حوار مع د. معاذ سعيد حوّى 3

حوار مع د. معاذ سعيد حوّى

حول التربية الإيمانية وأثرها في النفس والمجتمع

(3)

د. معاذ سعيد حوّى

لبنى شرف / الأردن

[email protected]

س6: ما رأيكم في شباب الدعوة اليوم، هل هم بالمستوى المطلوب من التربية الإيمانية؟ هذا عدا عن المقومات الأخرى التي من المفروض توفرها في شخصية الداعية .

ج: مقومات الداعية كثيرة وكبيرة، وكلما كان الزمان معقداً وأحواله غريبة كانت حاجة الداعية إلى إعداداتٍ خاصةٍ ملحةً، وقد يكون المسلم داعية بكلمات قليلة يُبَلِّغُها، على الرغم من قلة عُدَّته وضعف تربيته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بلغوا عني ولو آية " رواه البخاري، وقال: "فرب مبلغ أوعى من سامع" رواه البخاري .

ولكن حينما نتكلم عن شباب الدعوة نفترض ناساً جعلوا أنفسهم للدعوة، ووهبوا أنفسهم لدينهم ونصرته، كالذين قال الله تعالى فيهم:﴿ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾..{آل عمران:104}، وقال فيهم:﴿ فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾..{التوبة:122} .

وإذا لم تكن أهلية هذا الداعية كبيرة فإن أثره سيكون قليلاً، وربما يكون فيه نوع إساءة، بدل الإحسان، على الرغم من قصده الطيب الحسن. فالداعية يحتاج إلى عدة لا بأس بها من العلم والحجة والبرهان والمنطق السليم والقدرة على الاستدلال، ويحتاج إلى عدة لا بأس بها من معرفة الواقع ومعرفة مَن يدعو فيهم، ومَن يُوجِّه إليهم خطابه وتأثيره، ويحتاج إلى قدر عظيم من حسن الخطاب والقدرة على البيان والتعبير السليم عن فكرته، وقدرة على عَرْضٍ سليم لأدلته وحججه، ويحتاج إلى قدر عظيم من الحكمة، ويحتاج إلى أمور أخرى، وكل ذلك له أدلته من القرآن الكريم والسنة .

وكل هذه المقومات والإعدادات متعلقة بالتربية والتزكية عند الإنسان، فكلما كان حالُ العبد مع الله أحسنَ؛ كلما كان أكثر توفيقاً فيها وأحسن أداءً وأعظم تأثيراً. والجانب التربوي للداعية ذو أهمية كبيرة، إضافة إلى أهميته لكل إنسان، ذلك أن الداعية إذا خلا من التربية والتزكية؛ فَقَدَ كثيراً من مقومات دعوته .

فمن لم يكن ذا صبر وحِلْمٍ، وكان غضوباً عجولاً؛ استعجل الثمار والنتائج لم يفلح، وربما يُضيِّعُ جُهدَه، أو يَنعكس مُراده بعجلته وردة فعله وغضبه .

ومن لم يكن متواضعاً هيناً ليناً، فإن فظاظته تحول دون قبول الناس لقوله وعلمه وحجته، فالنبي صلى الله عليه وسلم على قدره ونبوته وحجته ومعجزته، ومع ذلك يقول له الله تعالى:﴿ ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك﴾..{آل عمران:159}، فكيف بغيره، يريد أن يكون فظاً ويريد أن يقبله الناس، وليس عنده مثل حجة النبي صلى الله عليه وسلم ولا مثل معجزته ولا مثل قدْره .

ومن كان يعاني من الرياء، ولم يكن مخلصاً لله في أعماله ودعوته، فكيف يرجو بركة دعوته ونجاحها وتوفيق الله له فيها .

ومن كان غافلاً عن مدد الله وقدرته ومشيئته، ولم يكن متوكلاً على الله، فكيف يرجو نجاح دعوته؛ وهو يعتمد على جهده الضعيف وفكره القاصر، والله فرض عليه أن يعتمد عليه ويستعين به؛ حتى يَقبَلَ عبادته ويُنجح دعوته ويُبارك في عمله ويَنصره في جهاده .

