حوار غير صحفي مع الدكتور جابر قميحة

أشرف إبراهيم حجاج

حوار غير صحفي مع الدكتور جابر قميحة

(1) الجزء الأول

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

أجرى الحوار: أشرف إبراهيم حجاج - إعلامي – القاهرة

في هذا الحوار أنطلق بطريقة عفوية ، وقد تعلمت ذلك من الأستاذ الدكتور جابر قميحة ، الذي كان يقول في كثير من محاضراته ــ على سبيل المداعبة : إن الشاعر يقول :   وخير الكلام ما كان لحنا 

وأنا أقول في عيد الأضحى : وخير الأفعال ما كان  "  لحما  "    .

وأقول في أحاديثي العادية ومحاضراتي : وخير الكلام ما كان عفوا :

وها أنذا أبدأ حواري مع أستاذنا المحبوب الدكتور جابر فيما يأتى منطلقا من منطقه هذا دون أن أحمل إليه أسئلة مكتوبة : 

  س ــ دكتور جابر أنت قلت عن نفسك ذات مرة : إنني متكلما أفضل مني كاتبا . فما حظ هذه المقولة من الصحة ؟ أم هي من قبيل التواضع الذي عرف عنكم ؟ أم هي ...

جــ -  على رسلك : فالمسألة  ليس فيها تواضع ، ولكنها تعبيرا دقيق عن واقعي الفني والموضوعي ، وكثيرا ما أملي أبنائي مقالات خاصة بي ، لو خلوت إلى نفسي ما استطعت  كتابتها بهذه الجودة ، وأحيانا يتلبس بذهني فكرة معينة ، وأجد وجداني متدفقا بها ، فأنادي زوجتي أو بنتي الكبرى الدكتورة لمياء وأملي عليها ما يتدفق به هذا الوجدان الذي أصبه في عدد من الأبيات بخط إحداهما ، ومن عجب أن بنتي تعتقد في بعض الأحيان أنني أحفظ هذه الأبيات ، فتقول في شبه اعتراض أما كنت تصبر يا أبي العزيز حتى تكتبها بنفسك ، ولماذا اراك تستعجلنا ؟ فألتزم الصمت ولا أتحدث لها عن مفهوم جبروت التجربة الشعرية . وقد سبق أن قال أمل دنقل مخاطبا الشعر :

واحد من رعاياك يا سيدي

يا أيها الشعر .

لذلك أقول ، وقالوا : إن الشعر الأصيل هو الذي ينظمنا ، وليس ذلك الذي ننظمه .

  س ــ دكتور جابر هل معنى ذلك أن الشعر تمتد قدرته ويمتد جبروته في مكان غير مكتبك ... أو منزلك ... ؟

جــ -  ( وهو يبتسم ) نعم أحيانا وأنا أقود سيارتي ، أقف بها على جانب الطريق لأكتب عدة أبيات يأمرني بها "  سيدي الشعر "  .

س ــ دكتور جابر هل هذا خاص بكم أم هو قاعدة عامة ؟ وهل لها مكان في تاريخ الأدب العربي قديما وحديثا  ؟

جــ -  طبعا أنا قلت لك ـــ يا أستاذ أشرف ــ هذه سمة ثابتة للشعر الأصيل ، لا النظم المصنوع : ويروى أن شوقي كان إذا هبط عليه إلهام الشعر نسي نفسه وأمسك بقلمه وغاب عن الحاضرين بذهنه ، وأخذ يهز رأسه هزات غريبة وهو يسجل ما ألهم به . وإن كان من النقاد من يسمي هذا الإلهام " شيطان الشعر " تقليدا للعرب القدامى الذين كانوا يعتقدون أن لكل شاعر شيطانا يصب الشعر في قلبه وعلى لسانه ، ولو تخلى هذا الشيطان عن صاحبه ما استطاع أن ينظم بيتا واحدا ، وعلى سبيل التمثيل قالوا : إن الشاعر الجاهلي عبيد بن الأبرص كان له شيطان يسمى   " هبيد " ، لذلك قالوا " لولا هبيد ما كان عبيد " . وهناك رسالة جامعية مطبوعة بعنوان " شياطين الشعراء " . 

