مقابلة مع الدكتور الشاعر كمال غنيم

مقابلة مع الدكتور الشاعر كمال غنيم

في لقاء مطوّل مع الدكتور الشاعر كمال أحمد غنيم:

- ظهر المسرح الفلسطيني عام 1834 قبل أي مسرح عربي

- حركة المسرح الفلسطيني تضع بصماتها في ظروف أقرب إلى المستحيل

- التجربة الفلسطينية تطاول المسرح العربي الجاد، وتقف معه على المنصة نفسها

أجرى اللقاء: ماهر فؤاد

*** متى نشأ المسرح الفلسطيني؟

ارتبطت نشأة المسرح الفلسطيني بالمدارس التبشيرية والوطنية كعامل أساس من عوامل الاحتكاك بالغرب، و تشكلت أبعاده في ظل معطيات تبحث عن الجانب التعليمي والأخلاقي والسلوكي، بالإضافة إلى ما فيه من سحر الترفيه والمتعة والجاذبية .

وقد عرفت فلسطين عروض "الأراجوز" قبل مجيء الانتداب البريطاني، واستمرت معرفتها له جنباً إلى جنب مع المسرح البشري ما يزيد على ثلاثين عاماً عاشتها تحت وطأة هذا الانتداب،كما عرفت خيال الظل الذي استقدم في القرن العاشر الميلادي إلى الشرق العربي من الشرق الأقصى سواء أكان من الهند أم  الصين، وأقدم الإشارات العربية التي وردت عنه عام 1171م.

وإذا اتفق النقاد على اعتبار عام 1847 بداية المسرح البشري في بلاد العرب نسبة إلى مارون النقاش، الذي قدّم المسرحية الأولى "البخيل" في حديقة منزله متأثراً بالمسرح الغربي، فقد ثبت أن ياور نابليون السابق المارشال مارمون، الذي شارك بالحملة على مصر وقام في الفترة الأخيرة من حياته برحلات كثيرة إلى مختلف البلدان، كتب في مذكراته عن رحلة قام بها إلى مدينة بيت لحم الفلسطينية عام 1834، أبرز فيها مشاهدته عرضا مسرحيا .

و مارس الفلسطيني دور المتلقي الواعي لمكنونات الحضارة الإنسانية حيث تم استيعاب التجربة الغربية؛ والسير على خطاها،  لكن الحافزين الوطني و الديني وقفا وراء محاولة توظيف هذا الفن لصالح الشخصية العربية المستقلة؛ والحفاظ على هويتها وقيمها؛ الحذرة من الوقوع في براثن الاستعمار الثقافي، مما دفع الوطنيين إلى اقتحام غمار هذا الفن  و إجراء التجارب الأولى، التي تدرجت في العطاء و القدرة على تحقيق المستوى المطلوب،  لكنها كانت تجربة جريئة آتت أكلها، وسمحت لنفسها بالنقد الذاتي، الذي يقوّم المسار، هذا النقد الذي اتجه في البداية  إلى المضامين، يحاسبها ويحاكمها حتى لا تكون مجرد نسخة مشوهة، عن حضارة المستعمر، مع القليل من الاهتمام بالجوانب الفنية، التي حاولت المزج بين الذائقة العربية المهتمة بالفصاحة والبلاغة  والإدراك الفني  المتنامي لأبعاد هذا الفن الجديد وعناصره، وسار الفلسطيني في الاتجاه نفسه الذي سار فيه المسرح العربي عند مارون النقاش  وأبو خليل القباني ويعقوب صنوع، حيث توجه الجميع إلى منح القالب المسرحي ملامح عربية، من خلال الشكل والمضمون، واتجهوا في الغالب  إلى التراث العربي، يستمدون منه حكاياتهم المسرحية، بالإضافة إلى الاهتمام بالغناء كرافد للمسرحية، ينسجم مع ذوق المتلقي العربي، والاهتمام ببلاغة الحوار، وتوظيف اللغة العربية الفصحى المفعمة  بالمحسنات والمجازات.

*** ما أبرز سمات المسرح الفلسطيني؟

تميز المسرح الفلسطيني  بالتوجه المبكر إلى التوعية السياسية  المنبثقة من واقع المطامع اليهودية المبكرة  في أرضهم، مما دفع الكتاب  إلى التحذير من هذا الخطر  القادم، ثم سرعان ما انخرط في هذه القضية بقدوم الانتداب، ومن ثم الاحتلال مما جعل السمة السياسية غالبة في توجهات المسرح الفلسطيني، و كُتب عليه أن ينخرط  في المقاومة بكل أدواتها، حيث اتجه في بداية نضاله إلى التنوير متخذا من المخاطر المحدقة والآفاق المقبلة محورا يكشف من خلالهما الحقائق، و يبرز ما خفي وراءهما، و لم يلبث أن اتجه إلى مزج  عملية التنوير بالتثوير  والتحريض على ممارسة الفعل النضالي تجاه الجرائم الاستعمارية والاحتلالية المتصاعدة على صعيد الحياة اليومية للإنسان الفلسطيني بما يواجهه من محاولات الاقتلاع والمستوطنات السرطانية والمواجهات الدامية، أو على صعيد الحروب المتواترة في ظل حماية دولية وتستر عالمي مفضوح.

و قد انعكست هذه السمة على مسيرة الحركة المسرحية الفلسطينية على أرض الواقع، حيث جُوبه العاملون فيه بالقمع الفكري والسلطوي، مما جعل التجربة الفنية  العملية ممزقة تسير ضد التيار الجارف، وتضع بصماتها في ظروف أقرب إلى المستحيل، لكنها استطاعت أن تحقق عدة إنجازات، أهمها التواصل الممزوج بالإصرار، ولم تقف قضية انقطاع فرقة عن العمل أمام هذا التواصل، حيث راح أعضاؤها يشكلون في الغالب  فرقا جديدة  تواصل ما انقطع  وتحاول البقاء.

