نصير السلام

بقلم الأديب الكبير الأستاذ: علي أحمد باكثير

المنظر: فندق من فنادق برلين الغربية حيث ينزل ونستون تشرشل وابنته سارة التي تعمل سكرتيرة له.

تشرتشل "في استياء وعتب": قضيت سهرتك ليلة البارحة مع ذلك الشاب الألماني أيضاً؟

سارة: نعم يا أبي.. لكن لا تخف إنها سهرة بريئة ليس فيها ما يريب، وإني حريصة على نفسي وعلى سمعتك.

تشرشل: كلا ليس هذا المعنى هو الذي أثار استيائي يا سارة فلست من الغباوة بحيث أمنع ابنتي في شبابها مما كنت آتيه في شبابي.

سارة: فأي شيء إذن ساءك.

تشرشل: هذا الشاب الألماني.

سارة: ما باله؟ إنه على كل حال من نفس العنصر التوتوني الذي ننتمي نحن الإنجليز إليه. بل إن هؤلاء الألمان ليعتقدون أنهم خلاصة الجنس الآري.

تشرشل: وتؤمنين أنت بذلك؟

سارة: كلا لست أؤمن بذلك يا أبي ولكن أليس هذا الألماني أفضل من الزنوج الأمريكان الذين أغرمت بهم الفتيات الفرنسيات في هذه الأيام؟

تشرشل: إنك لم تفهمي قصدي يا سارة. أنا لا يعنيني أن تقضي وقتاً سعيداً مع تيوتوني أشقر أو مع زنجي أسود. ولكن هذا الألماني..

سارة: ما باله؟ إنه شاب جميل مهذب. سأدعوه غداً إلى هنا لتراه.

تشرشل: إنك لم تفهمي قصدي. أنا لا أعني هذا الألماني بالذات. ولا يعنيني أن يكون حلواً أو مراً فأنت وذوقك لا شأن لي بذوقك. لقد عشقت أنا حين كنت في حرب البوير زنجية سوداء كأنها قطعة الليل

سارة: إذن فماذا تنكر علي؟

تشرشل: (يتنهد) إن ما آلمني يا بنيتي أن هذا الألماني قد استطاع لأن يدعوك لتقضي معه سهرة ممتعة.

سارة: ما يؤلمك من ذلك؟

تشرشل: لا شك أنه هو الذي دفع نفقات السهرة.

سارة: طبعاً.. أو ظننت أنني أنا التي دفعت ذلك؟

تشرشل: يا ليت أنك كنت التي دفعت!

سارة: ماذا تقول يا أبي؟ أو تريد أن أكون مثل عجائزنا المتصابيات اللاتي يرحلن إلى باريس ليتخذن من فتيانها المحترفين أخداناً ينفقن عليهم؟

تشرشل: أوه.. ما فهمت قصدي بعد.

سارة: ماذا تقصد يا أبي؟! ألا تفصح؟ تذكر أنهم منحوك جائزة نوبل في الآداب لبلاغتك وبيانك فكيف تعجز كل هذا العجز عن الإفصاح لابنتك بما أريد؟

تشرشل: اصبري علي قليلاً حتى أفصح لك..

سارة: إني صابرة منتظرة.

تشرشل: ماذا كنت أقول؟

سارة: كنت تتمنى لو كنت أنا التي دفعت نفقات السهرة!

تشرشل: أجل لو كنت أنت التي دفعت لما أرقتني البارحة تلك الدلالة المخيفة المروعة.

سارة: أية دلالة؟

تشرشل: اسمعي يا سارة: لقد زرت ألمانيا قبل عامين فوجدت الفتيات الألمانيات يتعرض للمارة من الأجانب لقاء علبة واحدة من السجائر الأمريكية أو من الشكولاته، وكنت ألقى أصدقائي اليهود هنا فنتقارع أنخاب الشماتة بهذا الشعب الألماني الذي أذلت الحرب كبرياءه فكنا نشعر جميعاً بسعادة لا حد لها. وأذكر أن أحد هؤلاء قد دعاني ليلة إلى حفلة في بيته فقدم لضيوفه عشر فتيات من أجمل الألمانيات المنتميات إلى أعرق الأسر ليقمن على خدمتنا وإمتاعنا ثم أمرهن المضيف فمسحن أحذيتنا وفي النهاية رمى لهن عشر علب من السجائر ثم أمرهن بالخروج وهو يركل كل واحدة منهن في وسطها ويشيعها بالسب واللعن ونحن نقهقه ضاحكين!

