حوار مع الكاتب الناصر التومي

حوار مع الكاتب الناصر التومي

ما أكتبه شهادة على العصر

حاورته : هيام الفرشيشي – تونس

[email protected]

يعد الناصر التومي القاص والروائي من الأعضاء البارزين في " نادي القصة بالوردية " . عرف بتشدده في إبداء الملاحظات النقدية حفاظا على مصداقية الكلمة  . كتب الرواية والقصة القصيرة والمسرحية ، و اختير كمستشار أدبي لمنوعة أدبية درامية بثتها التلفزة التونسية في شهر رمضان هذه السنة ، التقيته في هذه المصافحة الحوارية للتحدث عن أعماله التي نشرها وهي متعددة ، وقد تميزت إجاباته بالجدية والوضوح ..

تفاجأ المتفرج التونسي خلال شهر رمضان هذه السنة بمنوعة أدبية درامية على قناة تونس 7 ، ماهي التوجهات العامة التي انطلق منها هذا العمل  وأنت المستشار الأدبي لهذه المنوعة ؟

فعلا تفاجأ المتفرج التونسي خلال كامل ليالي شهر رمضان، بمنوعة أدبية درامية، تبث على القناة التونسية 7 من إنتاج الأستاذ محمد بن محمود، وإخراج عبد القادر الجربي، وكنت المستشار الأدبي للمنوعة، في اختيار الروايات التي تم تحويل جزء منها إلى عمل درامي، وقمت بإعداد السير الذاتية للكتاب أصحاب الروايات. وقد وجدنا بعض الصعوبات في الاختيار، نظرا أنه كان يفصلنا عن شهر رمضان شهران لا غير، ولا بد أن يقع تصوير كافة المشاهد المشار إليها قبل حلول هذا الشهر.

وقد قام المنتج و المخرج، بعمل جبار، خلال هذه المدة القصيرة، من، اختيار موفق لمدة ثلاث دقائق من الحوار المتوفر بالرواية، على أن يكون سهل التصوير من حيث الأمكنة، والابتعاد عن السياسة والجنس، والدين، والعجائبية، والغرائبية، باختصار أن تكون المشاهد قريبة من تطلعات الجمهور التونسي وخصوصيته. واستوجب وقتا لاختيار الممثلين، والمفاجأة باعتذار البعض في آخر وقت، وتعويضهم. كان الفريق يعمل ضد الساعة بحق ..

أظهرت هذه المنوعة أن الممثل التونسي قادر على التمثيل باللغة العربية، لا كما يسوّق البعض بعجزهم عن ذلك، كما أن الجمهور شد إلى هذه الحكايات، التي هي من إعداد أدباء، ولم يجد لا المخرج ولا الممثلين عائقا في تقديمها دراميا كما يحاول عديد المخرجين باستمرار الإشارة إلى عجز الأدباء على الكتابة الركحية والدرامية .هذا وساهمت هذه المنوعة في التعريف بالروايات التي منها أخذت المشاهد المصورة، وكذلك كتابها بعرض سيرهم الذاتية . ولعل هذه التجربة يمكن أن تهدي تلفزتنا إلى تحويل بعض رواياتنا إلى أفلام قصيرة وطويلة أو مسلسلات، كما نرجو من وزارة الثقافة أن تفرض على بعض المخرجين الذين يحصلون على الدعم المالي أن يحوّلوا أعمالنا الأدبية إلى أفلام، تعرض في قاعات السينما وعلى شاشة تلفزتنا يمكن أن تشاهدها العائلة التونسية، لا كما هو الحال الآن حيث يحصل المخرجون على الدعم المالي من وراء البحر ليخرجوا لنا أفلاما لا تمت إلى قيمنا ومبادئنا وخصوصية مجتمعنا بصلة، لا يشاهدها إلا أصحاب العقد والشواذ .

