رسالة الرجل الأبيض

رسالة الرجل الأبيض*

بقلم الأديب الكبير: علي أحمد باكثير

مسرح الرواية: مقر مجلس الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة بنيويورك.

مسرحية في فصل واحد

-1-

في جانب من أروقة المجلس يظهر مندوب جنوب أفريقيا وهو يتحدث إلى مندوب استراليا. إذا بمندوبي الدول العربية يمرون أمامهما في طريقهم إلى المقصف.

مندوب جنوب أفريقيا (بازدراء) من يكون هؤلاء؟

مندوب أستراليا: هؤلاء مندوبو مصر، والمملكة العربية السعودية، والعراق ، وسوريا، ولبنان.

م.ج أفريقيا: من يعش رجباً يشهد عجباً! متى كان لهؤلاء مندوبون في المؤتمرات والهيئات الدولية؟

م. استراليا: لماذا تستغرب هذا؟ إنهم خير من كثير من الدول الأخرى أليسوا خيراً من اليونان مثلاً؟

م.ج. أفريقيا: لا تنس أن اليونان منا على كل حال.. أما هؤلاء...

م. استراليا: كلا لا تقل هذا يا صديقي.. إننا في عصر الحرية والنور، إنا في القرن العشرين.

م.ج أفريقيا: الجنس الأبيض هو الذي جاء بالحرية والنور، فعليه أن يحافظ عليها باحتفاظه بسيادته المطلقة وإلا طغت عليه هذه العناصر الملونة فضاع النور وضاعت الحرية.

م. استراليا: احذر أن تقول مثل هذا في المجلس، وإلا كان في ذلك ما يضعف حجتك.

م.ج. أفريقيا: كلا لست غبياً، هذا كلام لا يبغي أن يقال إلا فيما بيننا نحن البيض.

م. استراليا: إني أخشى أن تضعف حجتك إذا نمت لغتك عن مثل هذه العقلية.

م.ج. أفريقيا: تخشى من ضعف حجتي أمام هؤلاء الملونين! لا، لاتخف فقد حضرت بنفسي، لأن مجرد وجودي في المجلس سيؤثر في المندوبين الذي يعرفون جميعاً مكانتي حق المعرفة، وسيلجم خصمي، ولو كان مندوب الولايات المتحدة أو مندوب روسيا السوفيتية، فما بالك بمندوب الهند!

م. استراليا: إنها مندوبة لا مندوب.

م.ج. أفريقيا: ذلك أضعف لحجة هؤلاء الهنود. إنهم لو علموا أنني سأقف بنفسي لمندوبهم لبعثوا غاندي نفسه، أو ذلك الذي يدعى عندهم جواهر لال نهرو وأؤكد لك يا صديقي أنهم لو بعثوا هذين الزعيمين ومعهما سائر زعماء الهند لنفختهم بكلمة واحدة فطاروا من المجلس كما يطير الذباب!

م. استراليا: لا تستهن بهذه المندوبة فللنساء ألسنة حداد ولا بد أنهم اختاروها لما يعرفون فيها من البراعة والقدرة في عرض قضيتهم.

م.ج. أفريقيا: قضية! أتسمى هذه قضية؟ ما إخالك إلا تسخر حين تدعوها كذلك. إن هؤلاء الهنود قد شمخت أنوفهم لما وعدوا بالاستقلال فأرادوا أن يلفتوا إليهم الأنظار بإثارة هذه الضجة المفتعلة. بيد أنه كان من سوء حظهم أن يكون خصمهم أحد أساطين السياسة العالمية الذين لا يتجاوز عددهم ثلاثة أو أربعة.

م. استراليا: إن كانت القضية قضية شكوى من التفريق بين العناصر فأخشى أن تخسروا الجولة. لأن ذلك من أسس النظام النازي، وقد تواضع الجميع على اعتبار كل ما سنه هتلر من النظم جريمة لا تغتفر.

م. ج. أفريقيا: كلا، هذا غير صحيح على علاته، فما نقمنا على هتلر إلا عزمه على أن يستبعد الشعوب البيضاء لألمانيا، وأن يبيد اليهود ولو أنه أراد إبادة الهنود على بكرة أبيهم، وفرضنا أن ذلك لا يضر بمصالحنا الإمبراطورية، لما جرؤنا أن نوجه إليه كلمة لوم.

م. استراليا: إن آراءك هذه لغريبة!

