أنا وكشك والشيخ والجون، ذكرى قديمة

فنفيت أن يكون بها ما ذكر؛ فحملته على أن يشتد في حواري في هذا الشأن، فكان أن أدخلتهم ميدان بحثي هذا "الجزالة والركاكة: دراسة نحوية مقارنة"!

قال الدكتور خليل: إنما الجزالة عندهم في اللفظ لا الكلام.

فنفيت هذا.

وقال الدكتور محمد صالح الجون –وهو جزائري متخرج أول الستينيات في دار العلوم- بعد حين: الجزالة عندهم في اللفظ المفرد، وهذا فيه نظر؛ إذ يتعلق بالسياق الاجتماعي الذي يوضع فيه؛ فما يكون جزلا في حين يكون قبيحا في آخر. أما جزالة الكلام فنسأل أهي نتيجة جمع اللفظ الجزل إلى مثله؟

وقال الدكتور أحمد كشك: إن هناك علاقة مؤثرة في حكمك بالجزالة، تكون بين الألفاظ المقبولة في الموضع الجزل بعضها وبعض، ينبغي أن تراعيها.

فقلت بعد حين: هذا صحيح وصعب.

فقال: لا حيلة لك إلا اختيار مواضع للبحث. وقال: لا ريب في أن البحث في النظم.

فقلت: أجل.

فقال: إذن حكمك هنا ذوقي لا معياري، أي لن تحكم على فلان بالخطأ وفلان بالصواب.

قلت: أجل.

فقال: كل أولئك الكتاب مقبولون إذن، ولا شيء إلا أنك تفضل أحدهم دون الآخر، وربما عكست أنا ذلك!

فقلت: إن لم يكن تخطيء وتصويب فثَمّ حكم على أسلوب بالقوة وعلى آخر بالضعف.

وكان الدكتور خليل سألني: ما الجزالة في لفظة واحدة؟

فقت: الإحكام.

فقال: ألفاظ الجزالة والركاكة والقوة والضعف، عائمة غير علمية.

فقلت: نستطيع أن نضبطها.

فقال: لا نستطيع، نحن نريد شيئا يحسمه الحاسوب، رغم أن لبعض النقاد طريقة ذوقية لا يضبطها الحاسوب.

فقلت: وهم يتعصبون لها ويدافعون عنها.

فقال: نعم، ولكن المناسب العلمي غيرها.

فقلت في خلال الحوار: أنا أقرأ الكلام العربي ليلا ونهارا، وقد حصلت لي به خبرة تمكنني من تمييز جزله من ركيكه.

فقال الدكتور خليل: ألا ترى هذه الذي ذكرت ذوقا لا علما؟

فقلت: لقد صنع أستاذنا وصديقنا الدكتور سعد مصلوح دراسة أثبت فيها بإحصاء الكمبيوتر أن أحكام الخبراء الذوقية صحيحة صحة نسبية أغلبية.

وكان الدكتور خليل قد أنكر عليّ أن أحصر اللغة فيما كان لها من ألفاظ هي التي وصفت بالجزالة، واحتج بأن ألفاظ الجاحظ الذي لم أنكر سموّ بيانه، في الحيوان غيرها في البيان، وأن أسلوب طه حسين الذي يتمدح به الأدباء مختلف جدا عن أسلوب الرافعي الذي حافظ على الطريقة القديمة، وكنت قد بينت أنني أبحث جزالة التركيب لا اللفظ، فأبين كيف يسبك الكلام مرتبطا متآخذا كما يقولون يشد بعضه بعضا بحيث لا تستطيع أن تحذف منه شيئا أو تقدمه على شيء، لا كأسلوب درويش والقاسم في الرسائل، وكان قد أنكر أن أستطيع أن أمسك على درويش شيئا من ذلك، وتحداني.

ثم قلت لهم: لن أترك كلامي في الفراغ، بل أطبقه على نصين كبيرين أحدهما للعقاد والآخر لأنيس منصور.

فعجب الدكتور خليل من جمعي هذا المسكين بذاك الجبل؛ فبينت لهم كثيرا أن هناك جوامع بينهما على أية حال، ثم إن الضد لا يظهره ناصعا إلا الضد.

فقالوا: تدخل إلى البحث بحكمك إذن!

فقلت: ألا يجوز بل ينبغي للباحث أن يعتمد على خبرته ويُحكّمها في اختيار بحثه وميدانه؟

وسوم: العدد 810