آخر رواية صدرت لك هي " رجل الأعاصير " و فقد عالجت  من خلال شخصية مخرج درس تقنيات الصورة المرئية خارج الوطن ، أنموذجا للفنان الذي يريد أن يقدم الصورة التلفزية وتفاصيلها بإدراكه الفني والذي يضفي على الصورة معنى ما ، ولكن من خلال اختيار ذلك المخرج ليصبح مصور الرئيس بورقيبة ، فقد دخلت الشخصية في صراع بين الصورة كعمل فني والصورة كخطاب سياسي موجه ، فلا يتقاطع الفني مع السياسي في شيء لأن التصوير الفكري للصورة مختلف الدلالة عن القصد السياسي . فهل الغاية من هذه الشخصية التشبث بالفن كقيمة إبداعية بعيدا عن الإملاءات ؟

ولما قررت السلطة بتونس بعث قناة تلفزية تونسية في الستينات من القرن الفائت اتصلوا به، ورغم أنه لم يجد موافقة من عديد المقربين منه لمعرفتهم مسبقا بصعوبة تأقلمه مع توجهات دولة فتية، لا تحكمها مبادئ عامة، بل يسيرها حاكم فرد حسب أهوائه، لكنه قبل التحدي، متمنيا تقديم خدمة إلى وطنه، مثلما فعل والده سنوات نضاله. ولم تمر بعض السنوات حتى اصطدم بما حذر منه، فإذا به يطلب منه إعداد برامج وأشرطة وثائقية برؤية خاصة لا تمت إلى الواقع بصلة، بل تتماشى فقط وسياسة الحكم الفردي المطلق المبني على وجوب تقديس اختياراته حتى ولو كانت خاطئة، ومعلومة من قبل أغلبية الشعب. ولما أظهر تعنته جوبه بالإهمال ثم الإقصاء، ولما غير وجهته للعمل مع مخرجيين عالميين في أفلام تصور ببلادنا وبعض دول شمال إفريقيا، انتقدهم لأنهم يصورون الشعوب الإفريقية والعربية على أنهم همج وجوعى، ويغيرون من الوقائع التاريخية التي جدت بها. ولما أراد أن إنتاج أفلام قصيرة عن ـ الغريبة ـ محج اليهود بجزيرة ـ جربة ـ قوبل بصد من وزارة الثقافة وتهديد من اللوبي الصهيوني، والمتطرفين الإسلاميين، والشيوعيين، ومضايقة من السلطة، لانتقاداته لهم جميعا في مناسبات عدة .

أردت من خلال هذه الشخصية، إبراز أنموذج للمثقف الذي يتشبث بمبادئ تتفق مع اختيارات الشعوب، ولكنها لا ترضي الحكام لأنها تضعهم في قفص الاتهام. كما حاولت التطرق إلى ما جد فعلا من فتنة أصابت الإخوة الأعداء من بورقيبيين ويوسفيين، كانوا يناضلون المستعمر جنبا إلى جنب، كما تطرقت إلى سلوكات بعض المسؤولين الذين حسبوا أن القانون لا يطالهم، فعبثوا بالمكتسبات العامة وأعراض الناس .

تندرج هذه الرواية ضمن رؤيتي للعمل الروائي بأن يكون ترجمانا لتاريخنا، وواقعنا ووقائعنا، أن يكون متجذرا في هذه التربة، ناقدا لاختيارات فرضت عليها فلم تقنع العامة، مأتاها مصالح خاصة ونرجسية ..

بعد كتابة القصة والرواية  اتجهت حاليا إلى كتابة المسرحية ، حيث نشرت مؤخرا مسرحية "خسوف" ، ومسرحية " قرطاجيات " التي تعد إعادة كتابة لمجموعتك القصصية " نساء من زمن الأسطورة" ، كيف تفسر شغفك بالفن المسرحي ؟

شغفت في أواخر الستينات وعشرية السبعينات بالمسرح، بالاطلاع على النصوص والدراسات المسرحية العالمية، وحضور العروض المسرحية، وخاصة لفرقة بلدية تونس، وفرقة الكاف، إضافة لما يعرض في أسبوع المسرح من أعمال الفرق الهاوية، مما حدا بي سنوات السبعينات إلى كتابة بعض النصوص المسرحية مثل ـ الخسوف ـ التي صدرت سنة 2008 وعليسا ـ التي ستصدر خلال هذا الموسم الثقافي 2009ـ_2010 ولأسباب يطول شرحها لم تعرض رغم تقديمها إلى أكثر من مخرج مسرحي، وفي سنوات التسعينات كتبت مسرحية ـ قرطاجيات ـ صدرت في كتاب في أوائل سنة 2009 ..