سارة: يا أبي ألا ترى ذلك مخالفاً للإنسانية؟

تشرشل: الإنسانية؟! لولا أني مطمئن إلى وفاء والدتك وإخلاصها لي لخامرني الساعة شك في أنك أنت من صلبي! أنسيت ما فعله الألمان باليهود؟

سارة: وما شأننا نحن باليهود؟

تشرشل: ويلك ألم تعلمي أن أباك ما بلغ هذا الذي بلغه في عالم السياسة إلا بمعونة اليهود وتأييدهم العالمي؟

سارة: هيه.. لهذا تحرص في كل مناسبة أن تعلن أنك صهيوني؟

تشرشل: أجل وقل لهم هذا الجزاء إني لو قطعت نفسي إرباً إرباً في سبيل هؤلاء القوم ما استطعت أن أوفيهم جزاء أفضالهم عليَّ..

(يقتحم الحجرة رجل كهل فيدهش تشرشل وابنته)

الرجل: معذرة يا سير تشرشل؟

تشرشل: ويلك كيف تقتحم حجرة ابنتي بغير استئذان؟

الرجل: لا تعجل باللوم يا سيدي. إني استمعت إلى حديثكما أنت وابنتك.

سارة: يا للفضيحة!

تشرشل: سحقاً لك أيها الألماني القذر ألا تعرفون في بلدكم أبسط آداب السلوك؟

الرجل: (ضاحكاً) لا تعجل يا سيدي.

تشرشل: الحق على أمريكا إذ أنعشتكم بالدولار ولم تترككم ترتكسون في ذلك الهوان القديم!

الرجل: (يمضي في ضحكه)..؟

سارة: ويضحك أيضاً؟

الرجل: لأريكما أن سبكما هذا لم يغضبني.

سارة: يا لك من وقح!

تشرشل: أجل أين توجد الوقاحة إلا في برلين! أه لولا أني اليوم شيخ في السبعين لدعوتك الساعة إلى المبارزة.

الرجل: (يضحك) المبارزة.. انظر هذه البطاقة أولاً.

تشرشل: ماذا أصنع ببطاقتك القذرة؟

الرجل: أنا لست ألماني الأصل.

تشرشل: ماذا تعني؟

الرجل: اقرأ البطاقة. (يناوله البطاقة)

تشرشل: (يقرأ البطاقة) الهر كوين مردخاي دسلدروف.. مولود في برلين سنة 1913.. يهودي.

الرجل: أرأيت يا سيد تشرشل؟

تشرشل: معذرة يا سيدي.. حسبتك من هؤلاء الألمان القذرين. هلا أخبرتنا بحقيقة أصلك في أول الأمر؟

سارة: ما هذا يا أبي؟ أو يعفيه عندك من سوء سلوكه هذا مجرد كونه من أصل يهودي؟

الرجل: يا سيدتي أني ما اقتحمت حجرتك إلا لأزف إلى أبيك نبأ ساراً.

سارة: أي نبأ ويلك؟

تشرشل: مهلاً يا سارة: (للرجل) ترى ما النبأ السار الذي تريد أن تزفه إلي يا هر دسلودروف؟

الرجل: سأنقل حديثك الذي سمعته اليوم إلى المركز العام للجمعية اليهودية العالمية بالولايات المتحدة.

تشرشل: بوركت يا سيدي.. لكن يجب يا هردسلودروف أن تبين للجمعية أنني تنوهت بالثناء عليكم والدفاع عنكم دون أن أعلم بوجودك قريباً مني تسترق السمع. إياك أن تنسى هذه النقطة فإنها على جانب كبير من الأهمية.

الرجل: أجل يا سيدي سأوضح هذه النقطة جيداً.

تشرشل: بوركت يا صديقي العزيز تفضل. تفضل اجلس معنا على سرير ابنتي! اعتبر نفسك من أفراد الأسرة.

الرجل: (يجلس) شكراً يا سيدي شكراً.

تشرشل: كأنك نازل هنا في الحجرة المجاورة؟

الرجل: نعم.

تشرشل: فاعتبر هذا الباب الفاصل بيننا وبينك كأنه غير قائم!

الرجل: لكن يا سيدي..

تشرشل: لا تخف.. سارة ابنتي لن ترهق ميزانيتك. إنها مقتصدة لا تحب الإسراف والتبذير.

سارة: ما هذا يا أبي؟

تشرشل: أليس هذا خيراً لك من ذلك الشاب الألماني؟

الرجل: معذرة يا سيدي.. أخشى أن لا تمكنني مشاغلي الجمة من القيام بتسلية الآنسة سارة.

تشرشل: الآنسة؟ هذه متزوجة!

الرجل: عفواً أقصد السيدة سارة.