م.ج. أفريقيا: ليس في هذه الآراء من غرابة، وإنما الغريب ما يخالفها. هؤلاء لا يستحقون الحرية في بلادهم، فأي مجنون هذا الذي يريد أو يعتقد أنهم يستحقون الحرية في بلاد غيرهم؟ حسبهم أن يسمح لهم بالعيش في بلادنا، فهذا كرم منا عظيم أما أن يعاملوا معاملة البيض، فهذا يناقض الطبيعة ويسيء إلى الأحرار البيض، ولا ينفع هؤلاء الملونين في شيء (يمر المندوبون العرب راجعين من المقصف في طريقهم إلى قاعة المجلس).

م. استراليا: يعجبني من هؤلاء المندوبين العرب أنهم على رأي واحد في كل شأن من الشؤون التي تعرض في المجلس.

م.ج. أفريقيا: أما أنا فيغيظني هذا منهم!

م. استراليا: لماذا؟ لا أرى لبلادك أي مصلحة تتعارض مع مصالح هؤلاء.

م.ج. أفريقيا: هذا صحيح، ولكن لا تنس أن أمر الصهيونية يهمني كما يهمني أمر بلادي.

م. استراليا: أتعادي هؤلاء من أجل الصهيونيين؟

م. ج. أفريقيا: لا أملك لنفسي غير هذا السبيل، إن للصهيونيين أفضالاً علي لا أستطيع أن أجحدها.

م. استراليا: لا أعتقد أنهم يستحقون هذا العطف وقد أنكروا جميل بريطانيا عليهم.

م.ج. أفريقيا: لعلك تعني هذا الإرهاب اليهودي الجاري اليوم في فلسطين.

م. استراليا: وفي غير فلسطين أيضاً.. في روما.. بل في لندن نفسها إني والله ما رأيت أوقح من هؤلاء!

م.ج. أفريقيا: بعض هذا السخط على هؤلاء المساكين! حسبهم ما لقوة من عنت النازية واضطهادها.

م. استراليا: أفنحن مسؤولون عما أصابهم من عنت النازية حتى يصبوا جام غضبهم علينا، ويحملوا لنا كل هذا المقت وهذه الكراهية؟

م. ج. أفريقيا: إنك مخطئ يا صديقي إن ظننت أن القوم يكرهون بريطانيا حقاً.

م. استراليا: أفبعد هذا التقتيل والترويع تشك في كراهيتهم للبريطانيين؟

م.ج. أفريقيا: إنهم يعتبرون أبناءنا وصنائعنا، فإذا ثاروا علينا فكما يثور صاحب الدالة على من له الدالة عليه. ولو شاءت بريطانيا لقضت على هذا الإرهاب الودي في أربع وعشرين ساعة.

م. استراليا: فما يمنعها من ذلك؟

م.ج. أفريقيا: أتريد أن تعرف ما يمنعها من ذلك؟ سأشرح لك هذه الدقيقة من دقائق السياسة البريطانية العليا. إننا في الواقع متفقون مع الصهيونيين على تهويد فلسطين في آخر الأمر، لأن ذلك هو الضمان الوحيد لاحتفاظنا بنفوذنا في الشرق الأوسط، وبدون ذلك سيكون نفوذنا في ذلك الجزء الحيوي للإمبراطورية عرضة للضياع كلما تقدمت الدول العربية نحو القوة والوحدة. واليهود يعرفون هذا منا، فهم يستعجلون الهدف ولا يستطيعون أن يروا الصعوبات التي تقوم في وجه بريطانيا أو يقدروا الضرورة التي تقضي على بريطانيا بمداراة العرب ومداهنتهم حتى تصل إلى تحقيق ذلك الهدف اليهودي على التدريج دون أن تثير على نفسها السخط العام في البلاد العربية.

م. أستراليا: ولكن هذا مطلب صعب التحقيق، وما أحسب السياسة البريطانية إلا تورطت في تشجيع هذه الأحلام اليهودية في بلد يملكه أهله العرب وتحيط به الشعوب العربية من كل جانب، فلن تؤدي هذه السياسة إلا إلى استمرار الخصام في ذلك الجزء من العالم.

م. ج. أفريقيا: (يبتسم) فليستمر الخصام، فهو حجة استمرار بقائنا هناك..

م. استراليا: وميثاق الأطلنطي وهيئة الأمم المتحدة؟

م.ج. أفريقيا: إنك مثالي أكثر من اللازم يا صديقي. ولو تدبرتَ الأمر جيداً لأدركت أن وجود هذا الميثاق وهذه الهيئة إنما يقضي بمضاعفة جهودنا في هذا السبيل، ويجعل استمرار الخصام في ذلك الجزء الحيوي للإمبراطورية أمراً ضرورياً إلينا اليوم أكثر من أي عهد آخر.

م. استراليا: لم أفهم بعد لماذا لا تؤثر بريطانيا صداقة ثمانين مليوناً من العرب، فذلك أضمن لمصالحها هناك دون أن تعرض نفسها لهذه المتاعب التي لا نهاية لها.

