حوار مع الأستاذ عبد الواحد علواني الباحث السوري

حوار مع الأستاذ عبد الواحد علواني الباحث السوري 

علاء الدين آل رشي

عبد الواحد علواني حفار مثقف في معرفة الوظيفة التربوية يكتب بتميز وينقد بوعي ويؤسس لمدرسة تبصر متغيراتنا وتدرك عبء الفكر التربوي المطلوب يراهن على الإنسان بوصفه أداة التغيير كتب وأسهم في ترشيد العقل العربي التربوي ويعد من أوائل  الطليعة الرائدة من التربويين السوريين

 

السؤال الأول العملية التربوية تحتاج إلى كثير من التجديد وعلى الرغم من موروثنا التربوي الرائد الذي يحذر من الاستنساخ التربوي ألا أننا نجد الوالدين يريدون من أبنائهم نسخا مكررة عنهم وقد قال عمر بن الخطاب ربوا أولادكم على غير ما ربيتم عليه فانهم ولدوا لزمن غير زمانكم كيف نربي أولادنا على تقدير ذواتهم وعلى استقلاليتهم وماهي آلية ذلك؟

 

 

ثمة قيم ثابتة لا يمكن لها أن تتبدل، كالصدق والأمانة والشجاعة والأدب مثلا، وثمة قيم متبدلة ونسبية تتعلق بقيم أخرى تتفرع أساسا من القيم الثابتة، مثل الاحترام والإقدام والتسامح والتعاون وغير ذلك، فهي متحولة ومتبدلة ونسبية بحدود أوسع بكثير، وفي الجانب القيمي يبدو التحول الاجتماعي وتغير الأزمنة كما يعبر عنه ببساطة، مسألة شائكة طوال التاريخ، فشكوى الأجيال السابقة من الأجيال اللاحقة لا يختص بها زمن أو بقعة جغرافية أو ثقافة معينة، وبقيت مسالة إشكالية لا تتخامد، وحتى في هذا العصر حيث يفترض بالمنجز الفكري في مجالات التربية وعلم الاجتماع والتحليل النفسي أن يخفف حدة الانتقاد، فإن واقع التنميط الثقافي الكوني يفرض تحديات أدهى وأمر مما يجعل البيئات الثقافية تنكفئ على نفسها وتحاول ممارسة رقابة وصرامة أكبر مع الأجيال الجديدة لئلا تنجرف مع الاتجاهات الجديدة.

ويبدو لي أن الاتجاهات الجديدة المليئة بالقيم البديلة أو المغايرة تسبب المزيد من الرعب عند بيئات كبيئتنا لأنها تعني حقيقة التحول عن الهوية الخاصة إلى هوية أخرى بشكل يماثل تبديل المعتقد أو التحول من دين إلى آخر، بينما الاتجاهات الفارغة من المضمون والمتعلقة بمظاهر وشكليات لا ترقى إلى ذلك الرعب. مع أنها تهدد ببنية فارغة من الأهداف وربما ضائعة. بمعنى أن تكون الأجيال الجديدة تائهة غير متمايزة مقبول اكثر من كونها ذات ثقافة تغريبية مثلا.

الآن يبدو لي أن المسألة ما عادت في سياق تطور اجتماعي، إنما هي الآن رهن هيمنة إعلامية، ولئن كانت الرقابة بين الأجيال تتعرض لنظرات مختلفة سابقا، فإنها الآن تصبح ضرورة قصوى في راهننا، ولشرح الفكرة نعود أساسا إلى مفاهيم التنشئة التي هي تحويل الكائن البيولوجي الوليد إلى فرد يتمتع بخصائص ثقافية وفكرية وسلوكية تقارب خصائص المجتمع الذي يعيش قيمه وينتمي إليه، هذه العملية التربوية الشاملة تعني تشكيل هوية الفرد، وربطه بانتماء ديني ثقافي اجتماعي خاص. وكانت العملية تتم في المجتمعات التقليدية عبر شكل عفوي حياتي من خلال انخراط الفرد في المجتمع، إضافة إلى الشكل المؤسسي المتمثل في حلقات الكتاب أو إرسال الناشئة إلى البادية، حرصا على التعود على شظف العيش، وكذلك لفصل الأبناء عن الآباء لفترات يتعلمون خلالها مواجهة الحياة وقسوتها بعيدا عن طابع التنعم والتخفيف والرحمة الممارس من الوالدين عادة. أما في راهننا فالوسائل الإعلامية والقيم المصاحبة لأهم منتجات الحضارة المعاصرة من تقنيات، ووسائل الاتصال الحديثة، هذه الوسائل باتت تربي الأجيال الجديدة بدرجة مرعبة قد تصل في نسبتها العامة إلى ما يتجوز النصف بكثير، أي أنها تكاد تنفرد بتربية الأجيال الجديدة، وهي تربية فكرية وثقافية وسلوكية، بل إنها تربية جمالية واجتماعية أيضا، بمعنى آخر فإن هذا الفرد مؤهل للانفصال التام عن مجتمعه، وهو مشروع اغتراب وعطالة كاملة.