و قد حاول المسرح الفلسطيني الأدبي أن لا يجعل الهم اليومي يطغى على الجانب الفني، وهو إن كان قد استغرقته القضية بمفرداتها وأبعادها الواسعة إلا أنه حاول بنسب متفاوتة و بتدرج تاريخي منطقي أن يخرج من أسر المباشرة والسطحية، ويُمكن القول أن المسرح الفلسطيني استطاع أن يتجاوز  التابو الذي رسمه المسرح العربي لقضيته، فخرج في الغالب من أسر الكليشيهات الثابتة؛ والتصورات المثالية للإنسان الفلسطيني،  فصوره في الغالب بشكل إنساني موضوعي، يمتلك عناصر الضعف والقوة  واللين والقسوة، و إن وقع بعض الكتاب والفنيين في أسر تكرار بعض الموضوعات والرموز المتعلقة بقضايا محورية كالأرض والتضحية .

واستفاد المسرح الفلسطيني الأدبي من أشكال المسرح الغربي المختلفة، لكن الواقعية والكلاسيكية أخذت من اهتمام الكتاب القسط الأكبر، وفي جميع الأحوال لم يلتزم الكتاب بالقالب الغربي جملة و تفصيلا، بل رأينا نسبية في الالتزام الفني المذهبي انسجمت مع نسبية الالتزام الفني بها على الصعيدين العربي و العالمي، ويلاحظ أن المسرح الفلسطيني قد استفاد من هذه الأشكال جميعها، للتعبير عن قضيته الرئيسة، بالإضافة إلى القضايا الاجتماعية والإنسانية الأخرى.

و لم يمنع انشغال المسرح الفلسطيني بقضيته الرئيسة من طرح القضايا والمشكلات الإنسانية المختلفة، وإن ظلت البصمة الفلسطينية واضحة في هذه الأعمال جميعها، إذ وقف الجرح الفلسطيني النازف مطلا برأسه من وراء المشكلات الفلسفية والإنسانية والاجتماعية، بل في الطرح العبثي المعبر عن زعزعة الثقة لدى الفلسطيني تجاه القوانين الدولية و المعايير المنحازة إزاء البشاعة والوحشية التي يعايشها دون مجير أو صاحب كلمة حق.

وحمل المسرح الفلسطيني هوية خاصة، تميزت عن المسرح العربي، متمثلة في هذا الهم الوطني النابع من خصوصية التجربة الفلسطينية، بالإضافة إلى أنه لم يقع في شرك المسرح التجاري، الذي غرقت فيه بعض المسارح العربية، إذ ظلت مسحة الفكاهة والترفيه قليلة، وتفاوت وجودها بشكل نسبي بين الأعمال المختلفة، وظلت ممزوجة  بالألم والمعاناة، فهي إما أن تأتي لتعبر عن صورة موضوعية لواقع الفلسطيني؛ الذي يكابر و يتحدى و يعيش حياته اليومية، لكنه يناضل ويجاهد حتى الموت بشكل تلقائي متواصل، أو قد تأتي جرعة الترفيه والفكاهة في إطار الكوميديا السوداء المضحكة  المبكية المعتمدة على المفارقة الحادة.

*** طغت على السطح ظاهرة انتشار الفرق الفنية وسرعة اندثارها. فما هي أسبابها؟

لا شك أن هذه الظاهرة قد صاحبت مسيرة الحركة المسرحية في فلسطين منذ النشأة حتى الآن، ويعود ذلك إلى عدة أسباب، منها: انغلاق الفرق على نفسها، والنزعة الفردية التي تصل أحياناً إلى حد الأنا المتورمة، وغياب الدعم، بالإضافة إلى تراكم العقبات الكبيرة في وجه المسرح الفلسطيني بشكل عام.

*** ما أهم المعوقات التي وقفت في وجه المسرح الفلسطيني؟

ارتبط المسرح في الحضارة الإنسانية بالاستقرار، وربط البعض بين تألقه والشعور الإنساني بالأمن والطمأنينة، وهذا هو ما افتقدته فلسطين على مدار القرن العشرين، حيث عانت من التقلبات السياسية الحادة، وشهدت أسوأ أنواع القمع والاضطراب السياسي، مما انعكس على الواقع في كل جوانبه، ولم ينج المسرح من ذلك، حيث عانى من غياب الهيئة الوطنية المسئولة، التي تضعه في سلم اهتماماتها، وتفسح المجال أمام مريديه، دون تعامل سلبي تجاه متطلباته، ودون عقبات تفتعلها، شأن الانتداب والاحتلال .

وقد ظلت فلسطين - في واقع الاضطراب السياسي - تعاني عبر القرن العشرين بشكل واضح من  غياب الهيئة الوطنية المسؤولة التي تقف على قدميها بقوة وتدعم جوانب الثقافة الفلسطينية، حيث خضعت فلسطين للحكم العثماني الذي كان من أهم حسناته المحافظة على هذه البلاد من التهديد والضياع، إذ إن فلسطين ظلت في العهد العثماني محافظة على طابعها العربي المحض، وفي نهايات مرحلة ما قبل 1948 كانت المدارس والجمعيات تشكل الحد الأدنى لسد حاجات المجتمع المتنوعة، ومن هنا كانت بذور النهضة، وقد واصلت العديد من المؤسسات في عهد الانتداب الاضطلاع بهذه المسؤولية، ولكنها ظلت في حالة مقاومة أضعفت إنتاجها وقيدت فاعليتها.