م. ج. أفريقيا: لقد فاتك أننا ليس لنا أن نطمئن إلى صداقة هؤلاء، فهم أعداؤنا التاريخيون، ويجب أن يبقوا كذلك. وأصارحك القول بأنه لا شيء آلم لنفسي وأثقل على قلبي وأقذى لعيني من وجود هذا الجنس، وخاصة في القارة الأفريقية.

م. استراليا: فيم كل هذا التحامل على العرب؟

م. ج. أفريقيا: لا أدري، بيد أن قلبي يحدثني بأنهم سيبنون سلطانهم على أنقاض سلطاننا في يوم من الأيام!

-2-

في قاعة المجلس -مندوبو الدول على مقاعدهم- الجلسة مشرفة على الانتهاء.

مندوب الصين: إن ثبتت هذه التهم فإنها تهم خطيرة لا يكاد السامع لها يتصور أنها تصدر من حكومة متمدنة في القرن العشرين، ومشتركة في هيئة الأمم المتحدة التي ينص بشأنها على تحريم مثل هذا الظلم الفظيع..

مندوبة الهند: هذه التهم ثابتة فعلاً. وقد قدمنا للمجلس صوراً من الوثائق والأوامر اليومية التي كان يصدرها رئيس حكومة جنوب أفريقيا بنفسه.

رئيس المجلس: نعم هذه الوثائق موجودة في المجلس، وفي استطاعة كل من يرغب من حضرات السادة الإطلاع عليها، وما أحسب مندوب حكومة الاتحاد ينكرها.

م. ج. أفريقيا: هذه القوانين أصدرتها حكومات سابقة ولم تصدرها الحكومة الحاضرة.

مندوبة الهند: ولكن رئيس الحكومات السابقة إلى أصدرت هذه القوانين الجائرة هو نفس رئيس الحكومة الحاضرة وقد صار هذا الظلم دستوراً ثابتاً في الدولة لا يتغير باختلاف الحكومات.

مندوب كولمبيا: المهم هو أن يؤكد لنا مندوب جنوب أفريقيا أن هذه السياسة الجائرة لا تسير عليها حكومته الحاضرة.

مندوبة الهند: إن الوفد الهندي لا يشكو من سياسة اتبعت في الماضي ولا وجود لها اليوم، وإنما يشكو من سياسة موجودة في الحاضر تذهب جذورها في أعماق الماضي. وفي استطاعتنا أن نأتي بألف شاهد وشاهد على أن هذه السياسة الظالمة تمارس إلى اليوم في بلاد اتحاد جنوب أفريقيا.

مندوب كولمبيا: أرى أنه ليس أمام مندوب اتحاد جنوب أفريقيا إلا أحد سبيلين: إما أن يعترف بهذه الحالة المؤلمة أو ينكرها!

م. ج. أفريقيا: إنني اعتبر هذا تدخلاً من المجلس في الشؤون الداخلية لحكومة مستقلة ذات سيادة لها أن تسن من القوانين ما يكفل لها سلامتها ورفاهية أهلها طبقاً لمقتضى الظروف والأحوال، وإني بما لي من التجارب الطويلة أحذركم أيها السادة أن تفتحوا هذه الباب الخطير الذي سيؤدي بكم في النهاية إلى إثارة مشكلات لا حصر لها قد تكون الشرارات الأولى لايقاد نيران حرب ثالثة!

مندوب سوريا: هذا منطق معكوس! فقد نص ميثاق هيئة الأمم المتحدة على تحريم الاضطهاد العنصري والتفريق بين الأجناس. وعلى ذلك فكل حكومة تحترم نفسها وتأبى أن تتدخل الهيئة في شؤونها الداخلية، عليها أن تحترم نصوص الميثاق. وتربأ بنفسها عن أن توصم بمثل ما نسمعه الآن.

المندوب الروسي: إنني أؤيد ما قاله مندوب سوريا وأضيف إلى ذلك أن هيئة الأمم المتحدة ليست بحاجة إلى نصائح مندوب جنوب أفريقيا، فلسنا من البلاهة والغفلة بحيث نتقبل نصائح متهم لم تعظه تجاربه الطويلة كما يزعم، ولم يستفد منها هو نفسه فأحرى أن لا يستفيد منها غيره إنه يحذرنا من الشرارات الأولى لإيقاد نار حرب بثالثة فعليه أن يعلم أن السياسة الجائرة التي تسير عليها حكومة بلاده في معاملة رعاياها من الهنود هي من تلك الشرارات وإني أقولها كلمة صريحة في هذا المجلس الموقر: إن مندوب جنوب أفريقيا إذا كان لا يعلم هذه الحقيقية فلا يستحق أن يمثل حكومته بيننا وإذا كانت دولته تجهل هذه الحقيقة فإنها لا تستحق نعمة الاستقلال التي تمتع بها بل أن تطالب بضم جنوب غرب أفريقيا إليها!