وإذا كنا نميل إلى فسح المجال للأجيال الجديدة، لتختار اتجاهاتها الحياتية وأنماط معيشتها وأساليب تواصلها، بمعنى آخر شكل وجودها و حرية الدفاع عن خصوصيتها وهويتها، فإننا أيضا نميل إلى تكثيف الجهود والتدخل المكثف بوسائل مدروسة لمنع نشوء أجيال جديدة لا تشعر بأي انتماء لمجتمعها وتركض خلف القيم الاستهلاكية لعصر استهلاكي متسارع، وتنسى في غمرة انبهارها بالعصر وملامحه الجديدة كل قضاياها وأهدافها العامة والخاصة، ولذلك لا يمكننا أن نذر أولادنا وزمانهم، حتى لو لم يكن زمانهم زماننا، لأنه لن يكون زمانهم أيضا وهو بهذه الملامح المشوهة.

المرحلة دقيقة والخطورة قائمة وتنذر بضياع شامل، والوعي التربوي ضرورة أكثر من أي مرحلة، والحرص على التواصل مع الأجيال الجديدة أمر حيوي وأساسي للوقوف في وجه آلة التنميط الثقافي الجارفة.

 

 

 


السؤال الثاني
في المشاريع التغييرية العربية المعاصرة  هناك تغييب لمفهوم الطفولة وليس من تعويل على الأطفال  وقد أشار إلى ذلك الدكتور عبد الحميد أبو  سليمان ما هو سبب ذلك هل هو عدم مقدرتنا على التعامل مع الطفل أم لثقل العملية التربوية التي تخضع لموروث شعبي منهك بالقسر وقهر الإمكانيات

 

حقيقة تخضع الطفولة لمفاهيم و رؤى أقل ما يقال فيها أنها عاطفية إلى درجة مبالغ فيها، واعتباطية إلى درجة عبثية، وما زالت الطفولة خارج فهمها، مع أن المنجز التربوي في تراثنا و ما استجد من منجزات للحضارة المعاصرة في مجال فهم التنشئة وتعريف الطفولة وتوصيفها وإدراك أساليب التعامل معها وتوجيهها هي حقيقة إنجازات هامة وأساسية، ولكن هذه الإنجازات القديمة والحديثة لم تدخل في بنية الممارسة التربوية اجتماعيا، وما زالت الممارسة الاجتماعية مرهونة بفهم تقليدي عفوي، ومع الحياة المعاصرة التي تلقي بثقلها على أكتاف الأسرة المعاصرة نجد أن الوالدين قد غادرا المنزل أو انشغلا عن المنزل بمتابعة التلفاز أو الانشغال بالاتصال الهاتفي أو أي أمر آخر، ولذلك فقد الأمل في أن يكون هناك فهم لاحق، وان كان يقال إن الطفل الأول يربي الوالدين ليقوما بتربية بقية الأبناء، فإن هذا الأمر أيضا لم يعد موجودا، ولذلك من الطبيعي أن نجد أن أسرة فيها عدد من الأبناء الذين بلغوا وكبروا ولا زال الوالدان مشغولان ولم يتفرغا لتربية أبنائهما بعد، أن الموروث الشعبي على الرغم من كل العلل التي تنتابه، كان أكثر جدوى من الإهمال المعاصر.

