هل تعلمنا وعلمنا الناس الإسلام الخطأ؟ (2)

لا يخفي على أحد أن هناك فارقا بين المعرفة والتعلم والتربية. فالمعرفة أن تكون عندك المعلومة أو الجزئيات، مثلا الكذب خطأ وحرام، والعلم أن تعلم حقيقة الكذب وسبب كونه خطأ ودوافع وتوابع الكذب، وكيف تتحري الصدق (الكليات). ولذلك وصف الله نفسه بالعلم لا بالمعرفة. والتربية أن تنشأ وتربى على عدم الكذب، بل وتحاسب إذا قمت بذلك. المعرفة والعلم يمكن للشخص أن يحصلها وحده، لكن التربية مسؤولية جماعية مجتمعية يتشارك فيها كل الناس.

إشكالية القيم أنها أشياء تحتاج إلى العلم والتربية، بل حتى إلى سن القوانين التي تضمن تحقيقها.

حين بدأت أول يوم عمل لي في بريطانيا، طلبت من الممرضة أن تنادي على المريض للحضور إلى غرفتي لتوقيع الكشف عليه، فوقفت مكانها ولم تتحرك، ونظرت إليّ نظرة عدم الرضى، وقالت لي: قل لي لو سمحتِ. قلت لها: لماذا أقول لو سمحتِ؟ هذه وظيفتك، وأنا أطلب منك أداء وظيفتك، وليس تفضلا منكِ. قالت: أنت في إنجلترا، وهذا هو البروتوكول هنا. ثم خرجت وجمعت كل ممرضات العيادة وقالت لهن: لدينا واجب أن نعلم الدكتور الديب أن يقول لو سمحت. فكن كلما قابلنني، حتى في طرقات المشفى، يضحكن ويقلن: لو سمحت، لو سمحت. بعد عدة أيام، ذهبت لمحطة القطار، وقلت للموظفة تذكرة عودة إلى لندن، فتعصبت وقالت: لي قل لو سمحتي. أكثر من هذا ،لو أنني أخطأت خطأ مهنيا فيجب عليّ أن أعترف بصراحة، وأن أخبر المريض. والقانون يسمح بدرجة من الحماية والتفهم لكثير من الأخطاء، لكن لو كذبت لتبرر موقفك فالعقاب سيكون شديدا جدا. الشاهد أن هناك منظومة مجتمعية تؤصل القيم وتتبناها وتحافظ عليها.

في مجتمعاتنا للأسف قد يتحفك الخطيب بموعظة بليغة عن الأمانة، فإذا شاركته في عمل خانك، وتذهب للطبيب في عيادته الخاصة فيحتفي بك كأنك من بعض أهله، وإذا رآك في المشفى الحكومي ما لقيت معشار ما لقيته في عيادته، بل إنه لا يتورع عن أداء جراحة أو وصف دواء لحالة غير ماهر بها ليقتنص مالك.

نحن لا نعيش تحت الاحتلال وضابط الشرطة أو الجيش أو القاضي - هو من أهلنا - ونحن من نحوله إلى بلطجي بطلب استخدام سلطاته لقضاء مصالح شخصية لنا على حساب الآخرين، أو أخذ حق ليس لنا أو حتى أخذ حق لنا قبل موعده. هذا هو عين الفساد الذي نحن جميعا نزرعه كل يوم، وتجني مرارة حصاده أجيال كاملة.

وإذا كان سن القوانين وتطبيقها مهمة منوطة بالسلطة الحاكمة، فإن السلطة وأذرعها تتشكل من إخواننا وأبناء عمومتنا وجيراننا. وللأسف الشديد، لا توجد وصفة سريعة لإصلاح حال أوطاننا، وعلينا العمل من اليوم لغرس القيم في الجيل الناشئ وتربيته عليها ليكون لنا مستقبل بعد ثلاثين أو أربعين عاما، وإلا سنظل في هذا التيه.

لقد كان متعمدا تغذية الانقسام في أوطاننا إلى مسلم وغير مسلم، ثم إلى ذي توجه علماني وتوجه إسلامي، ثم إلى سلفي وإخواني وجهادي وصوفي و..

آن الأوان أن نتفق على منظومة قيم تجتمع عليها الشعوب ونعمل جميعا على إنفاذها، وسنعطي نموذجا لتلك القيم في المقال القادم بإذن الله.

وسوم: العدد 793