   ومن لم يكن منصفاً، فإنه يتعصب ويقلد بغير حق، فقد يحتقر من يدعوه ويستهين بعقله ورأيه ورأي من يتابعه، على الرغم من احتمال سلامته في بعض الأحيان، خاصة حينما يكون مجال دعوته في المسلمين أنفسهم، ممن يراهم على شيء من الخطإ الفقهي أو الانحراف السلوكي.

والتربية والتزكية تخرج الإنسان من التعصب والسخرية والتعالي، إلى التواضع والإنصاف وحسن الظن والإعذار للآخرين قدر الإمكان .

 ومن كان ضعيف التربية فإن قدرته على دخول القلوب تكون ضعيفة، والداعية إذا استطاع أن يغزو قلب المدعوِّين، بأن يَظهرَ منه ما يستدعي حبهم له وتقديرهم له، فإن كلمته تكون مسموعة قريبة مقبولة، وإذا ظهر منه ما تنفر منه القلوب، بأن يفعل ما يُكرَه لأجله، فحتى لو قال حقاً فإن المدعوَّ يُعرِض عنه وعن قوله .

 ومن لم يسر في طريق التزكية والتربية لم يعرف أهمية توجيه الدعوة إلى القلب مع العقل، فجُلُّ الدعاة يخاطبون العقول، ويقيمون الحجة على الآخرين، ومع ذلك لا يستجيب المدعوّون إلا نادراً، وذلك يعود إلى أن الدعوة تحتاج إلى علم بنفوس الناس وقلوبهم، وأن رفض الحق والجحود به وتكذيبه قد يظهر على الرغم من القناعة العقلية التامة، كما قال تعالى:﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُواًّ﴾..{النمل:14}، فمرض واحد في القلب كالتعالي والغرور والكِبر أو الظلم أو عدم الإنصاف أو الحسد أو الغفلة أو العناد أو اتباع الهوى، أو غير ذلك، يمكن أن يحول دون الهداية ودون قبول الدعوة من الداعي إلى الحق، لذلك نجد في عدد من الآيات أن الله تعالى لم يكن يَرُدُّ على دعاوى الكافرين بالحجة والدليل، بل كان يشير إلى ما عندهم من أمراض قلبية دعتهم إلى رفض الحق، وأحياناً يرُدُّ عليهم بإقامة الحجة عليهم، والداعية ينبغي أن يسير في دعوته على الطريق الذي يعلمه الله إياه في كتابه، كما يحرص أن يسير على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. فلا يكفي أن نقيم الحجة على الآخرين، بل لا بد أن نكون عالمين بالنفوس ومداخلها وأمراضها، حتى نستطيع أن نتعامل مع كل حالة بحسبها، فنوجه الخطاب بالطريقة التي تنبه إلى المرض القلبي، وبالطريقة التي تستخرج المرض من القلوب، إن أمكن ذلك، مع ما نقدم من حجة عقلية علمية، ولا يستطيع أن يملك الإنسان هذا ما لم تكن له تجربته القلبية النفسية التربوية .

س7: لا بد و أن يكون هناك أثر للتربية الإيمانية في النفس أولاً، وفي المجتمع ثانياً، فما هي الآثار المرجوة من هذه التربية؟

ج: يحتاج كل مسلم إلى تربية إيمانية تزكيه وتطهره وترقيه، كما يحتاج الطفل إلى تربية يُنَظَّف فيها من الوسخ والخبث، ويُطعم فيها فيأخذ طاقة وقوة وبقاءً ونماءً، ويُحفَظ فيها من الأذى والبرد والحر من خلال اللباس والمسكن، ويُعَلَّم ما ينفعه، ويُحذَّر مما يضره، حتى يكبر ويصير راعياً لنفسه، عارفاً بمصالحه، قادراً على قضاء حوائجه، ثم يكبر ليصير مربياً لغيره وراعياً لغيره ومعلماً وقاضياً لحاجاته .