والمشاريع التغييرية إسلاميا وعربيا تفتقد بالدرجة الأولى الجدية، ولذلك نجد أنها تبحث في ترتيب عالم الكبار دون أن تفقه أن عالم الصغار هو العالم القادم للكبار، وأي خطة

طموحة وواقعية تحتاج إلى جيلين أو ثلاثة حتى تؤتي أكلها وخاصة عند الأمم المتخلفة عن ركب الحضارة المعاصرة، ومع ذلك لا يتم التوجه إلى عالم الأطفال إلا من قبيل المجاملة أحيانا وبنوع من النفاق الواضح للاتجاهات العالمية أو المجتمعات الأكثر تقدما، وما زلنا عاجزين عن فهم الطفولة كمفاهيم مستقلة وخاصة ومرحلية ولازلنا أيضا نراوح مكاننا في فهم حقيقة أساسية عبر أحدهم عنها تعبيرا لطيفا ودقيقا بقوله: أن الأطفال هم نصف الحاضرين، ولكنهم كل المستقبل!

فأين نحن من التخطيط للمستقبل ونحن نهمل الطفولة ونتركها تنمو على قارعة اهتماماتنا الاستهلاكية وانشغالاتنا الفنية والإعلامية والإعلانية.

 


السؤال الثالث:يزعم سقراط أن العلم لا يعلم بل يكشف عن طريق الحوار كيف نسهم في دعم ثقافة السؤال والحوار عند أبنائنا بحيث نبتعد بهم عن كل أساليب التلقين والحشو إلى الرياضة الذهنية التي تعتمد على التحليل والنقد والمثاقفة

 

عندما تكون الثقافة السائدة ثقافة تقليدية لا يمكن لها آن تفرز أساليب تربوية قائمة على الحوار والتبادل، وثقافتنا لا تزال تقليدية ولا تزال مليئة بعلل التوقيف والتعطيل والحذر من الاستقلال الفكري، كيف يمكن لهذه الثقافة أن تنتج عقلا محاورا، وكيف يمكنها أن تعلم الأجيال الجديدة الحوار وهي لا تتقن فن السماع بعد.

لا يمكن لثقافة الحوار أن تقوم بمعزل عن قابلية السماع، ولذلك يبدو لي عسيرا أي إنجاز بنيوي في هذا الإطار حاليا. وان كانت مؤشرات هامة تدل على الأقل على أن فهما جديدا يلوح في الأفق، فالحوار بدأ يشيع في مجتمعاتنا الآن، ربما بسبب الإعلام وربما تكون هذه أهم مأثرة للإعلام المعاصر الذي نفذ على أعماق نفوسنا وفكرنا ومجتمعاتنا. وخاصة الشعارات الرنانة والطنانة التي ترفعها الوسائل الإعلامية المعاصرة، فهي وإن كانت غير حقيقية فإنها على الأقل تكرس هذه المفاهيم كقيم عليا مستجدة على نحو واسع وجماهيري، ولكن هذه النهضة الإعلامية سرعان ما قضينا عليها بنزوات الرأسمال العربي الأحمق والوضيع والعديم المسؤولية، وخاصة في توجهه الرخيص نحو أعلام استهلاكي رقيع وخليع ومستهتر، مع إعادة إنتاج لقيم التميز والشهرة والنجومية بحيث باتت مرتبطة بالانحلال والخلاعة والاستهتار وفقدان الوجه والهوية. وكذلك في توجهاته الاستهلاكية الأخرى المتمثلة في الاستثمار  في مجالات لا تنفع الأمة.

ثقافة الحوار لا تعني الاستهتار وإفساح المجال للرخيص والممجوج بغزو حياتنا، ثقافة الحوار ثقافة إنسانية أصيلة يجب إعادة تأسيسها على كل المستويات شرعيا وفكريا وثقافيا وتربويا واجتماعيا، ثقافة لا تقبل الادعاء، والاهم من كل هذا أن نؤسسها وننميها كثقافة أصيلة، وكسلوك إستراتيجي ودائم، لا كتكتيك مرحلي ينقضي بزوال الضعف‘ بحيث يكون الحوار سلاح المستضعفين فقط.