ولعبت الاضطرابات والتقلبات دورها السلبي في عدم تفعيل الهيئات الوطنية، وظل العديد من أولويات الحياة هاجسا يقف حاجزا كبيرا، في طريق الحياة المسرحية الفاعلة في فلسطين، وليس ما حدث في انتفاضة عام 1987 ببعيد، حيث قامت السلطات بإغلاق جميع المعاهد، والكليات، والجامعات، لفترة طويلة، كما حاصرت المؤسسات الوطنية، وقلصت من نشاطها، فبقيت تسير بهامش بسيط من القدرة على الفعل، فإذا وصلنا إلى عام 1994، وبداية تشكيل الوزارات المختصة بأصعدة الحياة المختلفة، ظل هاجس الاحتلال قائما، وبقيت أولويات المعركة تقودنا إلى حالة من الهلهلة، وعدم القدرة على ترتيب الصف الداخلي بشكل جيد، وما إن حلّت نهايات عام 2000 حتى قامت إسرائيل بضرب المعاهد والمؤسسات، واقتلاع الأشجار من آلاف الدونمات، وذبح المئات، وتدمير البيوت تدميرا مكثفا، ليختتم المرحلة الأخيرة بفصل بشع من فصول مأساة فلسطين الدامية.

ولم تكن الحركة المسرحية بمنأى عن الحالة السياسية البائسة في فلسطين، فقد عانت منذ بدايات الانتداب البريطاني من التفرقة في الرقابة، إذ كانت تمارس ضدها رقابة قاسية وغير عادلة، ففي  الوقت الذي كانت فيه الفرق اليهودية وعلى رأسها "هابيما"، تقدم مسرحاً تنتقد فيه دوائر الحكومة وتصرفات الموظفين، وتعبر عن توجهاتها بحرية بالغة دون رقيب أو حسيب كانت الفرق العربية تمنع من انتقاد الحكومة وكل من يمت لها بصلة وكان على الفرق العربية أن تتقدم بنصوصها للرقيب قبل طباعتها أو عرضها، وكانت تحاسب حساباً صعباً إذا أجرت أي تغيير في النصوص المسرحية عند عرضها يختلف عن النصوص ساعة تقديمها للرقابة من أجل الموافقة عليها، وكان للإنجليز عيون تراقب العروض المسرحية المرخصة بعد جهد جهيد، وكانت صحافة اليهود وفرقهم تحضر حفلات الفلسطينيين المسرحية وتتابعها بحرص، وعندما قام نادي الشبيبة الأرثوذكسية في القدس بعرض "شبح الأحرار" لنصري الجوزي عام 1935، اجتهد في عرضها ضمن حفل منوعات، دون ترخيص، ولم يذكر اسم المؤلف في الإعلانات وفي أثناء العرض، خوفاً من صرامة الرقابة وما قد يترتب عليها من ملاحقة ومحاسبة، وعندما حاول المؤلف تقديمها بعد ذلك رفضتها الرقابة مرتين بحجة قوانين الطوارئ، ولما حاول عارف العارف عام 1947 إتاحة المجال لعرضها في رام الله والبيرة دون ضجة، علمت السلطات بذلك، فطُورد الكاتب قبل العرض، وغاب عن إدارة المدرسة التي يعمل بها حتى هدأت الأوضاع.

وقد تكرس مفهوم الرقابة في ظل الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1948، بينما ظلت الضفة الغربية والقطاع تعيشان في ظل حكمين عربيين مختلفين، في جو من الترقب والتناقض والاستعداد، لمواجهة حسمتها هزيمة 1967، لتصبح فلسطين كلها تحت نير الاحتلال، حيث كانت الظروف جمعيها تقود إلى بلورة الذات الفلسطينية، وبحثها عن عناصر فعلها الثقافية، في فلسفة المواجهة والصمود.

وانصهرت الحركة المسرحية في بوتقة التجربة الجديدة، تحت سلسلة من المواجهات الدامية، التي عصفت بها كعنصر من عناصر الحياة الفلسطينية بشكل عام، ولبنة من لبنات الحضارة العربية المهددة بالإبادة، عبر القتل والأسر والإبعاد ومنع التجول، وغيرها من الوسائل الاحتلالية، فقامت السلطات بمطاردة العاملين في المسرح والكتاب والأدباء والمثقفين، واعتقلت على سبيل المثال الشاعر راشد حسين بعد مشاركته في اجتماع مسرحي في الناصرة عام 1958 لمدة طويلة.

كما استدعت السلطات العسكرية معلمات معهد "دار المعلمات الحكومية برام الله" عام 1970، للتحقيق معهن بعد عرض مسرحية "الغول"، وقررت منع التمثيل في المعهد، إلا بإذن مسبق من ضابط جهاز التربية والتعليم، وقامت باعتقال مصطفي الكرد لمدة طويلة عشية العرض لفرقة صندوق العجب عام 1976، واعتقلت جميع العاملين في المسرح الشعبي الفلسطيني، في أثناء عرضهم لمسرحيتهم "الإنسان قضية" عام 1979 في شفا عمرو، واعتبرت المسرح حسب قانون الطوارئ تجمعا غير قانوني، فأصدر الحاكم العسكري بنابلس عام 1975 أمرا باعتقال بلال شخشير، بتهمة التجمع غير القانوني، لأنه كان يدير فرقة مسرح "الزيتون"، التي تم إيقاف عملها للسبب نفسه، وداهم الجنود قاعة بلدية رام الله، أثناء تدريبات فرقة دبابيس على مسرحية "النبع" عام 1976، فاعتقلت العاملين والعاملات حتى ساعات متأخرة من الليل، مما أدى إلى توقف الفرقة بعد ذلك عن العمل، كما قامت بمنع بعض العاملين في المسرح من السفر، وقامت بإبعاد آخرين، ومنعت خروج الجماهير في الليل من خلال خلق جو من الإرهاب والخوف، بضرب كل من يصادفه الجنود في الشوارع.

وقام الحاكم العسكري في غزة باستدعاء أعضاء فرقة الأمل للفن والمسرح، التي تأسست عام 1984، عند محاولتهم إعادة عرض مسرحية "حوار مع دكتور" وأمرهم بوقفها.

