(خَلَقَ الإِنسَانَ .. عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)

تقول هذا مجاج النحل تمدحه    وإن ذممت تقلْ قيء الزنابير

البيت لابن الرومي في تصوير قدرة الإنسان على البيان في التعبير عن الشيء الواحد. بتعابير مختلفة .عمر بن أبي ربيعة سما ريق المحبوبة " مجاجة المسك " بقوله :

سلبتني مجاجة المسك عقلي .. فسلوها بم تحل اغتصابي ؟!

مجاجة المسك يسميها شعراء آخرون الرُّضاب .ومنه قولهم :

أطفئ لظى القلب ... بشهد الرضاب

والرضاب في اللغة هو الريق . واختص بريق المحبوبة . ومن دعاء العامة  : اللهم حلِّ ريقنا أي اجعل كلاما حلوا حسن الوقع في العقول والقلوب  . ومن أسماء الريق في اللغة : اللعاب ، ومن أسماء اللعاب " البصاق " ويجوز لغة أن تقول البصاق والبساق والبزاق .

فتأمل الآن كيف يتلاعب الإنسان بالتعبير عن الحقيقة الواحدة وكم هي المسافة بين قولنا مجاجة المحبوب أو رضابه أو بين قولنا بصاقه وبزاقه ..

أرجو أن لا يستشعر أحد الغثيان ..

كل الموجودات والحقائق والأفكار يمكن أن تتناول بالمدح والذم  فلا يطربك مدح مادح ولا يزعجك قدح قادح وإن كانت النفوس ترتاح إلى المدح وتأنس به وتنفر من أخيه وتترصد بالريبة مطلقيه . 

قال العربي في النخلة مدحا : حلوة المجتنى ، وقال ذما صعبة المرتقى . وقالوا في الكأس مدحا : تريك القذى ولا تقبل الأذى ، وقالوا فيهاذما : سريع كسرها بطيء جبرها ..

وشاعرنا ابن الرومي كان مولعا باقتناص المعايب للرموز الجمالية حتى قال أبياتا في هجاء البدر منها :

قال يا بدر أنت تغدر بالسا    ري وتغري بزورة الحسناء

يعتريك المحاق كل شـهر    فتُرى كالقلامـة الحجنـاء

وحتى كتاب الله تبارك وتعالى لم يسلم من ألسن من في قلبه زيغ فرد الله عليهم بقوله (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ).

فقد كان الذين في قلوبهم زيغ مولعون بضرب الآيات المتشابهة ببعضها . (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ).

ويتأسس موقف الإنسان من الأشياء والحقائق والمفاهيم عللى خلفيات متعددة منها ديني ومنها فكري ومنها ثقافي ومنها مجتمعي ومنها شخصي ظرفي..

فمجرد أن يقال لإنسان ما هذه قصيدة لفلان  كائنا من كان هذا الفلان يشعر بما نسميه بالعامية القجة . وكأنه أمام غصص شحرة الزقوم . فيرد عليك : خرّق .. خرّق ماذا بالشعر ولا ذا بالقول الذي يستجاد ، ولا بالرأي الذي يرى ..

وبعض الناس يظنون أن النقد الحقيقي هو في اقتناص العيوب والأخطاء والمثالب . وهذه  مدرسة قديمة في النقد وكثير ما تعلق هؤلاء بكبار الشعراء يتتبعون عثراتهم وعيوبهم ويتمحلونها أحيانا وكم رد عليهم أبو الطيب المتنبي

وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم

وفي قوله :

ومن يك ذا فم مر مريض يجد ... مرا به الماء الزلالا

. يشيع هذا المنهج النقدي السلبي في الأزمات أكثر حيث يظن الفرد أن دوره دور المتسوق الذي سيعيب كل ما يعرض عليه لإظهار نوع من الفنتازيا !!

