

لو أن وجوه الجوهرة/ الأرض

نقطة ضوء تتحلل في عين تجليه

*    *   *

لو أن أشعة كل نجوم الليل

تكتب في عينيه

ما تكتب أشرطة الآلات الكاتبة

على الورق الأبيض

حيث الأنفاس فصول

ووجيب القلب منامات

...بين يدي أسد يربض

فوق شفير الصحراء الأزرق

يتثاءب.. حتى يتحجر.

*    *   *

لو أن الشعر وأعجب ما هذا الشعر

"ومضة" إنذار

في راصدة الزلزال المنصوبة

في قلب وليّ

*    *   *

عندئذ،

حين تُشَقُّ الأبوابُ

على آجام القمر المشرفة على

كل وجوه المستقبل؛

*    *   *

حين تصير الريح

خزانة حشر لدخان مائي أخضر

ثم يصير الماء زجاجا،

ويصير زجاج الماء

صواناً أحمر؛

*    *   *

حين نوجّه موجات سرائرنا

نحو عجائب أفكار الخلق الغارقِ

في أعماق الصلصال البحري؛

*    *   *

عندئذ

قد ننهضُ:

أيدينا تدفع قوس الأرض

نتهيأ، نمضي في بحر شاقولي

من نور ينفذ في الجبهة منا

ويشق الصدر.

*    *   *

عندئذ

سنسيح بعيداً في

ضوء نهار ينتظر خطانا

ضوء لا يعرف أين حدود الضوء...

ـــــــــــــــــــ

الحضرة

إلى الحضرة

يدنو العاشق الولهان

في حذر.

فيسبقه إذا ما لاحت الأنوار

تأدبه

وخشيته

وما يعروه من ضعة

وما يغشاه من صغر.

يشعشع وجهه المهزول

في خطف من الألق

وما إن تُضرمُ النيران

أجنحةَ الفراشِ

ولا يظل هناك من عذر لمعتذر

يخرّ لوجهه

غشيان مصعوقاً بلا بصر

ويصهره حميم النار

والشوق الذي أضناه للأنوار

منذ بداية السفر

فلم يحمل لرحلته غير حقيبة العمر

وفيها، كل ما فيها ركام عظامه

واللهفة الحرى

إلى الأسرار.