ولم تقف الرقابة عند حدود العروض المسرحية، بل طالت الكتابة بكافة أشكالها، بما فيها الكتابة المسرحية، مما أدى إلى طغيان الرمز كأداة تعبيرية، يحاول الكتاب من خلالها تسريب أفكارهم ومشاعرهم،  كما تمارس السلطات رقابة يومية على الصحف تمكنها من شطب المادة الإعلامية بكاملها، أو تشويه المادة من خلال بترها، وحذف فقرات أساسية منها، أو تأجيل نشر المادة، رغبة في قتلها، والتقليل من أهميتها وفاعليتها، بالإضافة إلى نوع آخر من الرقابة، تمثل في استدعاء المخابرات للكتاب، والتحقيق معهم في مواد ونصوص وصلت إلى الرقيب وتم منعها وعدم نشرها، بل إن الرقابة وصلت إلى حد تفتيش بريد المجلة أو الصحيفة، قبل أن يصل إليها، و أما ما يُسمح بنشره، فيخرج في النهاية خاليا من عدة مفردات محظورة، مثل: الأرض، وفلسطين، والفدائي، وغيرها، مما أسفر عن حصار بشع للعديد من الأعمال، وخنق فظيع للإبداع، وقتل مأساوي لحرية الكلمة.

*** كيف تأثر المسرح الفلسطيني بالانتفاضة؟

شهدت انتفاضة عام 1987 تفاعلاً حميما مع المسرح، وتمثل ذلك في انتعاش النشاط المسرحي، من خلال ظهور فرق جديدة ونشاط فرق قديمة، وظهور العديد من النصوص المسرحية المطبوعة، ومحاولة التجمع القوية في إطار رابطة مسرحية، لكن ذلك النشاط تراجع في المرحلة التالية انتظارا لترتيبات الجهات المسؤولة كوزارة الثقافة والإعلام، والتلفزيون الفلسطيني، ولولا جهود بعض المخلصين بالإضافة إلى تجربة المسرح الثابت في رام الله؛ لخبت جذوة المسرح في هذه الفترة، التي كانت تمثل حلما كبيرا للمسرحيين، ويبدو أن أولويات العمل السياسي قد ابتلعت فكرة المسرح!

وقد جاءت انتفاضة الأقصى وراء هذه التراكمات السلبية لتنغمس في مرحلة قمع إسرائيلي طاغية، فكان من الجيد أن تحافظ الحركة المسرحية على إنجازاتها الضئيلة، ولذلك شهدنا بعض الأعمال المسرحية الطموحة، التي عجزت عن تكريس ظاهرة المسرح في المجتمع الفلسطيني القابع تحت أنقاض المرحلة!!

*** ما تقييمكم لأداء المسرح الفلسطيني مقارنة بالمسرح العربي؟

لم يحظ المسرح الفلسطيني بما حظي به المسرح العربي من تسليط الأضواء على تاريخه وقضاياه وإنجازاته ومشاكله، ولعل الواقع السياسي الممزق كان أكبر عامل في ذلك، لكن ذلك لا يلغي المسؤولية عن كاهل المسؤولين، ولعل تجربة كتاب (المسرح الفلسطيني) الذي كتبته، وعرضته على الجهات الثقافية من اتحاد كتاب ووزارة ثقافة… تمثل واقع الإهمال الذي يعاني منه المسرح الفلسطيني، فالكتاب مشروع وطني كبير يرصد المسرح الفلسطيني منذ البدايات حتى نهاية القرن العشرين؛ تاريخاً وقضايا ومذاهب وتقييماً فنياً، ويستشرف المستقبل، لكنه ما زال ينتظر على بوابات الوزارات والاتحادات والمخلصين!!

وأقول ذلك كله حتى أعفي نفسي من مسؤولية اختصار التقييم الذي تريدون، كي لا أتجنى على تجربة المسرح الفلسطيني الذي عانى من نقص الإمكانات والأدوات الفنية من ديكور وإضاءة وإخراج وغير ذلك، فاستحق لقب المسرح الفقير من هذه الجهة، لكنه ظل تجربة إنسانية وفنية غنية زاخرة العطاء، تطاول المسرح العربي الجاد، وتقف معه على المنصة نفسها، حتى وإن ظل قي زاوية الظل؛ بسبب إهمال أبنائه ومسؤوليه!

*** ما هي حاجات المسرح الفلسطيني للنهوض والانطلاق؟

في ظل المتغيرات الحاصلة على الساحة الفلسطينية، وانسجاما مع التوجه العام للمسرح الفلسطيني؛ يمكن الحديث عن عدة متطلبات تحقق له القوة والانتشار والتواصل، إذ إننا لا نستطيع القول إن المسرح على الصعيد العملي والفني يشكل ظاهرة قوية في الحياة الفلسطينية، وهو يعيش حالتي المد والجزر تبعا للتحدي والإرادة، مما ينسجم مع طبيعة المسرح المقاوم، وخصوصا أنه يعيش نوعا من القطيعة بين أجزائه الممتدة في المكان وأجزائه الممتدة عبر الزمان.

ويحتاج نضج المسرح الأدبي وتطوره إلى ترسيخ الظاهرة المسرحية الفنية، وذلك يتطلب جهود أكثر من طرف مسئول، فوزارة التربية والتعليم مطالبة في المنهج الفلسطيني الجديد باعتماد المسرح تاريخا وإبداعا وتطبيقا، حيث يلاحظ أن المسرح لا يشكل زاوية رئيسة من زوايا الاهتمام والتخطيط لديها، ولا يكون في الغالب إلا استكمالا لأنشطة لا منهجية، ينتهي الاهتمام بها بمجرد الانتهاء منها، ولا توجد خطة متكاملة لتنميتها، فالمسابقات والمهرجانات -على قلتها- ينبغي أن تُسبق بدورات علمية، ترسخ مفهوم المسرح، وتبلور عناصره ومقوماته في أذهان أطراف العملية التعليمية بشكل متكامل، وقد أثبتت التجربة أن الاحتكاك المبكر بالتجربة المسرحية يولد طاقات فاعلة وقدرات منتجة، ومن ذلك تجربة الكاتب الفلسطيني أدمون شحادة، الذي تفاعل في طفولته مع التجربة المسرحية، عندما شارك في تنفيذ العمل المسرحي "الرشيد والبرامكة" في الخمسينات من القرن الماضي، مما أفرز لنا كاتبا معطاءً، متعدد التجارب، متواصل الإبداع، بالإضافة إلى كثيرين غيرهم من العاملين في المسرح، الذين نمت عندهم الرغبة، وصُقلت لديهم الموهبة من خلال تجاربهم الأولى في المدارس.