من المهم أن ننمي ثقافة الحوار مع كل ما يحيط بالطفل حوار مع الأقران حوار مع الأكبر والأصغر حوار مع البشر والكائنات الحية والجماد والطبيعة برمتها، حوار مع التاريخ والجغرافية والعلم والتراث والإبداع، حوار مع الفكر والإنسانية والنبوة، حوار مع الخالق والمخلوقات. هذ1 مفتاح الشخصية المتوازنة والحضارية والتي تصنع التاريخ الحقيقي للشعوب.


السؤال الرابع تربية المرأة يشير الدكتور عبد الكريم بكار إلى أننا وجهنا 80% من جهودنا نحو ظاهرها و20 % إلى عقلها وملكاتها الذهنية ما هي رؤيتكم حول تربية المرأة بعيدا عن أي قراءة تختزلها وفق مفردة جنسية وتقدمها كما حررتها الرسالة الإسلامية جناحا من أجنحة البناء والنهوض ؟

 

الجندر وفق الرؤية الإسلامية يتباين كثيرا بين تيار وآخر، ولا يمكن حسم هذه المسألة ببساطة، وإذا بسطنا الأمر فهذا يعني أننا ننتصر لأيديولوجيا معينة ولسنا جادين في حل المشكلة العويصة، لقد أصبحت المرأة عبئا على الثقافة الإسلامية في وقت متأخر مع أنها كانت من مميزات الإسلام ومدعاة للتفكير فيه والإيمان به كمدخل لهذا الدين، إن أي ادعاء بأننا نتعامل مع المرأة بعيدا عن التمايز الجنسي هو مجرد ادعاء فارغ، فلا زالت نظرتنا مفعمة بالذكورية المستنبطة من عهد الجواري والغلمان، ولا زلنا نتفاخر بفتات الحقوق التي نتفضل بها عليها، ولا زلنا نؤول النصوص والأحكام بفم جاهلي لا يرى في المرأة أكثر من آلة للمتعة، بل لا زلنا نربي المرأة على أن تكون آلة للمتعة ولفنون الإغراء والاستمتاع السقيم، وإذا فكرنا في وضعها المزري وحاولنا إصلاحه بالادعاء بأننا يجب أن نميل للحداثة دفعناها للتعري والانحلال، أن جوهر الأزمة في ثقافتنا النفاق في أهم القضايا والتحديات، ثمة أمم بأكملها داخل الدائرة الإسلامية مشغولة بالتفنن في اضطهاد المرأة وكتم أنفاسها، ثمة أمم تصرف طاقاتها وأموالها في ضبط هذا الأمر باسم الإسلام، ثمة من يطالب إلى الآن أن لا تخرج المرأة من منزلها إلا مرتين، مرة إلى بيت زوجها، ومرة إلى قبرها! ثمة من لا يزال مصرا على توجيه المرأة أن تلتزم جحرها كأعلى قيمة يمكنها أن تقوم بها، وثمة من لا يزال يعلمها من الصغر كيف تكون نعلا لزوجها.

مع الأسف نحن جعلنا ولاء المرأة للرجل أكثر أهمية من ولائها لربها، ولذلك أصبحت الأخلاق رهنا بالسلطة والهيمنة، لا بوازع داخلي ومراقبة للخالق، وهذا ما يجعل أكثر البيئات التزاما تتعرض لهزات ماحقة لا تتعرض لها البيئات المفتوحة تماما.

تربية المرأة مدخل هام إلى بناء شخصيتها المستقبلية، علينا أن نقدم المرأة على أنها لا تتخلف عن الرجال في صفوف الصلاة لعلة فيها بالضرورة، بل من المرجح أن يكون هذا لعلة في ذهنية الرجل الاختزالية والمائلة باضطراد جهة النزوات والشهوات. لذلك لا يضيرها أن يكون الرجل أمامها وهي بين الخالق عز وجل، بينما يشك كثيرا بخشوع الرجل وأمامه امرأة تصلي!

الثقافة التي تراقب حركات وسكنات الأنثى منذ أن تكون رضيعة إلى تصبح جدة ثقافة مريضة، الثقافة التي تحصي عليها أنفاسها ودقات قلبها ثقافة غبية لا تمت لدين عظيم كانت له حضارات. هذا الجندر القميء لا يمت للشريعة بصلة، فالجندر الإسلامي جندر بيولوجي تكويني، وليس جندرا أخلاقيا، ولا تمايز في الثواب أو العقاب بين ذكر وأنثى إنما التمايز يكون في فوارق أخرى لا علاقة للاختلاف الجنسي بها، فعقوبة الزناة لا تختلف بين رجل وامرأة بين شاب وفتاة، ولكنها تختلف بين العزوبية والزواج.

