كِيمياءُ الحَضارةِ

د. حامد بن أحمد الرفاعي

جرى حوار بيني وبين المفكر الكبير المهندس الميكانيكي مالك بن نبي - يرحمه الله تعالى - حول مفهوم الحضارة عقب محاضرة ألقاها من على مدرج جامعة الملك عبد العزيز بجدة عام 1971م.وجاء في محاضرته:" أنَّ الحضارةَ نتاجُ تفاعل الإنسان مع التراب.. وأنَّ الحضارات سواء لا اختلاف بينها". وكان بذلك يرد على المفكر الكبير سيد قطب - يرحمه الله تعالى- الذي كان يُصّر على القول :"أنَّ الإسلامَ هو الحضارة ولا حضارة مع غير الإسلام". وليدلل مالك بن نبي على تساوي الحضارات ضرب مثلاً بمعادلة كيميائيَّة: (هيدروجين + أكسجين+ شرارة = ماء) ثم قال: "أنَّ المعادلة الحضارية شبيهة بهذه المعادلة وهي:(تـــراب + إنـسان + الزمن= حضارة).وعلَّق قائلاً: "وحيث أن المعادلة الأولى تنتج ماء الحياة وهو واحد.. فإنَّ المعادلة الثانية تنتج الحضارة وهي واحدة فالحضارات سواء". وبحكم تخصصي الكيميائي وجدت أنَّ مثل هذا التبسيط (تراب + إنسان + زمن = حضارة) مُخلٌ للغاية.. فالعمليَّة أكثر تعقيداً من ذلك.. وفي نهاية المحاضرة قلت له: إنَّ المعادلة الكيميائيَّة التي ذكرتها هي حالة واحدة من حالات التفاعل بين الهيدروجين والأكسجين ووفق شروط محددة.. فإنْ تغيرت الشروط وتغيرت نظائر الهيدرجين والأوكسجين فإن نتائج التفاعل ستتغير إلى أنواع أخرى من الماء مثل:(الماء الأوكسجيني ، و الماء الثقيل)،وبالمقابل فإن معادلة تفاعل الإنسان مع المادة تعطي نتائج متنوعة تبعاً لتنوع سلوك الإنسان وثقافاته وكفاءاته ومهاراته (الإنسان + المادة + منهج ما = تنوعاً حضارياً)، وأنا أؤيدك بأنَّ كلَّ تفاعل بشري مع المادة ينتج أثراً حضارياً.. وأنا لست مع سيد قطب - رحمه الله تعالى - وهو يقول:(لا حضارة إلا مع الإسلام) ولست معكم وأنت تقول:(أنَّ الحضارات سواء).فأنا مع التنوع والتعدد الحضاري.. فثار وغضب وضرب بيده سطح المكتب قائلاً:(هذه فلسفة لا معنى لها فالحضارات سواء لا فرق بينها). فقلت: الحضارة بكل تأكيد ثمرة كُلِّ جَهْدٍ يُبذلُ لعمارة الأرض وإقامة الحياة وفق ثقافة ما.. وحيث أنَّ الثقافات ليست سواء فالحضارات ليست سواء.. وبعد أعوام قرأت لمالك بن نبي - يرحمه الله تعالى - كتاباً يتحدث به عن تنوع الحضارات.

وسوم: العدد 815