تتمحور مسرحية ـ الخسوف ـ حول منهج السلطة المطلقة للحاكم، وكيف تدار الأمور دون معيار العدالة وميزان الحق، وقد استمدت موضوعها من خرافة قديمة، يرجعها البعض إلى الحكايات الهندية .

مسرحية ـ قرطاجيات ـ والتي يمكن استغلالها كأوبيرات تسرد قصة قرطاج من البداية إلى النهاية من خلال أبرز نسائها، عليسة، صلامبو ، صوفنيبة الجميلة، زوجة صدربعل، والقديسة بربتوة في مراوحة بين المشاهد لدور التاريخ، والشاعر فرجيل، والقديس أوغستين، مبرزا في الآن نفسه ما قامت به المرأة من بطولات وتضحيات فاقت حتى عزائم الرجال الأشاوس، ولعل ما يتوفر لدى المرأة من شحنة أنثوية، عاطفة زوجية، وأمومة، والخوف من انهيار صرح قرطاج، وما ينجر عنه من سبي وعار، ما جعلها تتقد نشاطا، وينعكس ذلك على من حولها من الرجال، فتدفعهم إلى الصمود رغم كل الصعوبات، ولعلها فاقت بعض الرجال في عدم قبولها للهزيمة والسبي والعار، فضحت بنفسها مثل عليسة وصوفنيبة .

مسرحية عليسة، التي هي تحت الطبع فقد اخترت لها مسارا فرجيليا، حسبما جاء ذكرها في ملحمة الشاعر الروماني فرجيل ـ الإنياذة ـ والتي اصطبغت بالخيال المجنح، حيث جمع الشاعر بين سقوط طروادة وبداية تأسيس قرطاج، ليلتقي الأمير أنياس الطروادي الشريد بعليسة الهاربة من وطنها صور إلى الساحل الإفريقي، ليعيشا قصة حب انتهت برحيل أنياس لبناء دولة بإيطاليا حسب تعاليم آلهة الأولمب، وانتحار عليسة لما عجزت عن إبقاء أنياس بقربها وخوفا من شماتة أفراد شعبها ومن القبائل البربرية ، بعد أن رفضت الزواج من ملك لوبيا أيارباس .

ولقد اخترت قصة فرجيل على ما جاء في التاريخ الذي كتبه الرومان، لما شحنت به من عواطف جياشة، ومبررات،أرضية وسماوية، لكل تصرف، لتجنبا ما جاء به التاريخ الروماني الذي كتب بعقلية السلطة الغالبة التي تسخر حتى كتابة التاريخ لصالحها. وقد وجدتني أتعاطف مع الشاعر فرجيل الفنان، على المؤرخين الذين يكتبون التاريخ، برؤية سلطوية الأمبراطورية المنتصرة .

وقد أردت من وراء نشر هذه المسرحيات التي لم تجد لها مكانا على الركح أن يطلع عليها القراء وأغلب المسرحيين، للوقوف على حقيقة ما ساهم فيه بعض المخرجين من إقصاء للنص المسرحي الذي يكتبه الأديب، ووقوفهم عند نصوص هجينة يكتبها المخرجون وأشباههم، أو الاعتماد على النص الجماعي، أو نص ـ الوان مانشوـ وكلها تقليعات المراد منها إبعاد النصوص المركزة، على خلفيات تاريخية، وفكرية عميقة والتي لا يقدرون على كتابتها، واستبدالها بنصوص هجينة كما أسلفنا، ووضعها في خانة التجريب، أو مسرح النخبة، مما حدا بالجمهور العريض للمسرح التقليدي إلى هجر المسارح، إما لعدم الفهم، أو لتهريج يسود الركح، أو عدم استطاعة العائلة التونسية الفرجة على مسرحية مجتمعة، للإشارات والتلميحات وحتى العبارات المباشرة الغير مهذبة الخارجة عن أخلاقياتنا، والمستفزة لمشاعر مجتمعنا المحافظ، إضافة لذلك العمل على تكريس المنفعة الخاصة للمخرجين حتى لا يشاركهم الكاتب في الإشعاع والمردود المالي .