وأما على صعيد التعليم العالي، فلا يكاد يكون التخصص فيه فنيا وأدبيا يحظى بالاهتمام الرسمي، بل إن التخصصات الإنسانية القريبة منه توشك أن تمر به مرورا عابرا، وأثبتت التجربة أن معظم النشاطات المسرحية الطلابية لم تحظ باهتمام رسمي، وبقيت جهودا طلابية تخضع للمتغيرات وتقلبات الظروف، على الرغم من نجاح العديد من تجاربهم الفنية ونضجها، ولذلك فإن من المطلوب إيجاد التخصصات المسرحية، و إدراج المسرح ضمن المتطلبات الجامعية، والعمل على رعاية التجارب الطلابية، بكافة أشكال الدعم المادي والمعنوي، واستكمال جوانب النقص في تجاربهم، بابتعاث المميزين لدراسة تقنيات المسرح ومستلزماته، والاهتمام بالكتاب المسرحي، وتوفيره في المكتبات الجامعية، فعلى الرغم من تميز عدة مكتبات جامعية في الجوانب الثقافية المختلفة إلا أنها تشهد تقصيرا كبيرا على صعيد الكتاب المسرحي الإبداعي والنقدي.

أما وزارة الثقافة فهي مطالبة بأكثر من جانب، فعليها أن تضع خطة تقدم فيها الأولويات، ولا تنتظر من أجل تطبيقها سنوات، ومبدئيا ينبغي عليها أن تدعم الفرق المحلية الناشطة، والعمل على تكوين فرقة قومية، ولعل بعض الناس يعترضون على هذه المطالبة بالقول إن الدولة في الغالب معنية بتوجهات تخدمها في المسرح والمنابر الثقافية والإعلامية المختلفة، كما نرى في واقع البلاد العربية المختلفة، كما أن المبدع الموظف لا يمتلك الحماسة الكافية لتحقيق النجاح المطلوب، لكن هذا الاعتراض سابق لأوانه، إذ إن وجود الفرق القومية يدفع عجلة المسرح إلى الأمام، ويرسخ الظاهرة، كما أنه يخلق أجواءً من التنافس، ويقود فعاليات المجتمع إلى الدفع بهذا الاتجاه، ويوجد نصاباً قويا للاستمرارية والتفاعل والانتشار.

والوزارة مطالبة بإنشاء البنية التحتية للمسرح، ويتمثل ذلك في إنشاء دور العرض المجهزة، والمحافظة على التراث المسرحي بإعادة نشر التجارب السابقة، وتقديمها للمتلقي، إسهاما في وصل الأجزاء الممزقة، ورتق ما أفرزه الشتات على صعيد المكان والزمان، ودعم الإصدارات المتخصصة في هذا المجال، سواء على صعيد النص المسرحي أو الدراسة النقدية أو المجلة الراصدة للتطورات، وتنظيم المسابقات والمهرجانات لإيجاد جو التنافس والإبداع، مع مراعاة حضارة الشعب وقيمه، بعيدا عن الانسلاخ من هويته الثقافية.

كما أنها مطالبة بإعداد هيئة عامة للكتب ومكتبة وطنية، بالإضافة إلى المعارض السنوية للكتب، من أجل توفير النتاج المسرحي العربي والعالمي والدراسات المتعلقة بها، وبناء أرضية متماسكة للتواصل مع الحضارة الإنسانية في هذا المجال، وتوسيع دائرة الاستفادة بدلا من الاعتماد على الجهود الفردية في الحصول على المراجع المطلوبة، وهي مطالبة بتوسيع دائرة الفائدة على الصعيد العملي والثقافي في جميع المناطق، وعدم التركيز على المناطق الحيوية والمدن الرئيسة فقط، مما يتطلب توسيع دائرة العروض، ودعم أنوية العمل المسرحي في الريف والمناطق البعيدة.

ويقع على عاتق المؤسسات الوطنية والأهلية دور كبير في دعم المسرح؛ لتستكمل بذلك دورها مع الجهات الرسمية في ظل وجودها، كما حاولت أن تؤدي دورها في ظل غياب السلطة، ويتمثل ذلك في دعم الفرق، وتبني الأعمال المسرحية، وعقد الدورات المتخصصة في هذا المجال، وعقد المسابقات الإبداعية، وتفعيل المسرح في الأنشطة الثقافية والاحتفالية التي تقوم بها .

أما الفرق المسرحية فيقع عل كاهلها عبء كبير ومسئولية عظيمة تجاه تواصل العملية المسرحية بشكل إيجابي، إذ إن ما تقدمه هذه الفرق يترك آثاره القوية لدى المتلقي، ومن هنا تحتاج الفرق إلى عدة مقومات حتى تحقق النجاح، إذ عليها الاهتمام بتثقيف عناصرها، وترسيخ مبدأ التخصص في العمل، بالإضافة إلى الارتقاء إلى الأعمال المسرحية الناضجة، وعدم الاعتماد على الإعداد السريع الذي تقوم به الفرقة بمجملها، أو بعض أعضائها، ممن قد لا يمتلكون القدرة الكتابية، وخصوصا أن النصوص المسرحية كثيرة، لكن الحصول عليها يحتاج إلى جهد في البحث والتأني في تبني العمل، إذ إن القراءة المتأنية تستكنه ما وراء السطور، وتساعد على الإعداد الجيد للعرض المدرك للفكرة، والمستفيد من بنية المسرحية الفنية داخل النص، لتتمازج مع العناصر الفنية خارجه؛ المتحققة على يد المخرج والممثل وعامل الإضاءة والديكور، ثم تأتى بعد ذلك عملية العرض نفسها، وضرورة أن يسبقها إعلام جيد، يشوّق المتلقي للعمل، ويتجاوز التراكمات السلبية لتصورات سابقة عن الفرقة، أو أعمال فرق أخرى.