وكذلك تربية الإيمان في النفس، فالمربي يعمل لتطهير الإنسان من أفكاره الفاسدة وأقواله الباطلة وأعماله المنحرفة، ويدله على ما يرقيه ويزيده ويُنَوِّرُه ويزيده أجراً ومقاماً وقرباً، ويحذره مما يضرُّ إيمانه ويجنبه إياه إن استطاع، وينصحه فيما ينفعه ويقربه إليه إن استطاع، فلا يزال يزداد حتى يبلغ أعلى درجات الإيمان، ثم يصير مُصلحاً لغيره ومربياً، ويكون لصلاحه وجماله أثره في المجتمع، فإذا كان كل فرد في المجتمع مِثْلَه في صفاء فِكره وطهارة قلبه وحُسن قوله وإخلاص عبادته وسلامة معاملاته وجمال خُلُقه وأناقة مَظْهَرِه وإحسانه إلى غيره، فإذا كان كل فرد في المجتمع مثلَه يكون مجتمعاً مثالياً في الحق والعدل والإحسان والتعاون على الخير وحفظ المجتمع من كل سوء وضر وفساد وظلم وحقد وحسد...

ـ لقد أعطى ديننا كل الاهتمام لِتربية الإنسان وتطهيره من سيئاته وإصلاحه وترقيته، وقد سمّى الله تعالى حال الإنسان بهذا الاعتبار تزكيةً، ومما يدل على أهمية التزكية أن الله تعالى جعلها من وظائف أنبيائه، فقال سبحانه:﴿ لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾..{آل عمران:164} .

ـ والتزكية هي التي يستحق بها الإنسان الفلاح والجنة، فلا يكفي علم ولا عمل، ما لم يكن معه تزكية للنفس، قال تعالى:﴿ قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها﴾..{الشمس:9-10}، وقال سبحانه:﴿ وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ العُلَى۝جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى﴾..{طه:75،76} .

ـ إن النفس هي المحل الذي يعلم الحق، وهي المحل الذي يمكن أن يعمل بالخير، فإذا كانت النفس سيئة أو مريضة لم تنتفع مما تعلم من الحق، بل إذا كانت متكبرة معرضة عن الحق صورت الحق باطلاً، ولم تنتفع من الحق ، بل تحاربه، وإذا كانت النفس كسولة مائلة إلى الشهوات تركت الخير ولم تعمل به، لذلك كان لا بد من العناية بإصلاح النفس، حتى تكون مستقيمة طاهرة، لتحمل الحق وتعمل به وتتحلى به. كمثل فاكهة طيبة وضعها إنسانٌ مع القاذورات فلوثتها وأفسدتها، فلن تبقى طيبة، إلا أن يحفظها في بيئة طيبة ويضعها في محل سليم مناسب .

ـ إن هدف المسلم من تربية نفسه وتطهيرها وتزكيتها أن يترقى من حال إلى حال أحسن منه، فلا يزال يرتقي مقاماً مقاماً ودرجة درجة، حتى يبلغ أعلى الرتب، فينال رتبة الإحسان والصديقية والقرب من الله والسبق إلى الخيرات، ويتحقق بالعبودية على أكمل أحوالها، ليستحق بإذن الله وفضله في الآخرة الجنةَ ورضوان الله .

ـ إن التزكية لا تخص الأفراد، بل هي مطلوبة من كل فرد في المجتمع المسلم، ولا يمكن أن ترى الأثر العظيم لتزكية النفس حتى تظهر في المجتمع كله، فتظهر حقيقة العبودية فيه لله، وحقيقة الاستقامة، وحقيقة الخلق الراقي والأدب الرفيع، وحسن المعاملة، وغير ذلك .