س ــ معنى هذا أن الإنسان المثقف الذي يتقن العروض وعلوم الشعر يعجز عن قول الشعر ؟

 جــ -  طبعا : فالشعر موهبة وليس اكتسابا ، وقد ترقى الثقافات بمستواه ولكنها لا تصنع شاعرا ، وقد كان الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي استنبط بحورالشعرناظما وليس شاعرا ، فله نظم قليل لا يرقى إلى مستوى الشعر الأصيل .

وبهذه المناسبة أذكر أن عمر بن الخطاب حينما سمع شعر " متمم بن نويرة " في رثاء أخيه مالك أعجب به ، وقال ليتني كنت شاعرا ، فأقول في أخي زيد مثل ما قلت في أخيك مالك .

فعمر ـــ رضي الله عنه ـــ تمنى أن يكون شاعرا ، ولكنه لم يكن موهوبا في مجال الشعر ، وإن كان موهوبا في مجال الدين والفقه والقيادة والإدارة ، فمعروف أنه من الأئمة المجتهدين .      

س ــ بعد إذنك ننتقل إلى ناحية أخرى تتمثل في نفسي على هيئة السؤال التالي : المعروف عن الدكتور جابر أنه تلقى تعليمه في المدارس المدنية : المرحلة الابتدائية ...لمرحلة الثانوية ، ولم يلتحق بالأزهر في أي مرحلة من مراحله ، فما  الذي دفعه إلى الالتحاق بكلية دار العلوم ، وهي كلية الفقه والدين واللغة والشعر والأدب ؟!...

وبتعبير آخر : لا يلتحق بها إلا الأزهريون ؟

جــ -  الحمد لله رب العالمين كنت من صغري " مريضا " بالقراءة ، والتحاقي بجماعة الإخوان من صغري أي من خمسة وستين عاما مضت أفادني كثيرا في السلوكيات ، والتعرف على العلوم الدينية ، والتمكن من الخطابة والكتابة ، وبعد أن رأيت الإمام الشهيد حسن البنا واستمعت له خطيبا على مدى ثلاث ساعات متتالية في مدينة المنزلة ، من قرابة ستين عاما مضت ( كان ذلك سنة 1947 على ما أذكر ) عشت على أمنية الالتحاق بكلية دار العلوم التي تخرج فيها الإمام الشهيد .

فلما فتحت كلية دار العلوم الباب لقبول الطلاب الحاصلين على التوجيهية  ( شهادة إتمام  الثانوية العامة )  بعد السنة الخامسة من المرحلة الثانوية التحقت بكلية دار العلوم بعد أن اجتزت امتحانا رهيبا في الفقه ، والتعبير ، والأدب ، والتاريخ ، وبعد هذا الامتحان التحريري القاسي امتحان  شفوي . وأحمد الله أن اجتزت هذه الامتحانات بتفوق ، وحصلت على مجموع  97 %  ،  وكان ترتيبي هو الأول على الدفعة التى تمثلت في 300 طالب ( من أزهري ومدني ) .    

   س ــ ولكننا نعلم أن لك قصة في الالتحاق بالكلية الحربية بعد حصولك على الشهادة التوجيهية (شهادة إتمام  الثانوية العامة ) .

 يا ليت سيادتكم تحكيها لنا ولو بإيجاز .