ومما قد يساهم في دعم الحركة المسرحية وجود رابطة أو نقابة فاعلة تتجاوز أخطاء التجمعات السابقة، فلا تعتمد مبدأ عضوية الفرق بقدر ما تعتمد عضوية الأفراد الفاعلين، ولا يكون دورها صهر التجارب المختلفة في بوتقة واحدة، بحيث تعتبر نفسها فاشلة إن عجزت عن تحقيق ذلك، بقدر ما ينبغي أن يكون دورها إيجاد روح التعاون بين العاملين، مع إبقاء أجواء التنافس الشريف النابع من استقلالية الفرق، ويكون من مهامها المحافظة على حقوق المسرحيين والسعي لإيجاد فرص تفرغ لهم، ومتابعة الجهات المعنية ومساءلتها عن جوانب التقصير تجاه قضايا المسرح ومشكلاته، وإلا فإن دورها سيظل محدودا يقودها إلى الفشل والذوبان.

أما وزارة الإعلام فإنها مطالبة برعاية منابرها حتى لا تنجرف عن الخط الحضاري للأمة، أو تقع فريسة للأهواء والصراعات، فتتخلى عن دورها الحقيقي في ترسيخ خط ثقافي قوي يحصن الشعب، ويمارس دوره في التنوير.

*** كيف تحقق وزارتا الإعلام والثقافة المعادلة الصعبة بين المسرح وطوفان الفضائيات والوسائل الإعلامية الأخرى؟

لا ينبغي أن تتقاطع أدوار المنابر الإعلامية المختلفة من صحف ومجلات وإذاعة وتلفزيون وفضائيات مع المسرح، إذ إنها لا ينبغي أن تشكل منافسا قويا له وخصما يمسح وجوده؛ بقدر ما ينبغي أن تكون متكاملة معه مستفيدة من إمكاناته، فليس من السهل أن تتشكل الظاهرة المسرحية دون متابعة  الأجهزة الإعلامية المختلفة، من خلال إثراء الأنشطة المختلفة ومتابعتها، ودون أن يجد النقد النظري فسحة يرتاد من خلالها الرؤى الفنية المحلية والعربية والعالمية، في سبيل صقل الذائقة الفنية لدى المبدع والمتلقي، بالإضافة إلى المساهمة في نقد وتحليل الأعمال المسرحية الأدبية والفنية، مما يعزز الجوانب الإيجابية والاتجاه إليها في الأعمال التالية، ويحاصر الجوانب السلبية لأجل تلافيها، أما أن تترك العمل دون نقد وتحليل فإن ذلك يخلط الغث بالسمين، ويشكل ذائقة فنية مشوهة، كما أنه يخلق واقعا مغلوطا، يقوم على كاهل مبدعين لا يقرّون بجوانب قصورهم، ولا يعملون على تلافيها.

مع كل هذا ينبغي أن تُفتح المنابر الإعلامية على مصراعيها للممارسة المسرحية الإبداعية والفنية بشكل مستمر ودءوب، ويتطلب هذا الأمر من وزارة الإعلام رعاية الفعاليات الفنية المكملة للمشروع المسرحي في الجوانب المختلفة؛ من ديكور وإضاءة وملابس وتصوير وغيرها،,حتى يتم توطيد الأعمال بشكل فني مميز، يضمن لها الوصول بشكل أفضل إلى جمهور أوسع؛ من خلال الإذاعة والتلفزيون والفيديو والفضائيات، والنجاح يولد النجاح .

*** ما علاقة كل تلك الحاجات بالنص المسرحي الأدبي، وكيف يمكن تحقيق معادلة النجاح بين النص والعرض؟

الحقيقة أن النص المسرحي ليس إلا مشروع، يأخذ قيمته الكبيرة لحظة التنفيذ القائم على أسس متينة، ولا شك أن التفاعل بين عمليتي الكتابة والتنفيذ الفني تثمر مسرحا أكثر نضجا وقوة، فمن الثابت أن معظم المسرحيات العالمية الناجحة كانت ثمرة التزاوج بين موهبتي الكتابة والاطلاع على مجريات عملية التنفيذ وفنونها، من ذلك انخراط شكسبير وموليير في العملية المسرحية بكل مراحلها مما منحهما القدرة الفائقة على الإبداع والتميز.

وفى ظل هذا الفهم نستطيع القول إن المسرح الفلسطيني ظل يعاني  بنسبة كبيرة من الانفصام بين العمليتين، ولعل الاهتمام بحاجات المسرح الفلسطيني يجسر الهوة الشاسعة بينهما، مما يعزز الجوانب الإيجابية  فيهما وينعكس بشكل متميز عليهما، إذ إن العملية المسرحية متكاملة الأطراف لا يمكن الفصل بينها دون الوصول إلى نتيجة سلبية على جميع الأصعدة، وذلك تماما مثل مكونات الدائرة الكهربية من مفاتيح إضاءة ومصابيح وأسلاك ونقاط تجميع، لا يمكن أن تؤدي عملها دون التواصل فيما بينها وإكمال الدائرة ، فالمسرح الفلسطيني يمتلك المقومات والبنية التحتية بشكل قوي، لكنه عانى على مدار السنوات الماضية من التفكك والانفصام بين معظم هذه العناصر والأدوات، إذ إنه يمتلك تراثا أدبيا ومسرحيا عريضا، كما يمتلك واقعا فنيا طموحا وإمكانات مادية لا يُستهان بها، وهو قد استطاع أن يحقق المعادلة بين المقاومة ومسيرة الحياة اليومية المكابرة المتحدية لكل الظروف، مما يعني أنه قادر على المزج بين الأولويات والحاجة الإنسانية والفطرية للمسرح، وجوانب الحياة الثقافية المختلفة.