م.ج. أفريقيا: هذه نغمة لا تستسيغها الدول الديمقراطية. وإن المندوب السوفياتي ليعلم أن لنا نحن الديمقراطيين نظماً تختلف عن نظم دولته وقد تواضعنا على أن يحترم كل منا نظام الآخر. وعلى هذا الأساس تعاونا في الحرب الأخيرة وهزمنا الطغيان النازي وأنقذنا الحضارة الإنسانية.

المندوب الروسي: ما كنت أعلم قبل اليوم أن الديمقراطية تسوغ مثل هذا الاضطهاد العنصري الذي يمارس في بلاد اتحاد جنوب أفريقيا الديمقراطية!

مندوب الولايات المتحدة: إنني باسم الديمقراطية أحتج على هذا الاتهام.

المندوب الروسي: إنني لا أتهم، وإنما أستنتج مما قاله مندوب حكومة جنوب أفريقيا الديمقراطية!

مندوب الولايات المتحدة: هذا استنتاج باطل فالديمقراطية لا تسوغ الاضطهاد العنصري.

المندوب الروسي: فلأستنتج إذن من هاتين المقدمتين أن حكومة جنوب أفريقيا ليست ديمقراطية كما يزعم مندوبها.

المندوب البريطاني: إنني أحتج على هذا أيضاً، فحكومة اتحاد جنوب أفريقيا ديمقراطية لحماً ودماً. وإذا أخذ عليها بعض تصرفاتها نحو رعاياها الهنود فهذا موضع الشكوى، والمجلس ينظر في هذه الشكوى الآن. ولا يصح بحال من الأحوال -مهما ثبتت هذه الشكوى- أن يخرجها ذلك من دائرة الدول الديمقراطية.

مندوبة الهند: إن موضوع الشكوى ثابت بإقرار مندوب الدولة المشكو منها، ولا يستطيع أبداً أن ينكرها، ولا شك أن هذا التصرف منها يخالف المبادئ الديمقراطية.

مندوب الولايات المتحدة: لا جدال في هذه الحقيقة. إن حكومة اتحاد جنوب أفريقيا قد أخلت بمبدأ من مبادئ الديمقراطية، والديمقراطية ليست مسئولة عن هذا الإخلال.

م.ج. أفريقيا: كلنا يعتقد –بالطبع- أن الولايات المتحدة دولة ديمقراطية، ومع ذلك فإن الزنوج من رعاياها يضطهدون في بلادها فهل لهيئة الأمم المتحدة أن تتدخل في الشؤون الداخلية للولايات المتحدة؟

مندوب الولايات المتحدة: إنني أحتج على هذه المقارنة الباطلة، ففرق كبير بين حكومة تسن القوانين للاضطهاد العنصري والتفريق بين الأجناس، وحكومة سبقت حكومات العالم في سن قوانين الحرية والمساواة بين جميع رعاياها على اختلاف أجناسهم وهي جادة في اجتثاث جذور هذا الشعور العنصري الذي تخلف في بعض رعاياها البيض ضد رعاياها السود بمختلف الوسائل الحكيمة.

م.ج. أفريقيا: ما دامت النتيجة واحدة -وهي حصول التمييز بين العناصر- فالمقارنة صحيحة.

مندوب الولايات المتحدة: ولكن المسئولية مختلفة ففي حالة اضطهاد الهنود في جنوب أفريقيا تكون المسئولية على الحكومة التي سنت تلك القوانين الجائرة فهي مسئولة أمام هيئة الأمم المتحدة. أما في حالة اضطهاد الزنوج في بلادنا فالمسئولية على بعض رعايانا البيض الذين لا يزالون يحملون هذا الداء ويخالفون بذلك قوانين حكومتهم، وهم مسئولون أمام حكومتهم لا أمام هيئة الأمم المتحدة.

م.ج. أفريقيا: يؤسفني أن يفهم مني مندوب الولايات المتحدة أنني ألوم حكومته على ما يحدث في بلادها من التفريق بين البيض والسود. والواقع أنني إنما أردت أن أبين للمجلس أن مهمة الرجل الأبيض شاقة جداً حين تجنح به مثله العليا إلى التسامي عن حقائق الحياة الواقعة! فهو وإن كان يؤمن بالمساواة إلا أن الحقيقة الواقعة تعترض سبيله إليها. وهذا الصراع_ بين واقع الحياة والمثل العليا التي يسعى لتحقيقها الرجل الأبيض- عام في كل بلد يوجد فيه الرجل الأبيض مع غيره من الشعوب الملونة.

