عندما تنتقم القياداتُ العبقرية من جماعاتِها ومشاريعها!

▪لا شكّ أن الله قد وزّع المواهب بين خلقه بمشيئته الابتلائية المطلقة، بما يُحقق الامتحان الإلهي في حالتي المَنْح والمَنع، وبحيث يظل النقص البشري قائماً حتى تبقى دواعي التكامل بين بني آدم دائماً حاضرة، ذلك أن الإنسان يلبس لبوس الطغيان إن شعر بالاستغناء وعدم الحاجة إلى أحد من الناس، ولا ريب أن هناك من منحهم الله الكثير من الصفات الجاذبة للعقول والقلوب، وأعطاهم العديد من المواهب التي تُمكِّنهم من قيادة الجماهير الغفيرة بكل سلاسة واقتدار، ومن المؤكَّد أن هذه الشخصيات نادرة الظهور وتُمثل ثروة لا تُقدَّر بثمن للمجتمعات التي تعيش بين أظهرها، فهي تستطيع عمل ما لا يفعله الآلاف من الناس العاديين، وتستطيع في زمن وجيز أن تُحقق لشعوبها الكثير من المنجزات!

▪ومثلما أن لكل نعمة ضريبة ولكل عطية ثمناً، فإن الشخصية(الكارزمية) إن ظهرت على شكل طفرة في مجتمع يعاني من تَسيُّد تيارات التخلف الماحق وكثافة أطباق الأمّية الفكرية؛ فإن المجتمع بلا شك سيدفع ضريبة باهضة الثمن، إن لم يقم هذا القائد بتحويل طفرته التقدمية إلى نهوض حضاري شامل يتكئ على ثورة ثقافية عميقة، ويقوم على انتفاضة واعية ضد ركام الجهل وازْوِرار الفكر، حيث ستصبح لهذه الشخصية ارتدادات كثيرة وخطيرة على المجتمع ولا سيما بعد موتها!

▪ولقد أثبتت وقائع التأريخ القريب والبعيد أن الشخصيات العبقرية تنتقم بدون قصد من الحركات والمؤسسات والمشاريع التي أسّستها، وذلك حينما يسود الجمود وتستحكم التقليدية على عقول وقلوب الناس، حيث أن المهارات الفكرية والحركية لتلك القيادة تُمكّنها من حَفْر بَصْمتها في بنيان مؤسساتها ومشاريعها، وتؤهلها لاحتلال موقع ممتاز في وجدان أتباعها؛ وهذا يضعف تلك الحركات من زاوية أنها تتكئ على تلك القيادة وتتكل على قدراتها بالكلية، ومن ثم فإنها تتوقف عن النمو الطبيعي وعن إفراز القيادات في مختلف النواحي، وتكف عن ممارسة الشورى، ولا تهتم بتفعيل دور المجتمع وتطوير الوعي الجَمْعي، إذ أن الاعتقاد بوجود القائد السوبرمان يعطي الناس شعورا بالأمان وإحساساً بأن الدنيا في خير وأن كل شيئ على ما يرام، مما يُلغي القلق المعرفي البنّاء ويمنع أي جديد عن الظهور، لتزداد تلك القيادة تضخماً مقابل تقزّم الجميع، ولتتسع آفة الشخصانية حتى تكتسح الأنفس وتتوزّع في الآفاق، مما يوجِد بيئة خصبة لاستزراع الطغيان وولادة الفرعون الذي يحرك الجماهير بضغطة زر من (الريموت كنترول) الذي يمسك به في يده التي لا منتهى لطولها!

▪إن تضخم القيادة يغطي مساحات واسعة في ميادين الحياة، سواء كان ذلك على مستوى الأنظمة والمنظمات أو الحركات والمؤسسات، فالقائد هو المفكر والمُنظّر، وهو المخطِّط وراسم السياسات، وهو المربي والموجه، وهو المنفذ والمتابع، وهو الذي يثيب ويعاقب ويمنح ويمنع، وهو قطب الرحى في سائر الحقول كالسياسة والاقتصاد والثقافة والاجتماع، وهو القائد الذي لا يُشقّ له غبار في ميادين الفنون والعلوم والآداب، وبعد ذلك فإنه يصير وحيد القرن وأعجوبة الدهر، والحكيم العبقري الذي عقمت النساء عن أن يَلدن مثله، ويصبح مثَلُه كمثَل شجرة ضخمة ذات جذع عريض وفروع كبيرة، ما تزال تتوسّع حتى لا تسمح للأشجار الأخرى بالنمو إلا على شكل نباتات صغيرة تعيش في ظلها، وما دامت الحالة هذه فكيف ستنمو القيادات الجديدة؟! ومن أين ستأتي القيادات الخبيرة؟!

▪وبسبب ضخامة القيادة العبقرية بما امتلكته من إمكانيات حقيقية وبما أهال عليها الناس من قدرات تخيلية، وبما نسب إليها المنافقون المتزلفون من مواهب خيالية وقدرات خارقة؛ فإن القائد عندما يموت تقع حكومته أو حركته أو مؤسسته في مأزق كبير، حيث لن يوجد حتماً من يملأ الفراغ الكبير، مما يجعلها عرضة للانقسام والتراجع، وهذا ما أشار إليه عمر بن الخطاب بنظرته الثاقبة وعبقريته الفذّة عندما قال: (لقد أتعبتَ من جاء بعدك يا أبا بكر)، وإذا كانت عبقرية عمر وقدراته الاستثنائية لم تسمح لهذه المشكلة بالظهور في عصره بجانب الوعي الرفيع للمجتمع الراشد، فإن هذه المشكلة قد ظهرت في ما بعد عندما تولى عثمان بن عفان الخلافة بعد عمر، حيث ظل الناس يقارنونه بعمر سواء في الثوابت أو في المتغيرات، وبالطبع فإن المقارنة لم تكن لصالحه، مما أوجد بيئة خصبة لدعاة الفتنة الذين استغلوا هذا الأمر للتحريض ضد عثمان، ولاسيما أن متوسط الوعي كان قد تراجع بعد استشهاد وموت الآلاف من الصحابة ودخول مئات الآلاف من الأعاجم في الإسلام بأفهامهم المتواضعة وبما طحمل بعضهم معه من شوائب ثقافاتهم ولاسيما الفُرس!