*** كيف ترى مستقبل المسرح الفلسطيني على الرغم من واقعه السياسي والاقتصادي الممزقين؟!

لا ننسى أن المسرح الفلسطيني مسرح مقاومة تشكّل في الغالب ضمن معطيات قليلة متواضعة، وله في ذلك تجارب تنسجم مع التجارب العالمية، مثل المسرح الجوال الذي يعتمد الأدوات القليلة ومكونات الديكور الخفيفة، حتى يستطيع الانتقال من مكان إلى آخر، وله أيضا في مسرح التجريب الذي لا يتكئ على المكونات المادية الضخمة مجال مفتوح للتعبير والممارسة، ولكن هذا لا يعني أن يبقى على ما هو عليه في ظل تغير الظروف، وإمكانية إيجاد عناصر مادية تدعم وجوده وترسخ ظاهرته وتفعّل أداءه، وخير دليل على ذلك تجربة مسرح الحكواتي،  الذي اعتمد المقر الثابت، مما انعكس ثباتا في تواصله ، ودعما للفرق الأخرى التي وجدت فيه ملاذا لعروضها وأدائها، ولا مجال لقبول الاعتراض على جهدها على أنه مأسسة للمسرح، وخروج عن خط المقاومة العام الذي اتسم به المسرح الفلسطيني، إذ إن المسرح الفلسطيني مطالب بالاستفادة من المتغيرات المسهمة في تطويره ودعمه وترسيخ جذوره، وهذا التغير لا يتعارض مع ما يقدمه من مضامين تتجاوب مع واقعه، وتقدم ما تنبض به أفكار مبدعيه والمتلقين له، وما ينسجم مع واقعه العام.

وفى ظل المتغيرات الجديدة –وجود هيئة مسؤولة- أصبح المجال مفتوحا أمام المسرح الفلسطيني لتجاوز العديد من المعوقات  التي حاولت أن تشده للوراء، وتقع المسئولية في تجاوز المعوقات السابقة على أكثر من طرف رسمي، وإذا كانت السنوات الأخيرة في ظل المتغيرات الجديدة لم تثمر ما كان متوقعا منها، وجاءت الأحداث الدامية في انتفاضة الأقصى الأخيرة لتكرس واقع التمزق السياسي وتعيد المسرح الفلسطيني إلى كهوف المقاومة؛ فإن ذلك يُعتبر من باب التقصير الرسمي ، والتعلل بالميزانية وهمٌ لا يُقبل إذ إن الوظائف المجانية تفيض، والبطالة المقنّعة المفرغة من المضمون تتزايد، والأمر يحتاج إلى جرأة في ترتيب الواقع، وفى ظل ميزانية متقشفة وخطة مقصودة لا فوضى متعمدة أو غير متعمدة يمكن تحقيق الكثير من أحلام المسرح الفلسطيني.

*** كيف ترى مستقبل المسرح في الألفية الثالثة مع التطور الإعلامي والمعلوماتي؟!

من الغريب أن يرى بعضنا مع بدايات ألفية جديدة أن المسرح أصبح من مخلفات الماضي، وأن الفضائيات وحدها قد تكفلت بالقضاء عليه بما تقدمه من فنون جذّابة تنأى بالمتلقي عن الإقبال على المسرح، وفى دراسة عن واقع المسرح العربي في المائة عام الأخيرة ، رأى البعض أن التلفزيون الرسمي قد تراجع عن دعم الفنون الحقيقية بما فيها المسرح، وأن الانفتاح التلفزيوني من خلال الفضائيات والمحطات الخاصة فيها قد حطّم آخر أمل في تجاوز الواقع، إذ إن أصحاب هذه الفضائيات ينطلقون من نظرة تجارية محضة، تهتم بتسريب الإعلانات المربحة من خلال أعمال فنية ومسرحية تجارية مطلوبة؛ لا تقدم فكرا أو إبداعا حقيقيا، ويدعو من خلال ذلك إلى عدم الاعتماد على الدولة وتلفزيونها في تنمية المسرح وغيره من الفنون الإبداعية.

والحقيقية أن هذه الدعوى تجانب الصواب وتجافي الحقيقة، لأن المسرح أب للفنون المختلفة لا يتحقق نجاحها دون اعتمادها على بنائه ومقوماته، فالفنون التمثيلية الإذاعية والتلفزيونية والسينمائية وليدة المسرح، ونجاحها مرتبط بالتفاعل معه ومع مقوماته، كما أن المحاسبة إذا أصبحت عسيرة تجاه الفضائيات الخاصة؛ فإنها ليست كذلك إزاء ما تقدمه محطات الدولة ، التي يُلقى على كاهلها واجب الانضباط وعدم التداعي أمام طوفان الفنون التجارية, ولا يعدم الأمر أن يكون في أصحاب الفضائيات الخاصة من يحمل فكرا صافيا ووعيا فنيا يحميه من الانزلاق والسطحية ، بل إن هذه الفضائيات والتطور الإعلامي الحاصل ينبغي أن يحسن استغلاله بالحد الإيجابي من السيف وعدم النظر إلى الحد السلبي فيه فقط ، من ذلك إمكانية ربط الفضائيات بالإبداع المتميز، اقتداءا بتجربة التلفزيون المصري في بدايات ظهوره، حيث أسس ما يعرف بمسرح التلفزيون، وقدم العديد من الأعمال المسرحية التي حظيت بانتشار كبير، لكنه وقع في الخطأ عندما اعتمد مسرح الترفيه كنمط وحيد للعرض، لكن الشاهد في الموضوع هنا هو إمكانية استغلال التلفزيون في عرض الأعمال المسرحية المتميزة، مع مراعاة  أن العمل المسرحي يفقد  نصف قيمته الفنية بعرضه على التلفزيون، إذ إن المسرح يقوم في جوهره على الاتصال المباشر بالجمهور، بما فيه من حميمية وتفاعل مؤثر، ومن أجل تلافي هذه الثغرات وتعزيزا للدور المسرحي ينبغي العمل على تطوير الأداء التلفزيوني حتى يتمكن الفنيون من نقل المسرحية نقلا مباشرا من خشبة المسرح، كما يحدث في المباريات وبعض المناسبات، مما يحافظ على العلاقة الوثيقة بين المسرح والمتلقي، ويتجاوز عن مشكلة انقطاع التواصل الحميمي بينهما بشكل نسبي .