مندوب مصر: يعز علي -أيها السادة- أن تسمع في قاعة هذا المجلس الموقر تلك النغمة البغيضة، نغمة الرجل الأبيض والشعوب الملونة، وما أنشئ هذا المجلس إلا للقضاء على مثل هذه النعرات وإذا كان لشعب من الشعوب أن يفخر بماضيه المجيد في بناء القواعد الأولى للحضارة الإنسانية وما انبثق عنها من المثل العليا التي دانت ولا تزال تدين بها البشرية إلى يومنا هذا، فذلك الشعب هو غير الشعب الأبيض الذي يعنيه مندوب اتحاد جنوب أفريقيا على كل حال.

مندوبة الهند: لو شاء مندوب مصر لقال إن أولئك الذين حملوا مشاعل الحضارة الأولى هم سكان وادي النيل دون أن ينازعه في ذلك أحد. ولو شاء مندوب الصين لقال إنهم أبناء الصين الحكماء، ولو شئت لقلت إنهم جيران السند والكنج. أما ما يشير إليه مندوب جنوب أفريقيا من الصراع لدى الرجل الأبيض بين واقع  الحياة وبين مثله العليا، فالحق إن الصراع موجود، ولكنه صراع بين روح الاستعمار الذي يحتكره اليوم هذا الرجل الأبيض وبين روح السخط الذي ألهبه الظلم الأبيض في صدور الشعوب التي يسميها ملونة. فهو يداري هذا السخط بمثل عليا يدجل بها تدجيلاً ليخدر بها تلك الشعوب. وهذا هو ما يسميه مندوب جنوب أفريقيا بمهمة الرجل الأبيض وأكرم بها من مهمة! أجل إنها مهمة الرجل الأبيض في الهند، وفي إندونيسيا، وفي الهند الصينية، في وادي النيل، وفي فلسطين وفي ليبيا، وشمال أفريقيا، إنها والله لمهمة شاقة جداً كما وصفها مندوب جنوب أفريقيا.

مندوب الصين: إنني أنذر هذا الجنس الذي لقب نفسه بالجنس الأبيض بأنه إذا لم يتعظ بهذه الحروب التي أثارها جشعه وبغيه وظلمه، فيكف عن سياسة الاستعمار في جميع صوره وبمختلف أسمائه من حماية وانتداب ووصاية، فستحل به نكبة لا قيام له بعدها، إما أن يأكل بعضه بعضاً ويلقى ذاك المصير على أيدي هذه الشعوب التي يدعوها ملونة. وقد كان يخشى مما يسميه (الخطر الأصفر) فليعلم أن هذا الخطر الأصفر ما يزال موجوداً إلى اليوم إن ما يفكر به هذا المندوب الأفريقي وزميله شرشل من محاولة توحيد أوربا -لا لحفظ السلام فيها، بل ليتسنى لها الاحتفاظ بسيطرتها وبغيها على شعوب الشرق- لن يعصمها من النكبة التي أشرت إليها إن عاجلاً أو آجلاً وقد استيقظت شعوب الشرق أجمع، ولم يبق فيها من ينخدع بهذه المثل والمبادئ التي يدجل بها سماسرة الاستعمار في الغرب!

مندوب الولايات المتحدة: إن الكلمة التي فاه بها مندوب جنوب أفريقيا كانت غير موفقة وما أدرى كيف لم تمنعه حنكته السياسية من إلقائها في حرم هذا المجلس الذي أنشئ لإقرار السلام بين شعوب الأرض.

مندوبة الهند: أما أنا فقد سرني أنه ألقاها في هذا المجلس فكشف بذلك القناع عن العقلية إلى يمثلها ويمثلها معه كثير من سماسرة الاستعمار في الغرب. وإن الوفد الهندي لا يشكو من كلمة يقولها ممثل جنوب أفريقيا في هذا المجلس، بل من تصرفات جائرة تمارسها حكومته ضد إخواننا الهنود في بلاده، مع أنهم أقدم فيها من غيرهم من العناصر الأجنبية التي استوطنت ذلك الجزء من أفريقيا، فكان من سوء حظهم أن حرموا من الحقوق، لا لشيء إلا لأنهم ليسوا من الجنس الأبيض الذي يتبجح به مندوب جنوب أفريقيا.

م.ج. أفريقيا: أيها السادة إنني لا أريد أن أجشم نفسي عناء الرد على هذه المندوبة الهندية فيما قالت عنا ولكني مصر على القول بأن هذه المسألة ليست من اختصاص هذا المجلس، وأطالب بإحالتها على محكمة العدل الدولية.

رئيس المجلس: تذكرون أيها السادة أن الآراء قد اختلفت في قول هذا الاقتراح أو رفضه، فإن شئتم أجرينا اقتراعاً عليه.