▪وحتى لو كان هناك من يملك القدرات والمَلَكات القيادية الوهبية، فإن الظروف المشار إليها سابقاً لن تسمح لمواهبه بالظهور أمام الناس، بجانب أن عاطفية العامة وعقدة الإلفة للقيادة الفذّة التي خبروها؛ تدفعهم دائماً للمقارنة فلا يجدون الخالف صورةً من السالف، مما يوجِد مجالاً واسعاً للفتنة، كما حدث في هذا الزمان لحركة الإخوان المسلمين بعد استشهاد مؤسسها حسن البنا، ذلك الرجل الذي اجتمعت فيه من المواهب والقدرات ما لا تجتمع في رجل واحد إلا في حالات نادرة، فقد احتل البنا مقامات التنظير والتخطيط والتربية والتوجيه، واجتمعت في يديه مقاليد القيادة كلها، وكان بما حباه الله من مواهب أهلاً لتلك الثقة المطلقة التي أولتها إياه حركته، حيث تسبّب في نهوض حركة الإخوان خلال زمن قصير رغم شمولية فكرهم واستيعاب دعوتهم لكافة مجالات الحياة، حتى كانت قاب قوسين أو أدنى من إصلاح المجتمع وإحداث النهوض الحضاري المنشود، لكن مزايا البنا استحالت إلى رزايا بعد موته، وتحوّلت تلك القوة إلى ضعف، حيث ظلت الحركة قرابة العامين في فراغ قيادي، إذ انقسمت إلى ثلاثة تيارات ولكل تيار مرشحه لمنصب المرشد العام، ولم يرضَ كل تيار بمرشح التيار الآخر؛ لأنه عندما يقارنه بحسن البنا يجد البون شاسعاً، ورغم أن الحركة قد تواطأت فيما بعد على اختيار حسن الهضيبي مرشدا بدلاً عنه، إلا أن العقدة ظلت قائمة وتسببّت في تمرد كثير من القيادات على الهضيبي، ومنها الشيخ محمد الغزالي والشيخ سيد سابق وعبدالمعز عبد الستار والبهي الخولي وصالح عشماوي الذين كانوا أعضاء في مكتب الإرشاد وهو أعلى هيئة قيادية في الحركة، واضطر الهضيبي إلى فصل هؤلاء، وبسبب ذات العقدة وأسباب أخرى فقد تمرّد بعض الذين اختارهم الهضيبي بنفسه لمناصب قيادية رفيعة في الحركة وعلى رأسهم عبدالقادر عودة الذي كان وكيل الحركة أيام الهضيبي!

▪ وهناك معضلة أكبر تظهر بعد موت القادة العباقرة في زمن التخلف وضحالة الوعي العام، وهي الوقوع في آفة التقليد والجمود، إذ يتقدم الزمن كما هي طبيعته وتبقى الحركات جامدة على التراث العلمي والحركي للمؤسسين، وقد وصل الحال ببعض هؤلاء إلى حدّ مصادمة النواميس الثابتة وتفويت مصالح عظيمة، في سبيل الإبقاء على جذوة التقليد للقائد الملهم، وكمثال صارخ في هذا السياق، هل تُصدّقون أن تياراً من أتباع بديع الزمان النورسي الذي توفي في تركيا سنة 1960 ما زالوا إلى اليوم يَخُطّون بأيديهم مؤلفات شيخهم التي سماها (رسائل النور)، رافضين طباعتها بوسائل الطباعة المتطورة، مع أن النورسي إنما لجأ لذلك الخيار المُتعِب مكرَهاً، وذلك يومَ أن كانت طباعة (الرسائل) جريمة يعاقب عليها القانون العلماني بعقوبات جائرة قد تصل إلى حد الإعدام؟!

لقد تحوَّلت الضرورة إلى أصل مُتَّبَع عند من توقَّف الزمن بهم في محراب قياداتهم العبقرية ذات الهالة (الكاريزمية) الجاذبة!

▪وهكذا نجد عند كل حركة وجماعة صورة من صور العكوف على اجتهادات ورؤى المؤسس، فجماعة التبليغ ما زالت جامدة على اجتهادات مؤسسها الأول قبل أكثر من قرن من الزمان، وقبل ذلك ما زالت الحركة الوهابية عاكفة على كتب مؤسسها بعد مضي حوالي ثلاثة قرون، وكأن الباطل لا يأتيها من بين يديها ولا من خلفها، والغريب أن بعض الحركات الإسلامية المعروفة بالمرونة والتجديد، ما تزال تَعُضّ بالنواجذ على بعض آراء مؤسسيها كأنها صالحة لكل زمان ومكان، مثل حركة الإخوان المسلمين التي ما يزال قليل من أتباعها يُصرّون على تطبيق أقوال البنا بحذافيرها، كالقول بعدم صلاحية الديمقراطية في مصر!

وسوم: العدد 793