والدليل على ما أقول هو عدم عرض أغلب هذه النصوص على شاشة التلفزة التونسية، لأنها لا تستجيب لأخلاقيات العائلة التونسية والتي هي خارجة عن اهتمامات مخرجينا مع الأسف، بما أنهم يحصلون على الدعم من وزارة الثقافة أحبت أم كرهت، دون تقييم هذه النصوص بميزان خصوصية مجتمعنا العربي المسلم .

لم انقطعت عن كتابة القصة القصيرة واتجهت إلى كتابة الرواية، فالمسرحية  ؟

كانت بداياتي مع القصة القصيرة لكني وفي نفس عشرية السبعينات التي برزت فيها ، حاولت كتابة الرواية ، فكانت " ليالي القمر والرماد " التي فازت بجائزة بلدية تونس سنة 1979 ، أي قبل صدور حتى مجموعتي القصصية الأولى " كل شيء يشهق " سنة 1982 ، ورغم مواصلتي لكتابة القصة القصيرة والتي بلغت خمس مجموعات ، فإن الرواية كانت دوما حاضرة لدي سواء كانت كتابة أو هاجسا ملحا ، مفرزا أربع روايات تحصلت ثلاث منها على جوائز . وشيئا فشيئا أحسست أن دافع كتابة القصة القصيرة  بدأ يفتر لدي ليحل مكانه هاجس كتابة الرواية ، ويأخذ حيزا كبيرا من تفكيري . فهيمنت شخوصها وأحداثها على ملكة الإبداع لدي مبعدة ومقصية دافع كتابة القصة القصيرة دون إرادة مني . وأن إصداري لآخر مجموعة قصصية " حدث ذات ليلة " كان القصد نشر ما تبقى لدي من قصص لم تصدر ضمن المجموعات الأربع الأولى حتى أتفرغ لكتابة الرواية التي ملكت علي ملكتي الإبداعية .

ولعل السبب أن جنس القصة القصيرة وما يتخلله من ضوابط وتحديدات كنت دوما متمردا عليها في قصصي القصيرة ، وتوقي إلى حرية أكثر في التعامل مع القص سواء من خلال تعدد الأحداث والشخوص والأمكنة والأزمنة جعلني أنجذب إلى عالم الرواية الرحب المتسع لكل المضامين والأشكال بخلاف القصة القصيرة التي تتطلب انضباطا محسوبا لم أعد قادرا على مسايرته والالتزام به .

ما هي مظاهر القصة القصيرة في تونس ، هل عرفت تطورا أم تراجعت ؟

من خلال اطلاعي على المدونة القصصية للعقود الأربعة الأخيرة ، وما بلغته القصة القصيرة من تطور الستينات والسبعينات وبداية الثمانينات أجزم أن هذا الجنس الأدبي خلال هذه الحقبة بلغ شأنا كبيرا وفاق حتى أهم الكتابات المشرقية ، نظرا وأن تجربتنا تأثرت بصورة مباشرة بالقصة القصيرة الغربية دون أن تتبع الخطوات البطيئة للقصة في المشرق ، حيث كان كتاب القصة بتونس مطلعين على التجارب الغربية بلغاتها الأصلية ، لذلك اختصروا الزمن بوعيهم بمسألة الشكل فكانت لهم الريادة . لكن في أواخر الثمانينات والتسعينات لاحظنا أن هؤلاء الكتاب الرواد قد قل انتاجهم أو انعدم بحكم اختيارهم لمجالات تعبير أخرى مثل كتابة الرواية والمسرحية . والذين برزوا في هذه الفترة قصاصون أغلبهم متسرعون للظهور في الساحة الثقافية دون قراءات متعددة لسنوات طويلة سواء لأهم التجارب في هذا الجنس الأدبي ، أو حتى في العلوم الإنسانية المختلفة المثرية للكتابة . لذلك جاءت أغلب هذه النصوص مفتقرة للعمق في المضامين ومذبذبة في الأشكال ، واني اعتبر أن تراجعا ملحوظا حصل بالقياس إلى عشرية السبعينات التي تعد عشرية رائدة اعترف بها حتى إخواننا المشارقة .