لذلك فإن مراجعة ثقافتنا التقليدية في تنشئة البنين والبنات تحتاج إلى مراجعة شاملة، ويجب إلا تترك للتقليد الأجوف الذي ما زال يصر على اضطهاد المرأة.


السؤال الخامس
العملية التربوية تخضع إلى التأكيد والإلزام أكثر من ميلها إلى تقديم البرامج الذكية والواعية التي تنقل القيمة الأخلاقية من حيز التصور والتأكيد إلى الواقع فمثلا عوضا عن التأكيد على أن الصدق فضيلة والاكتفاء بهذا كيف نسهم في ترسيخ هذه الفضيلة في حياة أولادنا المعاصرة ؟

 

إنك ولا شك تؤكد على أهمية التربية العملية، وأنا أشاركك الرأي أخي، التربية العملية باتت في الأفق المنظور لمجتمعاتنا، وثمة مؤسسات تتزايد باستمرار وهي تنحو هذا المنحى، قد لا يكون نموها مرضيا ولكنه على الأقل يدل على أن الفكرة باتت موجودة وعلينا تنميتها من خلال تحقيق نتائج عالية. الإطار النظري للتربية هام جدا ولا يزال بدرجة كبيرة من الأهمية في مجتمعاتنا التي لم تزل ترى في التربية مجموعة قيم متوارثة وليس مناهج وتجارب تحتاج إلى مراجعة في ضوء المعارف والظروف المستجدة.

إن الطابع العملي للتربية ينقل للأجيال الجديدة مفاهيم عملية عن الحياة ويدفعهم نحو الإنجاز والابتكار بدلا من السباحة في الخيال والأحلام والأمنيات.

والتوقيف الحاصل في مختلف أبواب القيمة كونها مرتبطة بالمقدس، يجب ألا يحجب عنا أهمية التجريب والاعتماد على القياس والروائز في استطلاع النتائج الفعلية، وبحث مسبباتها وجذورها. لأن المقدس على الأقل في الثقافة الإسلامية ليس طقسيا، بمعنى أنه ليس مجرد طقوس رمزية خالية من المعنى الواضح والدلالات المباشرة، ولا يمكن فصل المقدس إسلاميا عن الغايات والمقاصد،  وإن كان للوسيلة أهميتها إسلاميا، فهي مفتوحة للاجتهاد والبحث عن أفضل سبلها. وهكذا برأي تم حل مشكلة أساسية من مشكلات التربية، وهي العلاقة بين الوسائل والأدوات والمناهج من جهة، والمقاصد والأهداف من جهة ثانية.

وعندما نود أن نكرس الصدق كفضيلة يجب أن نعيد النظر في مجمل العملية، بداية من تأسيس الفضيلة ومعانيها، وبيان قيمتها الحقيقية، وبالمعنى الدنيوي قبل الأخروي، حينها سيكون ترسيخ الصدق عملية أسهل بكثير، فالذهن الذي تتوضح فيه صورة الفضيلة لا يمكنه أن يؤثر في نقل إحدى الفضائل إلى الأجيال القادمة بشكل سليم.

 
السؤال السادس ما هي ملامح الأخلاق التربوية التجديدية  الواجب تعميقها وما هي آلية ذلك بالنسبة لأبناء المسلمين في القرن الحادي والعشرين ؟

 

علينا كمسلمين أن نعيد تأسيس رؤيتنا التربوية، ففهمنا للإسلام أصبح أكثر عمقا وخبرة، فنحن نختلف عمن سبقنا بأننا نستند إلى خبرة أوسع واكثر امتدادا وشمولا، ونحن نعيش ثقافة أكثر تطورا ومعرفة، ولابد من استثمار المنجزات الحديثة سواء أكانت نظريات أو برامج أو أدوات ووسائل في سبيل ترشيد عملنا التربوي، فمثلا العمل على تكريس ثقافة الحوار هو أحد أهم الجهود التجديدية التي يجب أن نقوم بها، وكذلك أمور أخرى تتعلق بطبيعة الإدراك والتأمل والتواصل مع الكون وخالقه وضمن رؤية خاصة بنا تنبع من أسس قرآنية تدبرية أصيلة.