جــ - ( بعد فترة صمت وابتسام ) لما قامت الثورة المصرية سنة 1952 اتجه الإخوان إلى توجيه طلابهم ــ أو كثير منهم ــ للالتحاق  بالكليات العسكرية ، فأمرني رئيس منطقة الإخوان بالمنزلة بأن ألتحق بالكلية الحربية ، وما كان لي إلا أن أطيع الأمر فقدمت أوراقي لها وأنا أتمنى أن أرسب في الامتحانات الصعبة التي يجرونها ، لأنني كنت أتمنى من قديم أن ألتحق بكلية دار العلوم ... الكلية التي تخرج فيها الإمام الشهيد حسن البنا ، وحتى يضمن الإخوان إلتحاقي واجتيازي هذه الامتحانات وأصعبها ما يسمى بكشف الهيئة ، سلموني خطاب توصية من الأخ المسلم : البكباشي أبو المكارم عبد الحي ، ويعتبر هو ، وعبد المنعم عبد الرءوف أشجع ضباط الثورة ، وهما اللذان أرغما فاروق على التنازل عن العرش ، بحصار القصر الملكي ، على ما هو معروف في تاريخ الثورة ، وإن حرص أعداء الإخوان على إخفاء هذه الحقيقة .

وللأسف اجتزت امتحانات القبول في الحربية ، ولم يبق إلا كشف الهيئة ... وكان من المتوقع أن أجتازه بنجاح ، إذا قدمت خطاب التوصية الذي كتبه البكباشي أبو المكارم عبد الحي  . ولكنني تغيبت عن هذا الامتحان ، وتقدمت بأوراقي لكلية دار العلوم ، كما ذكرت لك من قبل ، واضطررت إلى إخبار رئيس المنطقة الاستاذ عبد الرحمن جبر بأنني لم أوفق في كشف الهيئة ، وكانت هذه هي " الكذبة الأولى والأخيرة " التي اقترفتها طيلة سنواتي في دعوة الإخوان . وما دفعني إليها إلا حبي للإمام الشهيد ، وحرصي على الالتحاق بالكلية التي تخرج فيها .

والخيرة فيما اختاره الله : فقد تمكن أخ لنا تقدم للالتحاق بكلية الطيران وهو الأخ

" طاهر عباس عنين " ، واجتاز الامتحانات واستقر شهرا أو شهرين في الدراسة ، فلما اكتشف رجال المخابرات أنه من الإخوان تم فصله من الكلية ، واضطر إلى الالتحاق بكلية التجارة على ما أذكر .

س ــ دكتور جابر كثيرا ما قرأنا لك تعبيرا مشهورا هو أن جماعة الإخوان تحولت من " جمعية " إلى " جماعة " ثم إلى " تيار " فماذا تعني بذلك  ؟  

جــ - كان الإخوان في السنوات الأولى من نشأة الدعوة على يد الإمام الشهيد حسن البنا " جمعية " بدأت بستة أشخاص في مدينة الإسماعيلية ، وزاد العدد بحمد الله في حياة الإمام الشهيد ، وارتفع عدد الشُعَب " الجمعيات " إلى العشرات بالوجه البحري والصعيد ، حتى أصبحت الجمعية " جماعة " نمت ، بصرف النظر عن " الشُعَب " ، فكان هناك الإخوان الذين لم يرتبطوا بالجمعيات ، ولهم وجود فاعل في الجامعات والنقابات إلى حد ما ، كان ذلك في السنوات الأخيرة من حياة الإمام الشهيد وبعده بسنوات ، فلما بلغ الاضطهاد المفروض على الإخوان إلى أقصى مداه قتلا ، وسجنا ،  واعتقالا ، وتشريدا ، على يدي عبد الناصر ورجال الانقلاب الذي يسمى ثورة بحكوماته المتتالية هاجر كثير من الإخوان القياديين ، وانطلق كثير من طلابهم وعلمائهم إلى البلاد العربية والإسلامية ، وحملوا تعاليم الدعوة وفكرها إلى هذه الشعوب ، تحولت الجماعة إلى تيار لا يستطيع أحد أن يتحكم فيه ، أو يكبح إنطلاقه ، فلهم وجود في المجالات الاقتصادية ، والاجتماعية ، والتعليمية ، حتى أحصى أحد الخبراء الأجانب عدد الإخوان في هذه القارات بسبعين مليونا . وبذلك تحولت المحن التى أنزلها " الحكام الثوريون " وأنصارهم من العلمانين ، والملاحدة ، أقول كانت هذه المحن نعما ومننا على دعوة الإخوان ، فترجمت رسائل الإمام الشهيد إلى كل لغات العالم ، وكذلك كتب سيد قطب .