مع أن تربية الإحساس بالجمال لدى الفرد هو مطلب أساس في التربية السوية للإنسان. ونادرا ما رأيت من عبر عن هذا المطلب ، أن تقف بولدك أمام صورة القمر الساجي، والجبل الشاهق ، والمعنى الرائق ، والفكرة المحكمة ، واللفتة الملهمة وتقول له : تأمل.. وأجمل ما تكون تأمل هذه عندما تكون الوقفة أمام كتاب الله المتلو أو أمام آيات الله في الأنفس والآفاق . أقول كلما وجدت في المناهج التربوية المعتمدة من يعلم التذوق فنا وليس تلقينا ؛ غير أني وجدت إشارة إلى هذا المنهج  بسطر ونصف في رسائل الإمام الشهيد حسن البنا ، نسيت الآن أين موقعها ، فأنا أكتب على السجية . ليست البراعة أن ترى الخرق أو الرقعة أو الخلل وإنما التمكن أن تمتلك القدرة على إدراك مواطن القدرة ومجالي الحكمة وبهاء الصنعة وجمال الإبداع  ...

معنى مهم إضافي أريد أن أعبر عنه هنا :

إن العرب الذين تذوقوا جمال آيات القرآن ووعوا آفاقها هم الذين أسلموا . أما الذين ظلوا يتحدثون عن شاعر وساحر وأساطير الأولين وإنما يعلمه بشر فهم الذين سيطر الزيغ على قلوبهم فهلكوا . ..

إذن هناك قوم لديهم موقف شخصي مدغم هم لا يعرفون كيف يتأسس يصعب تفسيره حتى على أصحابه  فيقبلون ويرفضون على خلفيته .

وهناك أشخاص دأبهم الثلب والقدح والانتقاص وقد بلغ الأمر بالحطيئة بعد أن هجا زوجته ودعاها بلكاع . وهجا أمه فشبهها بالغربال وبالموقد الذي يطير الشرر ، أن هجا نفسه فقال :

أرى لي وجها قبّح الله خلقه ... وقبح من وجه وقبح حامله

وهذه، حالة مرضية أكثر شيوعا وتسود في المجتمعات في ظروفها الصعبة وغالبا ما يغذي هذه الحالة شعور حاد بالنقص يحول بين الإنسان وبين الاعتراف بأي سبق أو فضل للآخرين .. وإن تعجب فعجب قولهم في ذم الكمال والجمال والبهاء والحكمة والصواب..

والحالة الأخيرة في التأسيس لحالة النقد السلبي هي الظرف الوقتي الذي يكون فيه الإنسان . فنحن في اشخاصنا أحيانا نطرب للكلمة والمتكلم والمعنى والمغنى وننفعل انفعالا إضافيا يتجاوز المعتاد من الأمر أحيانا تبكي وتنشج أمام ترتيل مرتل أو دعوة داع أو نشيد منشد وأحيانا تجد حديدك باردا لا يلين ، وعينك جامدة لا تفيض ، وجلدك قاس لا يقشعر ..

في مثل هذه الحالة المتقلبة للنفس البشرية العصية على التفسير تصدر الأحكام عن الإنسان متأثرة بالمزاج حتى قالوا لا يقضي القاضي وهو جائع ولا هو عطشان ولا هو غضبان ولا هو حاقن ولا هو على عجلة من أمره ...

وحاصل الأمر في هذا الذي نحن فيه إن النقد حكم أشبه بالقضاء كما تقول العرب : اختيار المرء قطعة من عقله فالمرء عندما يشهد فإنما يشهد على عقله أو على نفسه !!

ومن عرض بضاعته على الناس عليه أن يتسع صدره لأحكامهم . ورضاب من تحب هو ما قلت لك عند الآخرين . وكانت أمنا عائشة تشرب من الإناء من حيث شرب سيدنا رسول الله وكان يبادلها ذلك . وكانت إذا أرادت أن تقسم قالت : لا ورب محمد فإذا كانت واجدة أقسمت : لا ورب إبراهيم ..

أحب أن يكون في منهاجنا التربوية تأسيسا لإدراك مجالي الجمال في الأنفس والآفاق..

ومن أضر الضرورات إدراك الخلل لاستدراكه . وملاحظة الثغرة لسدها . واختلاف الأسماء لا يغير حقائق المسميات لا من الجواهر ولا من المفاهيم والأفكار وفي هذا يقول الحلي :

أتراني إذا قلت للحِب يا عِلقُ .. درى أنه الحبيب النفيس

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 825