ولا يمكن أن تقوم حضارة راقية تُسعِد البشرية إلا على معاملة طيبة وأخلاق راقية، وكل حضارة تنقصها الأخلاق والمعاملات الصالحة فهي مهددة بالزوال، وأذاها لشعوب الأرض وإفسادها وتهديدها بالدمار سيكون أكبر من الخير الذي تقدمه أو تُسعِد به البشرية .

 والتزكية إذا وجدت في المجتمع المسلم؛ فإنها وحدها من أعظم وسائل الدعوة إلى دين الله، فإن الناس إذا رأَوْا جمال خُلق المسلم وحسن معاملته وأدبه وطيب كلامه؛ ينجذبون إليه ويميلون إلى دينه الذي تربى عليه، وأوصله إلى هذا الجمال والرُّقيّ، ألا ترى إلى الإسلام كيف دخل كثيراً من البلاد ـ كشرق آسيا وبعض إفريقيا ـ بأخلاق تجار المسلمين وحسن معاملتهم وصدقهم. واليوم والناس يرون سوء أخلاق كثير من المسلمين، فينفرون من ديننا، ظناً منهم بأن هذه الأخلاق هي أخلاق ديننا، فصار هؤلاء المسلمون بترك أخلاق دينهم سبباً في صرف الناس عن دين الله، أصلحنا الله وغفر لنا .

ـ وإذا زكى الإنسان نفسه صار إنساناً طيباً صالحاً جميل الأخلاق جميل الحال، صالحاً بين يدي الله، محبوباً عند الناس، مرتاح الضمير، سليم التفكير، سعيداً في دنياه وأخراه، فالتزكية تخرِّج رجلاً ربانياً طاهراً زكياً مقبولاً محبوباً خلوقاً عابداً عاملاً داعية مهذباً في قلبه وقالبه، لا تخرِّج مستكبراً ظالماً مبغوضاً مغروراًً وقحاً دعيّاً .

س8: كيف لمن لم يترب تربية إيمانية صحيحة أن يبدأ؟ ما هي الخطوات العملية لتحقيـق ذلك؟

ج: أهم ما يبدأ به الإنسان من الأمور العملية ليزكي نفسه ويربيها:أن يعرف الإنسان حاجته للتربية، وأنه على أي حال كان؛ فإنه يستطيع أن يكون على أحسنَ من ذلك، فيبدأ بنية صادقة عازمة مخلصة لله، ينوي فيها أن يسير في طريق تزكية نفسه وتربيتها، ليُرضي ربه بذلك ويتقرب إليه .

ولا يمكن أن يأخذ الإنسان كل شيء دفعة واحدة، فيجتهد أن يَزِيْدَ في الخير ويُنْقِصَ من الشر بقدر طاقته، وأول ما يُنصح به الإنسان إذا خرج من غفلته وجاء يريد أن يزكي نفسه ويربيها؛ ينصح بما يأتي:

 1. طلب العلم الذي يعرف به عقيدته وأحكام أعماله القلبية والجسدية. فلا بد أن يتعلم الحد الأدنى ـ على الأقل ـ مما يجب معرفته من عقيدة الحق، ومن فِقْه الأحكام، مما يجب على كل إنسان أو يحرم عليه، ومن علم التزكية، ما يكون به سليم القلب طاهر النفس، ومن لم يكن عنده هذا الحد من العلم اشتغل في طلبه مع قيامه بما يأتي ذكره، مما تعلّمه ، أو مما يستطيعه، أو مما يوجهه إليه شيخ صالح عالم صادق .

2. أن يحذر من الشرك والكفر، ويترك ما يناقض الإيمان، إذا كان واقعاً بشيء من ذلك، كمسبة الربِّ سبحانه، أو السخرية من الدين، أو مناصرة الكافرين ومحبتهم، وغير ذلك.

 3. أن يحرص على فعل ما يقوم به الإيمان، كقول الشهادتين، إن لم يكن قد أسلم .