رواياتك الأخيرة وأخص منها " النزيف " و " الرسم على الماء " و"رجل الأعاصير" ولئن عادت إلى الوقائع التاريخية ، فإن القارئ يلاحظ مساحات كبيرة من الخيال في تناول الاحداث التاريخية . هل ذلك التشويه للواقع مقصود ؟

سمة كتاباتي كخط مدروس من البداية  وعن وعي تام ، هو أن تكون الأحداث والوقائع مستمدة من واقعنا ، وكما يحلو للبعض أن يقول من تاريخنا غير المدون . وهي في نظري شهادات على العصر لا بد أن تكتب ضمن أعمالنا الأدبية بحرفية ، وإذا لم نسجلها نحن أدباء هذا البلد فمن الذي سيتولى ذلك ؟ لكن هذه الوقائع التاريخية كل كاتب له فيها زاوية نظر مخالفة لغيره ، وبالتالي فإن الخيال سيحدد مجالات أو مساحات كبيرة للذهاب بعيدا لغاية فنية بحتة ، ولا أرى في ذلك تشويها لهذا الواقع بل إبرازه ضمن لوحات درامية تكشف عن خفايا ما كانت تخطر على بال القارئ لأنها تاريخيا غير معلومة فتبدو انعكاسا للحدث الرئيسي ونتيجة ، وبذلك يكتشفها القارئ وكأنه يطلع على هذا الحدث لأول مرة ، وهذا في نظري هو دور الروائي ، البحث المتواصل عما يزيل غبار النسيان عن تلك الوقائع من نوايا مختلفة تستفز مسلمات القارئ إذا لزم الأمر ، وتبعث فيه الدهشة . وقد تكون هذه الوقائع من الخيال الصرف لا يشدها إلى التاريخ إلا خيط واه ، وذلك هو الإبداع الحق .

لم يقع التركيز في رواياتك على الفئات المهمشة ؟

لا أختلف معك في هذا الاستنتاج ، فرواياتي الثلاثة " ليالي القمر والرماد " و"الصرير " و " النزيف " أغلب شخوصها من الفئات المهمشة مثل برباشة مصب النفايات وعائلة القصير وخضراء والسلك . أما في الصرير ف"حقي" الشخصية الرئيسية فهي مهمشة مع سقائي الحي والنازحين من الجنوب . وحدث ولا حرج عن أغلب شخصيات روايتي الأولة " ليالي القمر والرماد " وإن حدثت وقائعها قبل الاستقلال حيث كان التهميش سياسة منظمة من الاستعمار الفرنسي .

إن تجربتي الحياتية شهدت عن قرب هذه الفئات ، ولعلي كنت منها ، فأنا أميل إلى هذه الشريحة ، فإحساسي بها قوي إلى درجة الذوبان فيها ، لذلك وأنا أخط نسيجها داخل رواياتي أجدني أتعاطف معها إلى حد كبير في حميمية دافقة ، وأحاول أن ألفت إليها الأنظار ، وهذا في نظري دور الروائي بأن يسلط الأضواء على النقاط السوداء في مجتمعه ليكون شاهد عصر بأمانة ، لا خارج عصره بخيانة .