الآلية فيها إشكال تاريخي إذ لا يزال التوجيه التلقيني غالبا على توجهاتنا التربوية، ويبدو لي أن الخروج على التلقينية أهم مأثرة للتربية المعاصرة. وأنا لست ضد التلقين إنما ضد سيطرة التلقين، بمعنى إعادة التلقين إلى غمده كوسيلة من وسائلنا، لا الوسيلة الوحيدة المتبعة.

ثمة ابتكارات حقيقية وفاعلة، وثمة طرق حديثة، ولا أجد غضاضة في استخدام الكثير من الفنون والإبداعات الراقية في سبيل تكريس القيم الدينية الأصيلة.

وعصرنا هذا مليء بتجارب تربوية رائعة في قدرتها على توجيه الأجيال الجديدة و وتعرف ميولها وتنمية مواهبها وصقلها، وهذه التجارب وإن كانت بشكل مؤسساتي، فإن الكثير من وسائلها ممكن حتى داخل الأسرة وعلى مستوى الأفراد.

 

 
السؤال السابع : في جدلية العلاقة بالآخر محكومين تربويا بالتأزم سواء ذلك الآخر من يختلف عنا بيولوجيا أو أيدلوجيا كيف نعمق في أبنائنا مفهوم التعايش مع التغاير والاختلاف

 

نحن في مشكلة تاريخية مع الآخر، وثقافة الإقصاء ليست وليدة اليوم، أنما هي كانت ولا زالت جزءا من منظومة الأفكار المتعاقبة عبر العصور. وثقافة الإقصاء تنمو غالبا في حضن سيء، إنها كخضراء الدمن، تبدو جميلة في نظر متبنيها، ومنبتها بالغ السوء، لا زلنا غير قادرين على تحديد الآخر لأن الآخر غير وارد في قاموسنا، إنه كافر، أو مرتد في أحسن الأحوال. وحتى حين ندعي تقبلنا للآخر سنجد أنه في تعريفنا له لا يعدو أن يكون مطابقا لنا ونحن بالمحصلة نتقبل شيئا طفيفا من الاختلاف كالغلالة. ولطالما سمعت من علماء أجلاء حرصهم على الرأي الآخر، وإذ أسألهم ما الآخر؟ يردون بإجابة تقرن الآخر بالجهل العفوي،  والكافر بالجهل المقصود.

 

وهذا برأي أهم مشكلة في تقبل الآخر، هل تتقبل بالآخر كخطوة نحو تحويله إلى نسخة مطابقة لك، أم أنك تتقبله على أنه يضيء زوايا أخرى لا تظهر لك من موقعك؟ هذا هو السؤال الرئيس!

 

السؤال الثامن كيف ننتقل بأبنائنا من المفارقة المعهودة في حياتنا المعاصرة بين الفكرة المجردة والسلوك المجسد ؟

 

تحولنا بسبب ظروف تاريخية وراهنة، وطريقة تفاعلنا الخاملة مع الطموح الإنساني اللازب في السعي نحو الأفضل، إلى ثقافة جدلية تنشغل بالقضايا نظريا، ولا تبذل جهدا موازيا من الناحية العملية، لا لنقص في التصور إنما لنقص حاد في الفاعلية، فنحن تحولنا كما قال أحدهم إلى ظاهرة صوتية، لو راقبت الساحة العربية الإسلامية لوجدت ساحات معارك دامية الحروف، ولو راقبت الفضائيات لوجدت الحناجر تلعلع أكثر من الفؤوس والمطارق، ومع أن الشعر كان ديوان العرب وكان كلاما جميلا على الأقل، الآن أصبح الصراخ والقدح ديوانا للعرب، لذلك ستبقى الأفكار تسيطر علينا وتأخذ جل اهتمامنا وهي تلفت الأنظار أكثر من العمل وخاصة أمام ذهنية عامة تعيش قيم الانبهار، أما من يعمل بصمت وإخلاص قد تمر عليه دهور ولا أحد يعطيه الحد الأدنى من الاهتمام. هذه قيم حقيقية مهما ادعينا نقيضها، فبالمحصلة لن تؤثر في الواقع إلا القيم التي يعيشها الناس. والقيم الجميلة غير المعاشة ستبقى عبارة عن نظريات على الرفوف للمباهاة.