4. أن يحذر من المعصية والبدعة إن كان عنده شيء منها، ويحذر خاصة من ذنوب اللسان ونظر العين إلى المحرمات. ويبدأ تطهير نفسه من معاصيه وذنوبه وشهواته وانحرافاته بالاستغفار والتوبة والندم من المعاصي والكبائر إن كان اقترف شيئاً منها، ويرد المظالم، إذ لا بد للعبد إذا أراد أن يُقبِلَ على مولاه ويطلبَ منه رحمته وهدايته؛ لا بد أن يقدِّم اعتذاره ابتداءاً مما فرط منه من مخالفة أحكام الله وعصيانه، وذلك بالتوبة والاستغفار .

 5. الاهتمام بإتيان الفرائض ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم .

6. المحافظة على الصلاة في أول وقتها، والمحافظة على صلاة الجماعة .

7. اتخاذ أوراد من القرآن والذكر والدعاء، مع الحرص على الدوام على الذكر.

8. اتخاذ صحبة من الصالحين إخواناً وشيوخاً، والحرص على مجالسهم ومجالستهم، وترك الصحبة الفاسدة إن كان له صحبة سيئة .

9. يَحْذَر من طاعة الشيطان وهوى النفس، ويهتم بمجاهدة نفسه في ترك المعاصي، وإتيان الطاعات، وما يعين على التزكية، من اعتدال في طعام ونوم، وقلة كلام .

10. الحرص على ترك الأخلاق السيئة والعادات القبيحة، ويحرص على التخلق بالأخلاق الصالحة والآداب الكريمة .

11. أن يتعرف على حقيقة الدنيا، ليخرج من قلبه التعلق بها، ويتعلم ما يعرّفه على قدر ربه وآخرته، ليتعلق قلبه بهما، ويتعلم كيف يتعامل مع الدنيا وما يأخذ منها وما لا يأخذ، حتى لا تكون سبباً في غفلة قلبه، وانشغاله عن ربه وعن العمل لجنته ورضوانه .

 12. أن يتأكد من أن عمله الدنيوي مباح وأن أمواله تعمل في حلال، وعليه حتى يطمئن في ذلك أن يدرس ما يتعلق بأعماله من أحكام فقهية، أو يسأل أهل العلم عنها .

13. أن يبحث عن شيخ صالح عالم صادق، وإذا وجد شيخاً عالماً مربياً مستقيماً يصاحبه، ليتولى تربيته ودلالته وتعليمه من خلال دروسه ومجالسه، ولا تخلو الأرض والبلاد من صالحين، فمن صدق في البحث عنهم؛ دلَّه الله على أوليائه العالِمين العاملين، ومن لم يجد شيخاً يرتاح إليه ويثق بدينه وتربيته ولم يجد صحبة صالحة؛ فليجعل من كتب التزكية المحررة وفق العلم الشرعي والتي تنهج منهجاً سليماً؛ ليجعل من تلك الكتب مُعَلِّماً له ومُذَكِّراً ودليلاً .

فهذه الأمور إذا اهتم بها الإنسان؛ فَتَحَتْ له باب كل خير، وأغلقت عليه باب كل شر، وكانت سبيله للترقي إلى أعلى المقامات، بإذن الله وتوفيقه .

·  ختاماً.. نريد من حضرتكم كلمة أخيرة توجهها إلى كل من يطمح إلى تحقيق التربية الإيمانية الصحيحة، سواء كانوا معلمين أم مربين أم أئمة و خطباء، في المدارس والجامعات والمساجد ومراكز تحفيظ القرآن، فلعلهم يوحدون جهودهم ويضعون المناهج والخطط، ولعلها تعود حِلق العلم في المساجد، فتوحيد الجهود والطاقات وتكاملها خير من تشتتها وتبعثرها .