وفي جميع الأحوال نقول أن هذا الطوفان من الفضائيات والمحطات الخاصة والعامة ينبغي أن يكون حافزا لتطوير العمل المسرحي القائم على تجاوز السلبيات الحائلة بينه وبين المتلقي، بما يعني أن المسرح الجيد الذي يحافظ على المعادلة الصعبة بين الفن والجمال من جهة، والقرب من المتلقي والجاذبية التي تشده من جهة أخرى سيستطيع أن يستدرج المشاهدين بعيدا عن شاشات التلفزيون والفيديو والسينما، مستفيدا من مميزات متعددة على رأسها التواصل الحميمي الذي لا يعوضه حتى البث المباشر، وخصوصا في ظل ما يدعو إليه علماء النفس من ضرورة  تجاوز المشاكل النفسية الناتجة من العلاقة الفاترة بين الإنسان وآلات الحضارات المادية مثل التلفزيون والكمبيوتر وغيرها، التي تعزل الإنسان عن المجتمع وتفكك الأواصر والعلاقات.

وفى تأثر متبادل تنعكس كل هذه التصورات على النص المسرحي، إذ إن تراكم الخبرات يولد الإبداع، وتراكم الإبداع يجسد التاريخ ويؤصل للمستقبل وهذا هو ما سار إليه المسرح الفلسطيني بتيار الكتابات المسرحية العريض الذي قدمه على مدار السنوات الماضية، هذا التيار الذي تقارب في التوجهات وتباعد في التماسك والتعاضد والتواصل فيما بينه وبين عناصره المشتتة.

*** ما هي ملامح المسرح الفلسطيني التي تتوقعها في المستقبل القريب؟

إن المسرح الفلسطيني مطالب في مستقبله بالعمل الحثيث لتحقيق المعادلة الصعبة بين الإمتاع والفائدة، والفن والحياة، والجمال والوضوح، وقد يحقق هذه المعادلة الصعبة في العمل الواحد؛ فيحظى بالتميز والتفوق، وقد يحقق بعض ذلك في عمل؛ وبعضه الآخر في عمل آخر؛ مما يمنحه القدرة على الوصول إلى أكثر من فئة، ونحن مع الإبداع أينما سار، فتعددية المستويات وتعددية  الرؤى الفنية ظاهرة صحية، والجمود على شكل واحد ومخاطبة فئة دون أخرى ظاهرة مرضية، وينبغي أن يتم علاجها وتجاوزها، ولذلك نحن مع المسرحية الشعرية التي تمزج بين جمال المسرح والشعر، ومع المسرحية الواقعية التي تستمد شخوصها من الواقع، وتقدم رؤيتها من خلال الهموم اليومية والوطنية، ومع المسرحية الجمالية والرمزية التي تكثف الفكرة وتسمو بالوجدان، ومع المسرحية المستفيدة من الملحمية التي ترسخ الوعي وتنهض بالإنسان، ومع المسرحية التسجيلية التي تنير الطريق وتكشف الحقائق بأسلوب فني له طعمه الخاص، ومع الأوبريت الغنائي الذي يمزج بين الدراما والشعر والغناء، ومع ما قد يجدّ من القوالب التي ترتاد عوالم الإبداع، وتجدد ظاهرة المسرح في طبقاته الفنية المتعددة، وأهدافه الإنسانية الرحبة، فالساحة المسرحية ينبغي أن تكون مفتوحة مشرعة الأبواب للمبدعين والمتلقين والمتغيرات التي تدفع بهم جميعا في سيرها الحثيث والدءوب؛ من بداية نشأة الخليقة إلى أجل مسمى، لا يعلمه إلا الله.

 

                   

الدكتور/ كمال أحمد غنيم:

** يعمل الآن أستاذا مساعدا في الأدب والنقد في الجامعة الإسلامية بغزة.

** عمل محاضرا  في قسم المسرح بكلية الإعلام التربوي في جامعة الأقصى  من عام 1998 إلى 2000

** حصل على الدكتوراه في الأدب والنقد في أغسطس عام 2001 بتقير امتياز مع مرتبة الشرف الأولى من جامعة عين شمس وجامعة الأقصى.

** حصل على الماجستير في الأدب والنقد في فبراير 1997 من جامعة النجاح الوطنية بنابلس بتقدير امتياز.

** حصل على ليسانس اللغة العربية وآدابها من الجامعة الإسلامية بتقدير امتياز.

** يعد من مؤسسي مركز العلم والثقافة، وقد رئس الرابطة الأدبية فيه من عام 1994 إلى الآن

** له مجموعة من الكتب المطبوعة والمنشورة:

   - شروخ في جدار الصمت (شعر) ، غزة، مركز العلم والثقافة، ط 1، 1994

   - تعلم بنفسك (تربوي)، غزة، مركز العلم والثقافة، ط 1، 1996

   - شروخ في جدار الصمت (شعر)، القاهرة، مكتبة مدبولى، ط 2، 1997

   - عناصر الإبداع الفني في شعر أحمد مطر(نقد)، القاهرة، مكتبة مدبولى، 1998

   - شهوة الفرح (شعر)، القاهرة، مكتبة مدبولي، 1999

   - المسرح الفلسطيني: دراسة تاريخية نقدية في الأدب المسرحي(نقد)، القاهرة، دار الحرم للتراث، 2003.

   - الأدب الفلسطيني: أوراق في الأدب والنقد، الجامعة الإسلامية بغزة، مكتبة الطالب الجامعي، 2004.

   - الأدب العربي المعاصر: أوراق في الأدب والنقد، غزة، الرابطة الأدبية، 2005.