م.ج. أفريقيا: فليجر الاقتراع.

مندوبة الهند: أيها السادة، إن مندوب جنوب أفريقيا ما اقترح هذا إلا تخلصاً من قبضة الحق، ليجد في نقل القضية إلى محكمة العدل وفي تأجيلها متنفساً له. والحق لا يحتمل التأجيل والتسويف.

م.ج. أفريقيا: إن المندوبة الهندية تدعى أن الحق معها، ومع ذلك تخشى الاقتراع.

مندوبة الهند: إن كان لا بد من الاقتراع فليكن ترجيح الاقتراح بأغلبية ثلثي الأعضاء.

م.ج. أفريقيا: كلا بل تكفى لترجيحه الأغلبية المطلقة. ها أنتم أيها السادة ترون المندوبة الهندية تخشى أن يفوز الاقتراح بالأغلبية المطلقة، وهذا دليل على أنها غير مطمئنة إلى عدالة قضيتها.

مندوبة الهند: كلا، هذا غير صحيح. أما الواقع فهو أن صاحب الباطل لا يخشى على باطله كما يخشى صاحب الحق على حقه.

رئيس المجلس: حيث أنه قد ثبت لدينا أن القضية من اختصاص المجلس فالاقتراح الذي يرمى إلى إحالتها إلى محكمة العدل الدولية غير طبيعي، ولذلك فمن العدل أن لا يكون ترجيح هذا الاقتراح إلا بأغلبية ثلثي الأعضاء.

يجرى الاقتراع. وما كان أشد دهشة الجميع إذا انهزم الاقتراح بأغلبية كثيرة. وحينئذ رفعت الجلسة، وأخذ كثير من مندوبي الدول يهنئون مندوبة الهند بنجاحها الباهر.

-3-

في أحد أروقة المجلس: مندوبو الدول منتشرون هنا وهناك يحادث بعضهم بعضاً. وهذه مندوبة تتحدث إلى مندوب الصين في ركن من أركان الرواق.

مندوب الصين: أكرر لك التهنئة يا سيدتي، فقد هزمت الرجل شر هزيمة.

مندوبة الهند: شكر لك يا سيدي ولكنه لا يزال يختال هناك انظر إليه ألا تراه ثاني عنقه كأنما خرج منتصراً من معركة حاسمة!

مندوب الصين: إنه يصطنع هذا الشموخ وعدم الاكتراث، ليستر ما مني به من الهزيمة، وما شعر به من تضاؤل قدره في عيون الجميع.

مندوبة الهند: لا أكتمك أني ما شفيت نفسي بعد من هذا الاستعماري العنيد!

مندوب الصين: ماذا في وسعك أن تصنعي به بعد أن ألحقت به هذه الهزيمة الماحقة؟

مندوبة الهند: لقد دبرت له مكيدة ستجعله سخرية في عيون مندوبي دول العالم؟

مندوب الصين: ليت شعري ماذا صنعت يا سيدتي؟

مندوبة الهند: أتعرف المسيو (جندوالا) مندوب (كادو كيدا)؟

مندوب الصين: ذلك الشخص العجيب الغريب الأطوار؟

مندوبة الهند: نعم هو ذاك.

مندوب الصين: يبدو لي أن به شيئاً من الجنون.

مندوبة الهند: كلا ليس بمجنون وإنما بعقله شيء من الخفة.

مندوب الصين: ولكن ما شأن هذا الشخص بالمكيدة  التي أشرت إليها.

مندوبة الهند: سترى الآن.... انظر يا سيدي.. ها هو ذاك قد أقبل من المقصف.

مندوب الصين: يظهر لي أنه ثمل. ألا ترينه يترنح في مشيته؟ عجباً! إنه وقف ليصافح خصمك المهزوم.

مندوبة الهند: أرقبهما جيداً، فستبدأ الرواية الهزلية الآن!

-4-

في ركن آخر من الرواق يتحدث مندوب جنوب أفريقيا إلى مندوب كادو كيدا وهما واقفان.

مندوب كادو كيدا: هون عليك يا سيدي، لا تحزن ولا تبتئس، فلكل مشكلة حل ولكل ضيق فرج.

م.ج. أفريقيا: لقد تظاهر الجميع ضدي، ولكن لا بأس يا سيدي، إنها ليست هزيمتي، وإنما هي هزيمة الرجل الأبيض!

م. كادو كيدا: احذر أن تحقد علي، فإني وقفت على الحياد فلم أصوت لا معك ولا ضدك، إنني أحب الوقوف على الحياد دائماً.

م.ج. أفريقيا: وما منعك أن تقترع في صالحي؟.