سارة (غاضبة) اسمع يا أبي لن أغفر لك هذه الإهانة أبداً

تشرشل: أي إهانة؟

سارة: ما كان ينقصك إلا أن تأمره بأن يعطيني علبة سجائر ثم يركلني في النهاية! (تخرج غاضبة)

الرجل: لاحق لك يا سير تشرشل أن تغضب كريمتك.

تشرشل: بل لاحق لك أنت أن تجرح شعورها بالرفض!.

الرجل: معذرة يا سيدي.. ما قصدت أن أجرح شعورها ولكني سمعت من حديثها معك آنفاً أنها تميل إلى ذلك الشاب الألماني فرأيت ألا أنزل إلى ميدان خاسر.

تشرشل: هيه لو كنت مكانك لما استسلمت للهزيمة بهذه السهولة، لقد نافست ذات يوم شاباً من أجمل فتيان رومانيا فسرقت منه قلب حبيبته!

الرجل: لابد أنك كنت فتى يافعاً إذ ذاك؟

تشرشل: كلا بل كنت في ذلك الوقت قد جاوزت الأربعين.

الرجل: من لي يا سيدي بمهارتك في هذا الميدان؟

تشرشل: صدقت صدقت.. إني أكلفك شططاً إذ أطلب منك أن تكون مثلي.

الرجل: لا أنا ولا أحد غيري يستطيع أن يجاريك، لقد كنت أنت في صباك أشقى صبي في العالم.

تشرشل: (ضاحكاً في رضا) أو تعرف ذلك؟

الرجل: كيف لا؟ العالم كله يعرف ذلك.

تشرشل: دعني من هذا الآن، وقل لي هل سمعت حقاً حديثي مع ابنتي؟

الرجل: سامحني يا سيدي.

تشرشل: كلا لا تعتذر، أنا لست عاتباً عليك ولكن حذار أن يكون في كلام ابنتي ما يغضبك، إنها لم تزل قليلة الخبرة في ميدان السياسة العالمية.

الرجل: لا عليها يا سيدي، إنا تعلم أن اللاسامية متغلغلة في كل مكان حتى في البيت الأبيض!

تشرشل: كلا ليس هذا من اللاسامية في شيء، حذار أن تسجل هذه التهمة الكبرى على كريمتي.

الرجل: لا لن أسجل شيئاً.. سأسجل فقط تلك الملاحظة القيّمة التي أبديتها أنت لابنتك فلم تدرك هي دلالتها العميقة.

تشرشل: تعني هذا الانتعاش المخيف الذي طرأ على ألمانيا في هذه الأيام؟

الرجل: نعم حتى أصبح الشاب الألماني يستطيع أن يغازل الفتيات الأجنبيات بعد أن كانت الفتيات الألمانيات يجرين وراء الأجانب في الطرقات.

تشرشل: حقاً أن هذه لكارثة!

الرجل: على أوربا؟

تشرشل: بل على العالم كله!

الرجل: كنت أنتظر منك جواباً غير هذا.

تشرشل: لا تسئ فهم مقصدي. إني لست أقصد بالعالم قطعانه من مختلف الشعوب فهؤلاء لا وزن لهم عندي بل أقصد تلك القوة الخلافة المنبثة في ثنايا العالم والمسيطرة على مقدراته في الشرق والغرب!

الرجل: برافو يا سير تشرشل! سأسجل هذه الكلمة العظيمة أيضاً وأبلغها للجمعية الموقرة.

تشرشل: أتدري لماذا حضرت إلى ألمانيا هذه المرة؟

الرجل: لماذا؟

تشرشل: لأرى بعيني مبلغ الخطر الجسيم الذي يتهدد اليهود من جديد وأفكر في الوسائل للحيولة دون وقوع الكارثة.

الرجل: لكنك يا سيدي من مشجعي قيام الجيش الأوروبي.

تشرشل: أنا شجعت ذلك خشية أن يغلبنا الروس بالجيش الألماني الذي عندهم، إن الذي يستحق اللوم حقاً إنما هو الدولار الأمريكي الذي تدفق على هذه البلاد.

الرجل: صدقت يا سيدي إننا نسير إلى الكارثة بخطى حثيثة.

تشرشل: إن عجبي لشديد من يهود الولايات المتحدة كيف يسمحون لحكومتهم أن تتلاعب هكذا بالنار وفي أيديهم مقاليد الاقتصاد الأمريكي كله.

الرجل: لا أكتمك يا سيدي أنني حضرت مؤتمرهم العام سنة 1951 حيث أثيرت هذه المسألة للنقاش فكانت حجة المحبذين للإنعاش الألماني إنهم أخذوا وعداً من حكومة الولايات المتحدة بأن تفرض على ألمانيا الغربية دفع التعويضات لإسرائيل.