ج: ما دامت التربية الإيمانية واجباً على كل مسلم، وما دامت التزكية يجب أن تتحقق في كل مسلم، فعلى العاملين للإسلام ـ علماء ودعاة وعاملين ـ أن يعطوها القدر الكبير الذي تستحقه من الاهتمام، من خلال بيان أهميتها، والدعوة إليها، وبيان جوانبها، والحرص على العمل بها. ومن كان حريصاً على جانب من جوانب ديننا العظيم فلا ينبغي أن يهمل معه هذا الجانب مهما كان الجانب الذي يقوم به مهماً، فلا نفع من شيء من غير تزكية، فالعالم لا ينفعه علمه بلا تزكية، والعابد لا تنفعه عبادة بلا تزكية، والسياسي لا تنفعه سياسته من دون تزكية، وصاحب المال لا ينفعه ماله بلا تزكية، والمجاهد لا ينفعه جهاده بلا تزكية...

ـ ولا ينبغي لأحد أن يظن أن التربية والتزكية تقطع عن نواحي الحياة أو تضعف نشاطات العاملين للإسلام، أو تعني ترك الدعوةِ والأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر والجهادِ، فمن ظن التزكية كذلك فقد أخرجها عن حقيقتها، بل التزكية هي التي تصنع هذه الأمور وهي التي توجهها توجيهاً صحيحاً سليماً نافعاً.

ـ إذا كان من واجبات الأمة ـ بأفرادها وجماعاتها ودولها ـ أن تهتم بإيجاد قادة منها يتصفون بالتزكية والطهارة والعبودية في نفوسهم، ويجمعون العلم الواسع الراسخ إلى العقل والذكاء، ويعرفون الواقع ويحسنون التعامل معه، إذا كان هذا من واجب الأمة فمن واجبها حتى تصل إلى هذا الهدف أن تسعى إلى إيجاد علماء راسخين في العلم مجتهدين، وإلى إيجاد عارفين بالواقع يحسنون التعامل معه ضمن القواعد الشرعية والضوابط الفقهية والمبادئ الاعتقادية، وإلى إيجاد مربين متميزين، ليكون القادة نتاج تربية وتعليم وتدريب هؤلاء الذين تميزوا في أحد الجوانب الثلاثة.

نجد كثيراً من الشباب العاملين الصادقين يرغبون في ترقية أنفسهم وتطهيرها من بقايا الرياء والذنوب والغفلة، لكنهم إذا بحثوا في الواقع عن مربين وجدوا مربين تظهر منهم بعض المعاصي، أو وجدوا مربين ضعفاء في العلم والفقه، أو وجدوا مربين يحفظون الأحاديث الضعيفة والموضوعة أكثر مما يحفظون من الأحاديث الصحيحة، أو وجدوا مربين يغفلون عن مسائل في العقائد أو يقعون في ما يخل بالإيمان والعقيدة الحقة، أو وجدوا مربين يحملون من الحقد على بعض فئات المسلمين أكثر من الحقد على الكافرين، أو وجدوا مربين منعزلين عن المجتمع والدعوة فيه...

فلا يجدون المربي الذي ترتاح إليه نفوسهم، فيبقى هذا الأمر محل نقص عندهم، لذلك لا بد أن تسعى الأمة إلى إيجاد المربين المتميزين..مُرَبِّين يشكلون نماذج صالحة في أنفسهم..مربين تشبعوا من العلم الشرعي ـ عقيدة وفقهاً وتزكية وتفسيراً وحديثاً وأصولاً ـ بالقدر الذي يرتاح إليهم الصادقون وطلاب العلم والراغبون في تزكية النفوس..مربين جمعوا إلى ذلك حمل هَمِّ الأمة والحرص على العمل فيها..مربين قد ابتعدوا عن الخوض في المشكلات والأوهام الشطحات، وتخلصوا من البدع وحاربوها..مربين قد امتلأت قلوبهم رحمة على الأمة وعلى الخلق وعلى المؤمنين.

ـ وعلى أصحاب الأموال من المسلمين أن يدعموا بأموالهم تلك المشاريع التي تسعى لتخرج علماء ومربين ودعاة وقادة، فذلك من فروض الكفاية التي يجب على المسلمين أن يبذلوا أموالهم لها.