ما هي ملامح الرواية التونسية في رأيك ؟

في نظري إن التجربة الروائية في تونس مرت بعدة مراحل ، النضالية منها ، فالواقعية التسجيلية ، فالتجريبية ، فالواقعية الجديدة ، التي هي الآن تتربع على عرش الرواية ، وانخرط فيها أغلب الكتاب لاحتضانها لكامل الأشكال والتجارب الروائية ، وإن حاولت التجريبية مزاحمتها فقد أخفقت لأن الأولى في متناول كل القراء ، أما الثانية فمجالها محصور في النخبة المثقفة وهذا عيبها الكبير الذي جرها إلى الانزواء ليس في بلادنا فقط ولكن في كامل أرجاء المعمورة . وإني من المنتصرين للرواية الواقعية النقدية بالخصوص ، تلك التي تتضمن هموم مجتمعنا سياسيا وثقافيا ، لأنها تلامس القارئ من قريب أو من بعيد ، وتحرك سواكنه ويجد نفسه فيها . أما الايغال في الرمز إلى حد الطمس والتجنيح إلى حد التغريب فهذا ما أنفر منه ، وإن أحترم كتاب أصحاب هذه التجارب .

هل لديك فكرة واردة لكتابة سيرة ذاتية ؟

هاجس السيرة ما انفك يدفعني إلى خوض غمارها ، لكني أفضل أن تكون سيرة الكاتب الذاتية مبثوثة في أعماله ، فلا يختص بها عمل منفرد ، إلا إذا مرت بالكاتب أحداث غير عادية كانت منعرجا حاسما في حياته ، مثل المشاركة في الحروب والصراعات ، والزج به في السجن واضطهاده من أجل أفكاره . أما ومسيرتنا الحياتية عادية خالية من الهزات المذكورة فلا أظن أن في ذلك أية إضافة .

السيرة الذاتية ، هل هي الشكل المتطور للرواية التونسية خاصة والعربية عامة ؟

قد لا أذهب إلى أن السيرة الذاتية أدخلت تطورا ما في الرواية لأنك قد تفاجأ بأن هذه السيرة الذاتية قد وردت بأسلوب تقليدي وبالتالي فهي ليست آداة تطوير بقدر ما هي زاوية نظر قد تنجح وقد تخفق مثل بقية التجارب في العمل الروائي ككل ، لكن التطور يتجسم في نظري من خلال التطرق إلى المضامين المعاصرة من زوايا جديدة وبعمق فكري وكذلك المغامرة في ما هو مسكوت عنه في غير ابتذال ولامباشرتية ، والبحث المتواصل في أساليب التبليغ الجديدة باستغلال التقنيات الحديثة في الكتابة وحتى في بعض الفنون الأخرى ، كالشعر والسينما . والأهم أن يكون الكاتب قريبا من القارئ وتطلعاته وأحلامه ومشاركته في الاختيارات بالتطرق إلى هواجسه ومحنه دون تطرف وإيغال في الترميز إلى حد انسداد كامل قنوات الفهم .

جائزة كومار التقديرية ، هل ساهمت في تنمية الحس الروائي لديك لمواصلة كتابة الرواية ؟

أنا لست غريبا عن الجوائز ، فقد تحصلت على ثلاث جوائز أدبية لثلاث روايات من أربع ، وأعتبر رواية " النزيف " التي لم تتحصل على جائزة أنها الأجدر من بين الروايات المرشحة باعتراف أغلب الذين اطلعوا عليها .. لذلك فإن الحس الروائي كان هاجسا متواصلا حتى وأنا أكتب أولى قصصي القصيرة . فأغلب قصصي كانت مشاريع روايات لذلك في آخر التسعينات انقطعت عن كتابة القصة الثصيرة لأتفرغ للرواية . والتطور يأتي بمزيد الاطلاع على الأعمال الروائية شرقا وغربا واستيعاب التقنيات الحديثة والممارسة المستمرة والبحث عن الأشكال الجديدة وعدم تكرار التجارب . فالكاتب لا يكتب للجوائز وإنما الأخيرة توضع كتتويج للأعمال الناجحة حسب قناعات لجنة تحكيم الجوائز .