م. كادو كيدا: قلت لك إنني أحب الحياد يا سيدي جندر.

(يدور مندوب أفريقيا على عقبيه في حركة عسكرية)

م. كادوا كيدا: أعوذ بالله! ما هذا؟ (يتقهقر والخوف باد في عينيه)

م.ج. أفريقيا: ماذا حدث؟ مالي أراك تتقهقر عني وتنظر إلي هكذا؟ ماذا تظنني؟

م. كادو كيدا: لا شيء.. لا شيء ابتعد عني! دعني امض لشأني!

م. ج. أفريقيا: (يأخذ بتلابيبه) كلا.. لا أدعك تذهب، هذا سوء أدب منك أن تقطع الحديث معي على هذه الصورة.. لو كنت ملونا لعذرتك، ولكنك أبيض مع الأسف.

م. كاو كيدا: (يصيح) أيها الناس خلصوني من هذا المجنون!

م.ج. أفريقيا: مجنون! أأنا مجنون يا وقح؟

م. كادو كيدا: لا ريب في ذلك أدعوك باسمك فتدور لي على عقبيك كأنما نحن في ميدان استعراض عسكري! يظهر لي أن الدولة التي بعثتك مندوباً عنها لا تفهم أن هذا مجلس أمن وسلام، لا مجال حرب وخصام!

(يتجمع مندوبو الدول حولهما ليروا ما يحدث)

المندوب البريطاني: ما بالكما تتشاجران؟

م. أفريقيا: إن هذا كان يحادثني فقطع حديثه معي فجأة وبصورة وقحة فماذا يظنني هذا الأبله؟

م. كادو كيدا: ماذا أصنع بالحديث معه إذا كان يدور على عقبيه كلما دعوته باسمه؟

م. ج. أفريقيا: هذا كذب محض. فهو لم يدعني باسمي كما زعم، وإنما قال لي: (خلفا در) فدرت.

م. كادو كيدا: عجباً.. أليس هذا اسمك؟

م.ج. أفريقيا: من قال لك إن هذا هو اسمي؟

م. كادو كيدا: هكذا سمعت هنا.

م. ج. أفريقيا: ممن سمعت هذا؟

م. كادو كيدا: لا أدري على التحديد ممن.. من كل من لقيته هنا.. فما اسمك إذن؟

م.ج. أفريقيا: ويلك أتجهل اسمي؟ لا يوحد أحد في الدنيا يجهل اسمي.

م. كادو كيدا: ما أعرف لك اسماً غير هذا خلفاً در.  

(يهم م. ج. أفريقيا أن يدور، ولكن المندوب البريطاني يمسك بكتفيه ويمنعه من الدوران)

م. كادو كيدا: أرأيتم الآن بعيونكم أيها السادة كيف أراد أن يدور لما دعوته باسمه؟

(يضحك المندوبون جميعاً)

م.ج. أفريقيا: قد قلت لك إن هذا ليس باسمي

م. كادو كيدا: فقل لي ما اسمك إذن؟

م.ج. أفريقيا: لا أحد يجهلني يا غبي! أنا شيخ الإمبراطورية البريطانية! أنا مستشارها الأكبر لا يقضى لها أمر دوني! (يلتفت إلى المندوب البريطاني) أليس كذلك يا مستر ويركر؟

المندوب البريطاني: ليس في ذلك شك.. إن ما قلته صحيح يا مسيو جندوالا.

م. كادو كيدا: ليكن هذا صحيحاً، فهل يمنع هذا أن يكون اسمه خلفادر، أليست لكم أسماء غريبة مثل بلاك دوج وهادلستون وسمطس وتشرشل؟ فلماذا يستنكف هذا الشخص من حمل اسمه الحقيقي؟ إن اسمه على كل حال لأقل شناعة من هذه الأسماء التي ذكرتها!

المندوب البريطاني: ولكن هذا ليس باسمه، فما الذي يجعلك تصر على أنه اسمه؟

م. كادو كيدا: فلماذا يدور على عقبيه إذا دعي به؟

المندوب البريطاني: كأنك يا مسيو جندوالا لا تعرف معنى هذا اللفظ.

م. كادو كيدا: كلا لا أعرف معنى شرشل أو سمطس أو هادلتسون. أيجب علي أن أفهم معاني هذه الأسماء السمجة كلها؟

المندوب البريطاني: لا لا يضرك أن تجهل معاني هذه الأسماء بالطبع، ولكن يجب عليك أن تفهم معنى خلفادر.

م. كادو كيدا: عجباً. ماذا يهمني أنا إن أعرف معنى هذا اللفظ؟ حسبي أن أعرف أنه علم أو لقب لهذا الشخص.