وكتب في الفكر الإخواني ، وقادة المسيرة الإخوانية عشرات من الأطروحات الجامعية ، من ماجستير ودكتوراة ، في كل أنحاء العالم . وبذلك أتت هذه المحن بعكس ما أراده الجبابرة  الطغاة ، من فراعين مصر وغيرها . ومن عدة أسابيع كتب صحفي فرنسي شهير مقالا طويلا عن " القوى السياسية المتصارعة في مصر " جاء فيه  :

 " .... إذا نظرت بعين فاحصة إلى الشارع المصري لم تجد فيه إلا الإخوان المسلمين بصفة أساسية ، وأحيانا آخرين يمثلون قوة ضعيفة أو مستضعفه ....."

س ــ دكتور جابر نسيت أن أسألك عن عبارة أنا أتعجب كيف فاتت علي ، ولم أناقش سيادتكم فيها ، وهي قول سيادتكم " ... وأنا بحمد الله من صغري مريض بالقراءة ... " فهل القراءة مرض ؟

جــ - الحقيقة أنا أقصد ملازمتي للقراءة وملازمة القراءة لي ، وقد يكون التعبير غريبا ، وربما تأثرت فيه بتعبير لطه حسين إذ أرسل إلى أحد أصدقائه ، يعبر عن مشاعر الإخلاص والحب المتبادلة بينهما يقول " ولتعلم ياأخي الحبيب أنني مريض بك ، كما أنك مريض بي ... "،قرأت له هذه العبارة في كتاب له بعنوان " مرآة الضمير الحديث "

فهو تعبير مجازي . وأكاد أقول أنه تعبير حقيقي لأن طريقتي في القراءة أستطيع أن اسميها " طريقة التحدي " بمعنى أنني أحكم على نفسي بأن أقرأ هذا الكتاب الذي يقول عنه الناس  "  إنه صعب " ، لذلك تعجب أنني في قراء تي الباكرة بدأت بالعقاد ، لأنني سمعت كثيرا من الناس يقولون : إن العقاد معقد وصعب . فقرأت العبقريات كلها وأنا في السنة النهائية من المرحلة الأبتدائية ، وحصلت على درجة الدكتوراة برسالة عنوانها   " منهج العقاد في التراجم الأدبية " .

ولكن الكتاب الذي جلب لي المرض الحقيقي هو كتاب الدكتور اسماعيل مظهر وعنوانه  ( ملقى السبيل في نظرية النشوء والارتقاء ) وهو مجلد يزيد على 800 صفحة والحقيقة أنه كان صعبا جدا في أفكاره وأسلوبه ، وانتهيت منه في يومين ، متحملا كد الذهن ، واحتراق الأعصاب ، وانتهيت من الكتاب وانا مريض " بالتيفود "

واستغرق العلاج قرابة عشرين يوما والحمد لله على كل حال ، وكان ذلك وأنا طالب في الصف الأول من المرحلة الثانوية . فهذه الواقعة تجعلني أكاد أقول إن قولي "  أنا مريض بالقراءة  "  تعبير حقيقي لا مجازي  .

س ــ دكتور جابر أكاد أرى الإجهاد قد ظهر عليك وأنا أعلم أنك كثير المشاغل ، وقلمك أحق مني بالرعاية والاهتمام ، ومازال عندي في الجعبة أسئلة كثيرة ، وأتمنى أن تتكرم علي بإجابتها في حوار أخر . وأشكرك بنفسي وعن أصحابي وعن قرائك ، ومريديك ، وهم كثيرون على مستوى العالم العربي والإسلامي . واكرر شكري ، وأدعو لكم بالشفاء التام وطول العمر .

دكتور جابر : وأنا أشكرك كابن ناهض لامع من أبنائنا العاملين في مجال الإعلام . بارك الله فيك وبارك لك . والحمد لله رب العالمين .