ـ وعلى شبابنا الصادق، إذا لم يجدوا المربين الكاملين، أن ينتفعوا ممن له باع في التربية ولو على نقص، فينتفعون منهم، ويكملون أنفسهم من خلال القراءات والمطالعات، وإذا لم يجدوا مربياً كاملاً أخذوا التربية من شيخ، والعلم من شيخ آخر، والدعوة من شيخ آخر، حتى يصير هؤلاء الشباب هم الكاملون في المستقبل، الذين يجمعون بين العلم والتربية والعمل والدعوة وغير ذلك مما تحتاجه الأمة...

ـ كل مسلم على ثغرة، ولا يمكن أن يكون كل الناس واحداً، ولا يمكن أن يقوم فرد أو شيخ أو مرب أو جماعة بكل ما تحتاجه الأمة، وكل مسلم له جهده، وكل جماعة لها جهدها، ولها ثغرتها، فعلينا أن نحترم جهود الآخرين، وأن ننصحهم ليكملوا الجانب الذين شمروا له، وليقوموا بالثغرة التي حبسوا أنفسهم لحراستها، وعليهم أن يسمعوا النصح، ثم ينظروا بصدق إن كان في محله قبلوه، وإن لم يكن في محله شكروا الناصحين لحرصهم على خيرهم. فإذا فعلت جميع الجماعات ذلك كانت أقرب إلى الخير، وكانت واحدة في تحقيق أهدافها، كما أمر الله تعالى:﴿..أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه..﴾..{الشورى:13} .

ـ على العلماء والدعاة والعاملين أن يهتموا بكل جانب وبكل موقع، وعليهم أن لا يشتتوا جهودهم ويضيعوا أموالهم بتكرير الجهود، فمن وجد جهداً قام به غيره، فلا ينبغي أن ينافسه فيه، ويعمل مثل جهده، فيبذل الأموال والأوقات والرجال والجهود والطاقات، ثم تكون النتيجة كما فعل الأول، بل واجبنا أن ندعم الموجود ونكمله، وننشغل بشيء مفقود ونوجده.

فليس المهم أن نوجد أكثر من مجلة وأكثر من فضائية وأكثر من موقع الكتروني، بل المهم أن يكون الموقع متكاملاً فيه كل ما يحتاجه المسلمون والدعاة، لنتوجه جميعاً إلى ذلك الموقع ونكون جنداً فيه ومستفيدين منه، بدلاً من أن توجد عشرات الألوف من المواقع التي يتكرر كثير من جهدها وموضوعاتها وتنفق عليها الأموال الطائلة، هذا فيما يتعلق بالمواقع العامة، أما المواقع الخاصة فلا ينبغي أن يحرص أحد أن يوجد موقعاً إلا أن يكون فيه ما هو متميز في موضوعاته وفوائده.

والمهم أن تكون القنوات الفضائية تلبي حاجيات الأمة، مِن خطاب الكافرين، وتوجيه المؤمنين وتعليمهم، وتربية الأطفال، مِن حل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها... فليست الفائدة في كثرتها، بل الفائدة في تكاملها مع قلتها، أما عندما تكثر فتصير منافسة لبعضها فكأنها تشوش على بعضها، وكأنها تشغل عن بعضها، وتكرر الجهود، وتنفق الكثير من الأموال، وتشغل الكثير من الرجال، والنتيجة واحدة أو متشابهة، أو ربما متناقضة.

 وهكذا. . سعياً إلى إيجاد مرجع إسلامي واحد للناس كلهم؛ مسلمهم الذي يبحث عن دينه، وكافرهم الذي يريد أن يتعرف على هذا الدين.