كان الفارق بين الفكرة والتطبيق يستغرق قرونا قبل آلاف السنين، الآن أصبح الفارق أياما وربما ساعات، فالفاصل بين فكرة الدائرة وبين تحويلها إلى عجلة تسير عليها مركبة استغرق قرونا طويلة، بينما الآن دارات إلكترونية بالغة التعقيد قد لا تأخذ أكثر من ساعات بين طرحها كرأي أو كنظرية، وبين تلمس آثارها أو تطبيقها بشكل عملي.

 


السؤال التاسع ثقافة المناعة لا المنع أعتقد أنك من أنصار هذه التربية ما هي ركائزها وملامحها

لاشك صديقي، ثقافة المنع شئنا أم أبينا سقطت، والآن ونحن نعيش هذا العصر سندفع غاليا ثمن ثقافة المنع باهظا، ونحن دفعنا وندفع الآن، ولكن الاستمرار في هذا التفكير سيكون كارثيا علينا وعلى الأجيال القادمة.

ما التربية أساساً وما دورها ورسالتها الرئيسية، إنها النقيض للكبت والمنع، إنها بمعنى آخر تشكيل المناعة والقدرات الذاتية والتحصين الفردي كمقدمة للتحصين المجتمعي، لنحصن الأجيال الجديدة بثقافة ومفاهيم علمية راسخة قائمة على قيم حقيقية نابعة من صميم اعتقادنا وثقافتنا في حضورها الأبهى، ونكمل مسيرة هذا الحضور، لنتلمس النتائج الحقيقية المدهشة التي توفر علينا إرهاصات ومتاعب المراقبة والحظر، وتؤهل الأجيال الجديدة للقيام بما عجزنا عن تحقيقه من تنمية مطلوبة ومن حضور حضاري حقيقي.

المناعة هدف التربية الرئيس ومنتهى غاياتها، والمنع نقيض التربية وألد أعدائها. وعلينا أن نختار بين أن نربي، وبين أن نضطهد!


السؤال العاشر الطفل الديمقراطي الذي يتحرك إيجابيا في المجتمع ويؤمن بروح الفريق ما هي رؤيتك لبناء طفل مسلم هذه ملامحه

 

هذا سؤال كبير لا يمكن الإلمام به في عجالة حوار، ولكن أعود بداية إلى نقطة سبق أن تحدثت بها، وتتعلق باستحالة أن تقوم ذهنية مستبدة بتعليم الديمقراطية للآخرين، مازلنا مختلفين حول الديمقراطية وتطبيقاتها ناهيك عن معانيها ودلالاتها.

وما زلنا نحاول الانفراد بالسلطات والمآثر والأموال والشهرة وما إلى ذلك، علينا أن نسجل الهدف بينما الجميع يجري وراء الكرة، ولكن نحن فرق فاشلة، ولا يوجد لدينا عمل جماعي ناجح إلا فيما ندر، التعاون كممارسة ليس واردا في قاموسنا اليومي، ولا في مخططاتنا العملية، وكل عمل يراد له التجميد يحال إلى مجموعة أو لجنة، لأن المجموعة أفضل ضمان لقتل أي فكرة أو بتر آفاق أي عمل. ثمة عصر نعيشه، من أهم مآثره المؤسسات، وأهم فكرة تقتل المؤسسات وتحولها إلى حظيرة عقلية الزعامة، لنحرر أنفسنا من هذه العقلية، ونمارس أعمالنا وإبداعاتنا في إطار مؤسسات مخطط لها بشكل جيد، وحينها يمكننا أن نحلم بالإنجازات.

رؤيتي للطفل المسلم ولملامحه تنطلق أساسا من فكرة التهيئة للتفاعل الإيجابي مع الحياة، بمعنى بناء منظومة التفكير ومنهجيته بشكل سليم، وبناء الجسم بنية صحيحة، ثم تركه ليمارس الحياة ويراكم الخبرة ويحقق الأحلام في وسط سليم يقدر الجهود ويحترمها.

إنها أمنية تحتاج منا الكثير لنهيئ أنفسنا للقيام بدور ما قبل التفكير بالأدوار نفسها.