م.ج. أفريقيا: أسمعت كيف يسخر بي هذا المندوب الحقير!

المندوب البريطاني: للمسيو _جندوالا) كلا ليس علماً ولا لقباً له. ولكن معنى هذا اللفظ أمر بالدوران إلى الخلف.

م. كادو كيدا: ها. فهمت الآن السر في دورانه. ولكن لماذا يدور تبعاً لأمري؟ هل قال له أحد إنني مدربه العسكري أو قائد صفه؟

م.ج. أفريقيا: أرأيت يا مستر ويركر إلى وقاحة هذا الرجل؟

المندوب البريطاني: (يهدئه) لا تغضب... سأشرح للمسيو جندوالا المسألة. (للمسيو جندوالا) إن المندوب المحترم قد ربي تربية عسكرية صارمة، فهو لذلك لا يستطيع أن يسمع هذه الكلمة دون أن يدور خضوعاً للأمر بحكم العادة.. أفهمت الآن يا مسيو جندوالا؟

م. كادو كيدا: هذا شيء عجيب!

م.ج. أفريقيا: بالطبع أنا شيء عجيب أنني لست رجلاً عادياً.. إنني رجل عبقري اشرح له معنى العبقرية يا مستر ويركر.

م. كادو كيدا: لست بحاجة إلى من يشرح معناها لي. الآن أدركت صحة ما يقال إن العبقرية والجنون ليس بينهما فارق كبير!

المندوب البريطاني: كلا يا مسيو جندوالا.. هذه عبقرية عاقلة. عبقرية في السياسة وفي الفلسفة.. إنك الآن أمام فيلسوف كبير!

م. كادو كيدا: إن يكن هذا فيلسوفاً فلا بد أنه من أولئك الفلاسفة ال... اوه... نسيت اسمهم الآن.. الفلاسفة الـ.. إن اسمهم على طرف لساني لقد قرأت عنهم كثيراً في المدرسة ولكن غاب عني اسمهم الآن.. ألا تذكره أنت يا مسيو ويركر؟

المندوب البريطاني: لا أدري أي الفلاسفة تعني؟

م. كادو كيدا: أولئك الذين ظهروا قبل سقراط.

المندوب البريطاني: ظهر قبل سقراط فلاسفة كثيرون فأيهم تعني؟

م. كادو كيدا: أولئك الذين يتجرون بالحكمة ويموهون الحقائق و..

المندوب البريطاني: ها:: لعلك تعني السوفسطائيين.

م. كادو كيدا: بورك فيك! لقد ذكرتني باسمهم.. أجل، هم السوفسطائيون.. السوفسطائيون.. السوفسطائيون.. لن أنساهم أبداً بعد ما رأيت بعيني واحداً منهم اليوم.

م. ج. أفريقيا: (مغضباً) أتعين هذه السفيه على مستر ويركر؟

المندوب البريطاني: معاذ الله أن أعينه عليك.

م. ج. أفريقيا: ألم تذكر له اسم السوفسطائيين؟ أسوفسطائي أنا؟

المندوب البريطاني: عفواً أنا لم أقل قط إنك سوفسطائي.

م. كادو كيدا: أما أنا فلاشك عندي أن هذا منهم، يظهر لي أن مؤرخي الفلسفة كانوا مخطئين حين زعموا أن سقراط قد قضى عليهم جميعاً! إلى اللقاء يا مستر ويركر.. إنني أخشى العدوى! (ينصرف)

م. ج. أفريقيا: كيف تركته يفلت من يدي؟ كان علينا أن نحطم له ضلوعه!

المندوب البريطاني: (يتنحى به بعيداً عن المندوبين الذين يغالبون الضحك) كلا هذا لا يسوغ فعله هنا. ماذا يقول الناس عنك يا سيدي إن فعلت ذلك؟

م. ج. أفريقيا: هل بقي لي ما أخاف عليه بعد هذه الهزيمة التي أوقعتموها بي الليلة؟ وأمام من؟ أمام تلك المندوبة الملونة!

المندوب البريطاني: هون عليك سيعود إليك اعتبارك.

م. ج. أفريقيا: كلا.. لا سبيل إلى ذلك لقد قضي الأمر.

المندوب البريطاني: بل السبيل ممهد أمامنا.. سنزور إحدى البلاد الصديقة ونقيم لك فيها دعاية عريضة.

م. ج. أفريقيا: ماذا أصنع في تلك البلاد؟

المندوب البريطاني: ستخطب في برلمانها فيدوي اسمك في العالم!

م. ج. أفريقيا: وسيعرف مندوب كادو كيدا ذلك الأبله حينئذ من أنا!

(ستار)

          

* جريدة (الإخوان المسلمون)  المصرية  بتاريخ :  28 / 12 / 1946