ـ ومالم يوجد تخطيط، وتحديد للأهداف، ومعرفة بما يحتاجه الواقع، ومعرفة بما هو موجود من الجهود المطلوبة، وما هو غير موجود، ثم تحديد المطلوبات وأهمها، وتحديد كم تحتاج من المال والرجال والكفاءات والمتطلبات والوقت، ثم تنظيم إيجادها والتعاون عليها، وتحديد أحسن من يقوم بها من المتخصصين، ثم تنفيذها ومراقبة تنفيذها ومدى نجاحه...ما لم يوجد كل ذلك، ومالم توجد جهة تأخذ على عاتقها القيام بهذا التخطيط والتوجيه، وتكون محل احترام عند المسلمين وجماعاتهم؛ فطبيعي أن نبقى على حالنا من التفرق والتكرر والتشتت وتضييع الجهود والأموال، مع قلة النتائج .

ـ يجب على المسلمين أن يُعِدوا من المربين ما يكفي لكل موقع، وما يناسب كل موقع، مُرَبٍّ لكل مسجد، مرب في كل مدينة، مرب في كل قرية، مرب في كل حيّ، مرب للكبار، مرب أو مربية للنساء، مرب للأطفال، مرب في كل مدرسة، مرب في كل مؤسسة، مرب في كل تخصص في الجامعة، مرب يوجه من خلال الإذاعة، مرب يوجه من خلال التلفاز، مرب يوجه من خلال موقع الانترنت، مرب يوجه من خلال المجلات والجرائد...

ـ ولا بد أن توجد للأمة جهة من العلماء والمربين تخطط للجوانب التربوية، وتُعِدُّ المناهج المناسبة لكل موقع، فما يناسب الأطفال والمبتدئين من مناهج التزكية، لا يكفي للمراهقين، وما يحتاجه المبتدئ في طريق التربية والتزكية أقل وأهم مما يحتاجه المتوسط والمتحقق، وما يريده الصالحون أكبر من يحتاجه العامة، وما تحتاجه النساء والشابات يختلف قليلاً عما يحتاجه الرجال والشباب، وما يحتاجه العالم من تزكية يختلف شيئاً ما عما يحتاجه العامل والموظف والنجار والحداد، وما يناسب الطبيب والممرض من علم التزكية يختلف شيئاً ما عما يحتاجه الشرطي والجندي والمخابراتي، وهكذا.

ـ ثم لا بد أن تحرص الأمة الإسلامية وقادتها من العلماء العاملين الربانيين على إيجاد النموذج العام الذي يحمل التزكية، فإذا كان في الأمة الإسلامية عشرات الألوف ممن تزكى وتربى إيمانياً أحسن التربية، لكنا لا نكاد نجد بيئة عامة ولا مجموعة ولا مجتمعاً يمثل النموذج التزكوي الإيماني في صلاحه وجماله وأخلاقه ومعاملاته وعباداته وسياساته واقتصادياته واجتماعياته...

وهذا المجتمع التزكوي هو الذي يمكن أن يكون رسالة واضحة للعالم تحمل قيم الإسلام وجماله وحضارته وأخلاقه ودواعي قبوله والاقتداء به.

وإذا لم يستطع المسلمون ذلك لظروف معلومة، فلا أقل من أن يسعى أهل التربية والعلم والمال مع أهل الفن والإنتاج والإخراج لإنتاج فيلم أو مسلسل، يعطي صورة نموذجاً لهذا المجتمع التزكوي بحيث يكون شاملاً للجوانب الفكرية والعقائدية والعبادية والمعاملاتية والسلوكية والأخلاقية، شاملاً لما يناسب الصغار والكبار، والذكور والإناث، شاملاً لشرائح كبيرة من المجتمع ... فربما يكون بذل المال والجهد في مثل هذا الفيلم أولى وأعظم أثراً في العالم من أي جهد دعوي آخر، إذا أنتج بعناية فائقة في فكرته وحواره وإخراجه، تحت إشراف الكبار من العلماء والمربين والعاملين المخلصين.

نسأل الله تعالى أن يفتح لهذه الأمة أبواب الدعوة والخير والنصر والعز والتمكين... والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بارك الله فيكم ونفع بكم.