تشرشل: أجل.. لا شك أن هذه التعويضات مغنم كبير لتوطيد دعائم الاقتصاد في دولة إسرائيل ولكن الخطر الذي أمامنا ليس يهدد إسرائيل وحدها بل يهدد اليهودية العالمية أجمع.

الرجل: كانوا في ذلك المؤتمر يظنون أن تلك التعويضات ستثقل كاهل ألمانيا فلا يصل انتعاشها إلى حد الخطر.

تشرشل: ولكن الأيام أثبتت خطأ هذا الظن، هذا شعب كالوحش لا سبيل إلى تكبيله إذا انطلق.

الرجل: أجل إنه لشعب عجيب لا حد لحيويته، تصور يا سيدي أنه بلغ هذا المبلغ من القوة والانتعاش بالرغم من وجود رجال منا منبثين في كل مركز هام من مراكز صناعته واقتصاده

تشرشل: لقد كانت لكم مثل هذه السيطرة على الشعب الألماني قبل وبعد الحرب العظمى الأولى فلم يحل ذلك دون قيام هتلر.

الرجل: فما السبيل يا سيدي إلى اتقاء هذا الخطر؟

تشرشل: هل تعاهدني على أن تكتم حديثي هذا عن كل أحد ولا تبلغه إلا إلى المركز العام للجمعية اليهودية العالمية فقط؟

الرجل: نعم يا سيدي أعاهدك على ذلك.

تشرشل: إني لا أجد أمامي سبيلاً لدفع هذا الخطر الماحق عن اليهود أولاً وعن بريطانيا ثانياً إلا بأن تعلن بلادي الحرب على الولايات المتحدة.

الرجل: (مندهشاً) على الولايات المتحدة؟!

تشرشل: نعم.

الرجل: وكيف ذلك يا سيدي. أتريد أن تقول إن عندكم أنتم من أسرار الطاقة الذرية ما تضمنون به التفوق على الولايات المتحدة؟

تشرشل: كلا.. إنك لم تفهم قصدي.

الرجل: فماذا تقصد يا سيدي؟

تشرشل: إننا سنسعى للانهزام من تلك الحرب فهو هدفنا الذي نرمي إليه.

الرجل: إذا انهزمنا فستحتل الولايات المتحدة بلادنا فترة من الزمن تغدق علينا في أثنائها دولاراتها بغير حساب فينقذنا ذلك من هذه الأزمات الاقتصادية التي نعانيها اليوم.

الرجل: كما فعلت مع ألمانيا المهزومة؟

تشرشل: بالضبط.

الرجل: هذه خطة رائعة حقاً، ولكن ما نصيب اليهود من هذا التدبير؟

تشرشل: عجباً لك.. ألم تدرك بعد نصيب اليهود في ذلك؟ ألم تعلم أني ما فكرت في هذه الخطة إلا لمصلحة اليهود أولاً وفي درجة الأولى ثم لمصلحة بريطانيا في الدرجة الثانية؟

الرجل: كيف يا سيدي؟

تشرشل: ستتحول الدولارات الأمريكية المنعشة من بلد عدو لكم هو ألمانيا إلى بلد صديق لكم هو بريطانيا.

الرجل: ولكن كيف تستطيع أن تقنع قومك بمثل هذا القرار الخطير؟

تشرشل: هذا ليس من شأنك يا هر دسلدروف.

الرجل: معذرة يا سيدي إني أحب فقط أن أطمئن إلى قدرتك على تنفيذ هذه الخطة.

تشرشل: بل تريد أن تتسقط سر مهنتي؟

الرجل: ألا ثق بي يا مستر تشرشل؟

تشرشل: بل أثق بك كل الثقة أصغ إلي يا صديقي، إني ربما تخونني القدرة حين أدعو قومي إلى السلاح باسم الحرب ولكني واثق بالنجاح حتى أدعوهم إلى الحرب باسم السلام.. إن الشعب البريطاني يا صديقي شعب غبي في كل شيء إلا فيما يتصل برفاهيته وشئون اقتصاده فهو أنبه شعوب العالم في ذلك.

الرجل: ألا تخشى من حزب المعارضة أن يعترض على هذه الخطة لما تقتضيه من إرهاق الميزانية بنفقات الحرب؟

تشرشل: ويلك يا صديقي.. إن هذه الحرب لن تكلفنا شيئاً.

الرجل: كيف؟

تشرشل: ألم تفهم بعد أننا سنحارب لننهزم لا لننتصر؟

الرجل: صحيح.. فاتني هذا المعنى!

تشرشل: (يضرب على كتفه ضاحكاً) كما فاتتك الحسناء منذ قليل.

(ستار)

         

*مجلة الدعوة في 17 ربيع الأول 1373